على إثر فشل مباحثات رئيس الوزراء التركي رئيس حزب العدالة والتنمية أحمد داود أغلو، في تشكيل حكومة ائتلافية مع حزبي المعارضة التركية الأساسيين؛ وهما حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية، جاءت النتيجة الطبيعية بأن تتوجه الأنظار إلى انتخابات مبكرة.
ولكن قد يكون من المتوقع والطبيعي أن تفشل جهود داود أغلو بتشكيل حكومة ائتلافية خلال فترة وجيزة من نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي أجريت في السابع من يونيو/حزيران الماضي؛ لأن هذه الفترة الزمنية الوجيزة واجهت صعوبة كبيرة لم تستطع تجاوزها، ليس بسبب الشروط التعجيزية التي وضهعا كمال كلجدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهوري، أو دولت بهجلي رئيس حزب الحركة القومية، على صعوبتها الكبيرة، ولكن بسبب الخلفية السياسية التي انطلقت منها هذه الأحزاب في مباحثاتها لتشكيل حكومة ائتلافية أولاً، وما كانت تتوقعه من قواعدها الحزبية ثانياً، فالقواعد الشعبية لهذه الأحزاب لم تكن مهيأة للعمل المشترك بعد استفراد حزب العدالة والتنمية برئاسة الحكومة لثلاثة عشر عاماً، فنحو 70% من قواعد حزب العدالة والتنمية لم تكن موافقة على ائتلاف مع حزب الشعب الجمهوري، بسبب الاختلاف الثقافي والأيديولوجي والتفكير السياسي لأتباع وأنصار الحزبين.
وقد يكون الأمر مشابهاً في الائتلاف مع حزب الحركة القومية بنفس الدرجة من الصعوبة النفسية والثقافية والسياسية، بل إن مشاركة حزب العدالة والتنمية في حكومة مشتركة مع حزب الحركة القومية سوف يفقد حزب العدالة والتنمية ما تبقى لديه من أتباع وأنصار من الأكراد، الذين يجدون في أيديولوجية حزب الحركة القومية ثقافة عدائية للقومية الكردية وتطلعاتها الثقافية والسياسية في تركيا.
لذلك فإن الخفلية التاريخية والسياسية في السنوات الثلاث عشرة الماضية كانت هي العامل الأكبر في عدم نجاح المساعي لحكومة ائتلافية، فضلاً عن عقلية الانتقام التي تحلى بها بعض قادة الأحزاب البرلمانية، فهم ظنوا أنفسهم في لحظة قوة يستطيعون من خلالها فرض شروطهم المهينة على حزب العدالة والتنمية، فإن لم ينجحوا في إخضاعه لشروطهم لتشكيل حكومة ائتلافية فقد نجحوا في التدليل على أنهم قوة سياسية لها وزنها في البرلمان، ولن يستطيع حزب العدالة والتنمية- بحسب ظنهم- تشكيل الحكومة إلا وهو خاضع لمطالبهم، وبذلك فهم شعروا بأنهم أمام لحظة انتقام تاريخي من حزب العدالة والتنمية، ولو كانت نتائجه الذهاب إلى انتخابات مبكرة.
فالسبب الرئيس لعدم القدرة على تشكيل حكومة ائتلافية هو بسبب أزمة الخطاب السياسي الذي ترعرع في السنوات الثلاث عشرة الماضية، بين حزب السلطة المتمسك بالسلطة بثقة الشعب ونجاح الإنجاز الاقتصادي في العقد الأخير، وبين أحزاب المعارضة التي فشلت في الانتخابات السابقة منذ عام 2001 ولغاية 2015، ومن ثم فلا بد من الحكم بأن الأحزاب السياسية الفائزة في الانتخابات الأخيرة في السابع من يونيو/حزيران قد فشلوا جميعاً في تشكيل حكومة ائتلافية.
هذا الحكم لا ينطبق على حزب العدالة والتنمية فقط، وإنما على باقي الأحزاب بدرجة أكبر، فهي وإن امتلكت العدد الرقمي لتشكيل حكومة ائتلافية لامتلاكها في مجموعها 292 صوتاً، ولكن خطابها السياسي يحمل نفس الأزمات في فشل الحوار بينها لتشكيل حكومة ائتلافية، ولذلك فهي عاجزة عن تشكيل حكومة ائتلافية دون حزب العدالة والتنمية، ولذلك قد لا يؤيد رئيس الجمهورية أردوغان دعوة رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كلجدار أوغلو لتكليفه بتشكيل الحكومة الائتلافية بعد فشل جهود داود أوغلو، لأن حظوظ كلجدار أوغلو أقل بكثير من حظوظ داود أوغلو، فهو لا يملك إلا أصوات حزبه، وهي 132، وأصوات حزب الشعوب الديمقراطي وهي 80 صوتاً، ومجموعهما 212 مقعداً برلمانياً، وهذا أقل من العدد المطلوب لنيل ثقة البرلمان، وهو 276 صوتاً برلمانياً.
وليس من المرجح، بل من المستحيل أن يشارك حزب الحركة القومية في حكومة يرأسها رئيس حزب الشعب الجمهوري، وفيها حزب الشعوب الديمقراطي، لأن حزب الحركة القومية لا يعترف بحزب الشعوب الديمقراطي، ولا يعترف بنوابه في البرلمان، مما يعني استحالة تشكيل حكومة ائتلافية بزعامة كلجدار أوغلو، حتى لو شاركه في هذه الدعوة صلاح الدين ديمرطاش رئيس حزب الشعوب الديمقراطي، وكذلك لا يملك حزب الشعب الجمهوري تشكيل الحكومة مع حزب الحركة القومية فقط، لأن مجموع أصواتهما 212 صوتاً أيضاً.
من هنا، ينبغي التعامل مع تصريح رئيس الجمهورية أردوغان، بأن البلاد تذهب إلى الانتخابات المبكرة بشكل متسارع، بأنه وصف للواقع السياسي المتأزم سياسياً واقتصادياً وأمنياً، فرئيس الجمهورية، وقد تسلم أوراق اعتذار داود أوغلو عن تشكيل حكومة ائتلافية، أمام خطوة جدية لا مجال فيها لمزيد من مضيعة الوقت والجهد لتكليف أحد بعده من رؤساء الأحزاب الأخرى، فإما حكومة تكنوقراط أو حكومة من النواب، بحسب نسب مقاعد الأحزاب الفائزة في الانتخابات الأخيرة، وهذه الحكومة سيكون رئيسها من حزب العدالة والتنمية أيضاً، فهو الحزب الأول في البرلمان الآن، فإذا تعذر تشكيل هذه الحكومة فإن الخطوة الوحيدة الإلزامية القادمة هي التحضير لانتخابات برلمانية قادمة.
وقد طالب رئيس الحكومة ورئيس حزب العدالة والتنمية داود أوغلو من حزب العدالة والتنمية التحضير لهذه الانتخابات منذ الآن، وأصدر الحزب توصيته بإلغاء قانون الدورات الثلاث، الذي كان يمنع نواب الحزب من الترشح لأكثر من ثلاث دورات انتخابية برلمانية أو وزارية، وهو أحد أسباب تراجع نسبة التصويت للحزب في الانتخابات السابقة.
فداود أوغلو دعا حزبه للاستعداد لانتخابات مبكرة بعد أن ثبت لديه عدم وجود إرادة صادقة لدى الأحزاب السياسية الأخرى للمشاركة في تشكيل حكومة جديدة، وقد صرح داود أوغلو مخاطباً مؤيدي حزب العدالة والتنمية بمناسبة مرور 14 عاماً على تأسيسه، بأنه “لم يلمس إرادة صادقة لدى الأحزاب السياسية التي خاطبها للمشاركة في تشكيل حكومة جديدة”، مطالباً حزبه بالاستعداد لخوض الانتخابات البرلمانية من جديد.
ولا شك أن الظنون والشكوك سوف تتوجه لاتهام أردوغان وحزب العدالة والتنمية بأنهم أفشلوا مباحثات تشكيل الحكومة من أجل الذهاب لانتخابات مبكرة، وهذه ظنون سياسية لا دليل عليها، ولكن ما هو أخطر منها من ظنون هو اتهام أردوغان وحزب العدالة والتنمية بأنهم أقاموا المشاكل الاقتصادية وشنوا الحرب على الأكراد قبل الدعوة إلى الانتخابات البرلمانية بهدف تغيير وجهة الناخب التركي للتصويت لحزب العدالة والتنمية، الذي يظهر بأنه مدافع عن حقوق الأتراك وحماية الأمن القومي التركي، فهذه الظنون تدخل مستوى الإساءة إلى رئيس الجمهورية، وكذلك الإساءة إلى رئيس الحكومة وحزبه، وهذه الإساءات قد يترتب عليها مساءلة قانونية، لأنها قد تبلغ درجة توجيه تهم الخيانة لمن يتسبب بهذه الأعمال من المسؤولين الأتراك، إذا لم تكن حربهم دفاعية وضد الإرهابيين فعلاً.
فإذا ما تم مراجعة استطلاعات الرأي التي تجريها بعض الشركات التركية المختصة، فإن حزب العدالة والتنمية قد يكون من أكثر الخاسرين من هذه الانتخابات المبكرة، فلا يوجد أي مؤشر واضح وقوي على أن الانتخابات المبكرة سوف تضمن لحزب العدالة والتنمية العودة إلى تشكيل حكومة بمفرده.
لذلك، فإن هذه الظنون تدخل مستوى العمل الإعلامي وتوجيه الرأي العام التركي، بأن حزب العدالة والتنمية هو السبب وراء الأزمات الحاصلة اليوم، ومن ثم فلا بد من تحميله المسؤولية في الانتخابات القادمة، ولكن هذه التقديرات تفتقر إلى الثقة بوعي المواطن التركي، لأن المواطن التركي يستطيع بمفرده وعي الأوضاع السياسية أولاً، وتقدير من قام بهذه الأعمال الإرهابية التي أودت بحياة عدد من الجنود الأتراك، وصدور بيانات من حزب العمال الكردستاني يتبنى فيها هذه العمليات الإرهابية بمثابة حكم قاطع بأن حزب قنديل هو من سعى لشن هذه الهجمات، بدوافع داخلية وخارجية.
أهمها أن حزب قنديل لا يريد أن يمنح حزب الشعوب الديمقراطي وزعيمه ديمرطاش، فرصة للظهور كقائد سياسي كردي، يمكن أن يمثل الشعب الكردي في تركيا، فحزب قنديل الكردستاني أول المستفيدين من إحباط نتائج الانتخابات السابقة، هذا في جانب العامل الداخلي، وأما العامل الخارجي، فحزب قنديل ربط مستقبله السياسي في تحالفات مع إيران لتحقيق مكاسب له في تركيا وسوريا والعراق، وأولى بوادرها الانتصارات التي حققها حزب الاتحاد الديمقراطي وقواته وحدات حماية الشعب الكردي ضد داعش في سوريا، وتحديداً في عين العرب وتل أبيض وغيرها، فهذه الانتصارات الوهمية دعمها بشار الأسد وفيلق القدس وقائده قاسم سليماني، وفاتورة ذلك لا بد أن تنعكس على توتير الوضع في تركيا، وتحديداً في حدودها مع سوريا والعراق.
فالأوضاع السياسية والعسكرية في المنطقة، تؤكد بأن حزب العمال الكردستاني، وتحديداً حزب قنديل، هو من أشعل فتيل الحرب وليس الشعب الكردي، ولا الشعب التركي، ولا أردوغان، ولا الحكومة التركية، ولا الجيش التركي، لذلك فإن إرادة الشعب التركي هي التي ينبغي أن تحكم نتائج الانتخابات البرلمانية القادمة وليس الدعايات الانتخابية، فالانتخابات المبكرة هي خيار الشعب التركي وقراره، وليست نتيجة فشل مساعي الحكومة الائتلافية فقط.
محمد زاهد جول
الخليج أونلاين