مرّ 34 عامًا -عندما زار إنديرا غاندي البلاد في عام 1981- على زيارة رئيس الحكومة الهندية الإمارات العربية المتّحدة وهذا التجاهل الظاهر مثير للدهشة إذا ما نظرنا في بعض الأرقام: تقدّم مملكات النفط في مجلس التعاون الخليجي نحو 45% من البترول المستورد من قبل الهند، ويصل عدد المهاجرين الهنود في شبه الجزيرة العربية إلى نحو 7 ملايين شخص، من بينهم 2.6 مليون في الإمارات العربية المتّحدة. وتوفّر التحويلات المالية الّتي يجريها المقيمون في الخليج إلى الهند 6 مليارات دولار سنويًا.
وجب الانتظار لأكثر من عام منذ وصول نارندرا مودي إلى الحكم في مايو 2014 ليقوم بأول زيارته للشرق الأوسط؛ إذ كرّس السنة الأولى لتعزيز موقعه في محيطه القريب (شبه القارّة والمحيط الهندي) وعلاقاته مع الشرق الأقصى وأوروبا والولايات المتّحدة.
ولكن، يظهر جدول النصف الثاني من عام 2015 أنّ الشرق الأوسط يحتلّ مكانة جيّدة في الأجندة الدبلوماسية للحكومة الهندية؛ إذ زار وزير الشؤون الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف نيودلهي يومي 13 و14 أغسطس؛ حيث انتظرت الهند بفارغ الصبر، شأنها شأن الكثيرين، التوصّل إلى اتّفاق حول الملف النووي من شأنه أن ينصّ على رفض جميع العقوبات المفروضة على إيران، الّتي تمثّل على السواء سوقًا محتملة للاقتصاد الهندي ومزوّدًا بالطاقة (النفط والغاز).
التقارب مع “إسرائيل”
ولكن الزيارة الأكثر دلالة سيجريها نارندرا مودي في أواخر هذا العام إلى “إسرائيل”: هذه المرّة الأولى الّتي يزور فيها رئيس وزراء هندي الدولة العبرية، في حين أنّ أريل شارون -رئيس الوزراء آنذاك- قد زار الهند في سبتمبر 2003؛ إذ يرى حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم في الهند الكثير من التشابه مع “إسرائيل”. ولكنّ العلاقات الهندية الإسرائيلية معقّدة؛ إذ صوّتت الهند ضدّ تقسيم فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتّحدة في عام 1947، ولئن اعترفت بـ”إسرائيل” بحكم القانون في عام 1950؛ فإنّ هذا الاعتراف لم يؤد لتبادل بعثات دبلوماسية إلّا في عام 1992؛ إذ تفرض تقاليد جواهر لال نهرو -حزب الكونغرس الحاكم بشكل مستمرّ تقريبًا منذ عام 1947- على السواء عدم الانحياز ودعم حركات التحرّر على غرار منظمة التحرير الفلسطينية.
سرّع وصول حزب بهاراتيا جاناتا إلى الحكم في عام 1998 من التقارب مع “إسرائيل” وفقًا لمبدأ: عدوّنا نفسه (المسلمون)، أصدقاؤنا نفسهم (الولايات المتّحدة) ولدينا تعاون عسكري سريّ يعود إلى السنوات الـ1960. وفي الواقع، لم تؤد عودة حزب الكونغرس إلى الحكم في عام 2004 إلى التشكيك في التقارب الإسرائيلي الهندي الّذي يتجسّد على وجه الخصوص في المجال العسكري والتكنولوجيا العالية. ولا يخفي القوميون الهندوس في حزب بهاراتيا جاناتا والمنظمات العديدة الدائرة في فلكه تعاطفهم مع “إسرائيل” باسم مجتمع المصالح المفترض ضدّ الدول الإسلامية، في حين تؤكّد الحكومة الحالية -على عكس ما تبديه- على أنّ السياسة الهندية تجاه الفلسطينيين لم تتغيّر.
“آسيا الغربية”
ستنهي الزيارة المرتقبة لنارندرا مودي -على أيّة حال- الغموض والنفاق الّذين اتّسمت بهما هذه العلاقات منذ أكثر من 20 عامًا، ويمكن أن تدفع الهند إلى توضيح سياستها في الشرق الأوسط؛ لأنّ نيودلهي لا تمتلك سياسة شرق أوسطية، ناهيك عن استراتيجية تجاه المنطقة، وهذا يصعب تصديقه؛ إذ لديها في الواقع سياسات ومحاورين وتسعى إلى ألّا تناقض نفسها قدر الإمكان، ولكن دون أن يرقى هذا إلى مستوى الاستراتيجية؛ ممّا يشكّل مشكلة خطيرة بالنسبة لدولة تطمح إلى أن تصبح عضوًا دائمًا في مجلس الأمن الدولي.
وللهنود مشكلة مع مفهوم الشرق الأوسط؛ إذ إنّ هذا المصطلح الأوروبي الموروث عن الحقبة الاستعمارية مرفوض من قبل المحلّلين والسياسيين الهنود مفضّلين مصطلح “آسيا الغربية” دون أن يولوا اهتمامًا لانتماء مصر أو ليبيا أو السودان -دول إفريقية- إلى هذه المنطقة وهذا يفسّر -جزئيًا- لماذا لم تعتبر الحكومات الهندية قطّ هذه المنطقة معزولة ولم تخصّص لها استراتيجية شاملة.
في الواقع، تعتبر الهند نفسها القوّة المركزية في شبه القارة الهندية وتنتظر أن تعتبرها القوى الخارجية كذلك وتحدّد سياسات منفصلة تتعامل بموجبها مع إيران والدول العربية في الخليج و”إسرائيل” والفلسطينيين. كما تفخر الهند، الّتي كانت مستعمرة في السابق منذ استقلالها في عام 1947، برفضها لأيّ تدخّل (على الرغم من أنّ ممارساتها تختلف بعض الشيء مع جيرانها في سيريلانكا وبوتان ونيبال). ولهذا؛، من حيث المبدأ، ترفض أن تنحاز في النزاعات بين دول العالم الثالث.
عدم التدخّل الدبلوماسي
مؤخرًا في حرب اليمن، ظهرت الهند من خلال وضع سلاحها البحري في خدمة إجلاء المواطنين الهنود والآسيويين، ولكن رفضت اتّخاذ موقف على أسس هجمات التحالف الّذي تقوده المملكة العربية السعودية. وفي الآن نفسه، بذلت الهند ما بوسعها للحفاظ على العلاقات الثنائية مع إيران من جهة ومع الدول العربية الخليجية من جهة أخرى كما لو كان ممن الممكن التغاضي عن التوترات القائمة بين هذه الدول.
وبالإضافة إلى ذلك، تعدّ العلاقات الدبلوماسية الهندية مع الدول الهندية على أقلّ قدر من التسييس ويعود هذا في جزء كبير إلى الخشية من الآثار السلبية على علاقات نيودلهي بدول العالم الثالث، بالإضافة إلى أنّ الدول العربية الخليجية أقرب من حيث المبدأ إلى باكستان. ولكن، ما كان واقعا لمدّة عقود لم يعد كذلك اليوم: فمن جهة، تعترف دول مجلس التعاون الخليجي بإمكانيات الهند بعد أن قلّلت منها لفترة طويلة وتشهد على هذا التطوّر الزيارة الطويلة الّتي أجراها الملك السعودي عبد الله في يناير 2006 إلى الهند. ومن جهة أخرى، نأت دول مجلس التعاون الخليجي بنفسها عن باكستان، كما عزّز رفض باكستان دعم العملية السعودية في اليمن في ربيع 2015 من فتور العلاقات.
من وجهة نظر السياسة الداخلية، لم تتوان الحكومة القومية الهندوسية بقيادة مودي المتّهمة بإهمال المسلمين الهنود في إظهار علاقات جيّدة مع الدول العربية الإسلامية في الخليج، كما أنّ هذه العلاقات الجيّدة تعدّ ضرورة من الناحية الاقتصادية لنموّ البلاد وللاستثمارات الأجنبية الّتي جعل منها مودي أولوية.
منذ وصوله إلى الحكم في مايو 2014، سعى مودي جاهدًا إلى تحديد دبلوماسية متناسقة فقدت لمدّة 30 عامًا والتضييق الّذي شهدته حركة عدم الانحياز. ومن خلال معالجة علاقاتها مع الكيانات الّتي تشكّل الشرق الأوسط (إيران والدول العربية في الخليج والدول العربية الأخرى و”إسرائيل” وفلسطين)، يملي المنطق أنّ تعطيها حكومة نارندرا مودي إطارًا شاملًا ومقروءًا. سيحمله ميله الشخصي ممّا لا شكّ فيه نحو الدعم الصريح لـ “إسرائيل”، ولكن يوحي الحذر الّذي أظهره منذ وصوله إلى الحكم بالإضافة إلى تقاليد الجهاز الدبلوماسي الهندي المتردّد أمام فكرة التدخّل في نزاعات الآخرين بأنّه على العكس سيمضي في هذه الطريق بحذر.
التقرير