قضيّة البهائيين الذين أصبحوا مهدّدين في وجودهم باليمن نتيجة الضغوط الشديدة المسلّطة عليهم من قبل جماعة الحوثي، تمثّل انعكاسا لتوسّع ظاهرة معاداة الآخر المختلف ورفض التعايش معه في مقابل ضيق مساحة التسامح في البلد الذي تحوّل إلى ساحة للتنافس بين حركات متشدّدة ساعية للسيطرة عليه وفرض تعاليمها المستوردة وقيمها الغريبة على مجتمعه.
صنعاء – يسلك أبناء الطائفة البهائية طريقهم نحو الاختفاء النهائي من الساحة اليمنية التي لم تعد تتّسع لهم في ظلّ الانحدار الكبير في وضع حقوق الإنسان باليمن والانحسار السريع لمساحة التسامح الديني بعد صعود ظاهرة الإسلام السياسي وتقدم جماعات متشدّدة مثل تنظيم القاعدة وجماعة الإخوان المسلمين وجماعة الحوثي إلى واجهة المشهد الأمني والسياسي.
وسُلّطت الأضواء مجدّدا على قضية البهائيين بمناسبة قيام جماعة الحوثي المسيطرة بقوة السلاح على العاصمة اليمنية صنعاء وعدد من مناطق اليمن بنفي عدد من أبناء الطائفة إلى خارج البلاد.
ونشأت الطائفة البهائية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويتبع أفرادها تعاليم بهاءالله المولود في إيران عام 1817، لكن طهران تحت حكم النظام الديني الذي أرساه آية الله الخميني سنة 1979 تحظر البهائية وتعتبر أتباعها “جواسيس” لإسرائيل.
ولا يعرف الرقم الدقيق لعدد البهائيين في اليمن الذين يعود وجودهم بالبلد إلى أقلّ من قرنين، لكن منظمة هيومن رايتس ووتش نقلت في فبراير 2015 عن ممثلين للطائفة البهائية العالمية أن نحو ألف من أتباعها يعيشون على الأراضي اليمنية.
من الاضطهاد إلى التهجير
ظل مسلحو جماعة الحوثي منذ سيطرتهم على صنعاء في خريف سنة 2014 يشنون بين الحين والآخر حملات اعتقال لأتباع الطائفة البهائية في المدينة بتهم تتصل بمعتقداتهم وفق منظمات حقوقية دولية.
ومؤخرا أعلن الحوثيون عن إطلاقهم سراح عدد من البهائيين من سجون الجماعة، لكن مصادر متعدّدة قالت إنّ الذين أطلق سراحهم وافقوا قبل خروجهم من السجن على مغادرة اليمن خلال مدّة زمنية وجيزة.
والمفرج عنهم، حسب ذات المصادر، هم حامد حيدرة زعيم الطائفة البهائية في اليمن إلى جانب خمسة آخرين من أبناء الطائفة وقد غادروا البلاد فعلا على متن طائرة انطلقت من مطار صنعاء الدولي ولم تحدد هويتها ولا وجهتها، فيما أوضحت مصادر أن الأمم المتّحدة أشرفت على عملية الترحيل بالنّظر إلى أنّ حركة الطيران بالأجواء اليمنية مقيّدة من قبل التحالف العسكري الذي تقوده السعودية، ويحتاج إقلاع طائرات من مطار صنعاء إلى موافقات خاصّة.
وأكّد حسين العزي نائب وزير الخارجية في حكومة الحوثيين غير المعترف بها دوليا، عمليةَ إطلاق سراح البهائيين دون تحديد عددهم، إلاّ أن الجماعة البهائية العالمية التي تعلن تمثيلها للبهائيين في العالم، قالت في بيان إنّ عدد البهائيين المشمولين بالإفراج يبلغ ستّة أفراد.
هشاشة أوضاع البهائيين والضغوط المسلطة عليهم تجعلهم لا يمتلكون ترف رفض صفقة تهجيرهم بشكل جماعي من اليمن
كما أوضحت المصادر أن إطلاق سراح هؤلاء البهائيين، جاء بعد حملة ضغوط شديدة على الحوثيين من قبل هيئات حقوقية وأممية، وقد استجابوا لتلك الضغوط لتجنّب التبعات والحدّ من الأضرار التي لحقت بصورة جماعتهم على أن يتمّ الأمر في شكل صفقة تتضمّن النفي الفوري للمفرج عنهم.
وعبّر نشطاء يمنيون في مجال حقوق الإنسان عن خشيتهم من أن تتّسع الصفقة مستقبلا لتشمل جميع من تبقّى من أبناء الطائفة البهائية في اليمن ليتمّ ترحيلهم بشكل جماعي وهو الأمر الذي لا يمتلكون ترف رفضه وممانعته نظرا للأوضاع البائسة التي يعيشونها على غرار الغالبية العظمى من سكّان البلاد، وهي أوضاع يضاعف من وطأتها عليهم القمع والاضطهاد الممارس ضدّهم من قبل الحوثيين.
وتعليقا على نبأ نفي البهائيين المفرج عنهم إلى خارج اليمن، قال معمر الإرياني وزير الإعلام في الحكومة اليمنية إنّ قيام الحوثي بترحيل ستة من البهائيين خارج البلاد بينهم حامد بن حيدرة زعيم الطائفة البهائية في اليمن جريمة نفي قسري، مطالبا بإدانة أممية ودولية لهذا الإجراء.
واعتبر ماجد فضائل وكيل وزارة حقوق الإنسان اليمنية ترحيل البهائيين من قبل ميليشيا الحوثي إلى خارج اليمن جريمة لا تقل بشاعة عن جريمة اختطافهم من منازلهم ومصادرة ونهب أموالهم وممتلكاتهم وإخفائهم في المعتقلات لسنوات وتعرضهم لأبشع صنوف التعذيب النفسي والجسدي.
وأضاف “هذه جريمة ضد الإنسانية وانتهاك صارخ للقوانين والمواثيق الدولية وفي مقدمتها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان”.
واستغرب فضائل من الترحيب الذي ظهر من بعض الجهات والمنظمات الدولية بإطلاق سراح البهائيين، مشيرا إلى أنّ “ارتكاب الانتهاك بالاعتقال يجب أن يدان وبكل قوة وبالمثل إطلاق السراح بعد سنوات من الاعتقال والتعذيب”.
وأكد المسؤول الحكومي أنه يجب على المجتمع الدولي والأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثها الخاص في اليمن وكافة المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان الدفاع عن الأقليات بإدانة هذه السابقة الخطرة. وتابع “يجب الضغط على ميليشيا الحوثي لوقف ممارساتها العنصرية ضد الأقليات الدينية ومنها تهجير أبناء الطائفة البهائية والتضييق عليهم”.
وبالنسبة لبعض قادة الرأي اليمنيين فإنّ إطلاق الحوثيين سراح عدد من البهائيين هو عملية تلاعب تكتيكي بملف يتعلّق بحقوق الإنسان لتحصيل مكاسب سياسية آنية. ويقول الدبلوماسي والكاتب السياسي اليمني ياسين سعيد نعمان في هذا الإطار “مع جائحة كورونا التي تهدد اليمن أعلن الحوثيون موافقتهم على دعوة الأمين العام للأمم المتحدة بوقف العمليات القتالية فحصلوا على نصيبهم من الشكر الجماعي الذي أسبغه الأمين العام ومبعوثه على الجميع، لكنهم لم يلتزموا بشيء.. ولتغطية كذبتهم بالموافقة على الدعوة رموا بورقة إطلاق البهائيين من السجون، وحصلوا على شكر أممي أكبر من الأول. وحينما يشتد الضغط عليهم سيرمون بورقة أخرى ليحصلوا على شكر تنسى معه الأمم المتحدة قضية البهائيين”.
لقد واجه البهائيون اليمنيون طيلة السنوات الست الماضية عمليات تضييق وملاحقة من قبل جماعة الحوثي بعد أن تحوّلت إلى سلطة أمر واقع في عدد من مناطق اليمن.
ومطلع العام الجاري مثل أربعة وعشرون يمنيا من أتباع الطائفة البهائية أمام محكمة في العاصمة اليمنية صنعاء، في محاكمة قالت المنظمات الحقوقية الدولية إنّها لا تلبّي أيا من شروط العدالة وتمثّل مظهرا آخر للتشدّد وإنكار حرّية المعتقد والضمير وانعدام التسامح في مناطق سيطرة المتمرّدين الحوثيين الموالين لإيران باليمن.
ويُعتبر الموقف المتشدّد من البهائيين طارئا على الساحة اليمنية، حيث استجدّ مع سيطرة الحوثيين على عدد من مناطق البلاد من ضمنها العاصمة صنعاء. كما يمثّل مظهرا آخر لتبعية هؤلاء السياسية والفكرية والعقائدية لإيران التي تتهم أبناء الطائفة البهائية بالردّة وتحظر أي نشاط لهم على أراضيها بذريعة أنهم عملاء وجواسيس لإسرائيل.
وكان قد قبض على تلك المجموعة من البهائيين سنة 2018 بتهم تتعلق بالردة والتجسس. ونقلت الجامعة البهائية العالمية عن أحد الذين خضعوا لتلك المحاكمة قوله إنّ مدعيا عاما أوضح له أنّه معتقل بسبب معتقده الديني.
كما سبق أن اقتحم مسلحو الحوثي مبنى مؤسسة “يمن جود” التابعة للطائفة البهائية بصنعاء واعتقلوا العشرات أثناء مشاركتهم في تظاهرة ثقافية لأتباع الطائفة من بينهم نساء وأطفال.
وقالت ممثلة الجامعة البهائية العالمية باني دوجال “البهائيون المحتجزون في صنعاء أبرياء، والتعذيب الجسدي والنفسي الذي يخضعون له مصمم لجعلهم يعترفون بجرائم لم يرتكبوها”.
وجاءت المحاكمة بعد حوالي عام من إعلان منظمات حقوقية عن قيام مسلحي الحوثي باعتقال الناشط البهائي عبدالله العلفي المتحدث الرسمي باسم الطائفة في اليمن واقتياده إلى جهة مجهولة، بينما أشارت معلومات مسرّبة من صنعاء إلى وجود عدد من البهائيين بينهم ثماني نساء وطفلة، في سجون الحوثي بالمدينة بتهم “الردّة وتعليم الدين البهائي بالإضافة إلى التجسّس”.
اضطهاد البهائيين انعكاس للانحدار في أوضاع حقوق الإنسان بالمناطق اليمنية الخاضعة لسيطرة الحوثيين وذلك في ظلّ حالة من التغوّل تفرضها ميليشيا المتمرّدين الموالين لإيران
ووصفت لين معلوف مديرة قسم الأبحاث التابع لمنظمة العفو الدولية في منطقة الشرق الأوسط التهم التي يحاكم وفقها البهائيون في صنعاء بأنّها “اتهامات ملفقة وإجراءات غير عادلة لمحاكمة الناس على خلفية ديانتهم”.
وسبق لبهائيي اليمن أن حذّروا من موجة تحريض حوثية ضدّهم داعين الهيئات الدولية إلى التضامن معهم وحمايتهم من الانتهاكات الحوثية بحقهم. واتهم العلفي جماعة الحوثي ووسائل إعلامها بأنها “تضرم نار الفتنة من جديد ضد الطائفة البهائية، الأقلية المسالمة التي تتعرض لأبشع أنواع الظلم والقهر والتعسف والانتهاك الوحشي”. ولفت إلى أنّ “إذاعة تابعة للحوثيين شنت هجوما ضاريا ضد البهائية، مبرّرة ظلم البهائيين بافتراءات وأكاذيب عنوانها الحرب الناعمة تغرس الكراهية في نفوس الطائشين ضد أقلية أتباعها لا يحملون سلاحا ولا يملكون وسائل إعلام مرئية أو مسموعة أو مقروءة ولا جيشا إلكترونيا للدفاع عن أنفسهم”.
وإذ يؤكّد المتحدث باسم البهائيين أنّ الحوثيين هم أكثر من ينتهك حقوق أبناء طائفته حاليا، فإنّه يحرص على التنبيه إلى أن القوى الإسلامية السياسية الأخرى في اليمن تحاربهم من خلال الإعلام. أما بخصوص حكومة هادي المعترف بها دوليا فهي “ملتزمة بمعاهدات دولية لحماية الأقليات لكن مشكلتها أنها عاجزة عن إحكام السيطرة على المناطق التابعة لنفوذها وهناك انتشار لتنظيم القاعدة في تلك المناطق ما يهدّد البهائيين والتيارات المتهمة بالكفر والإلحاد”، وفق ما صرّح به عبدالله العلفي لإحدى وسائل الإعلام الألمانية.
ذرائع واهية
تعتبر منظمات حقوقية دولية اضطهاد البهائيين انعكاسا للانحدار المستمر في أوضاع حقوق الإنسان بالمناطق اليمنية الخاضعة لسيطرة الحوثيين بما فيها العاصمة صنعاء، وذلك في ظلّ حالة من الاستفراد والتغوّل تفرضها ميليشيا المتمرّدين الموالين لإيران.
وأظهر تقرير سابق لمنظمة شهود لحقوق الإنسان أنّ ميليشيا الحوثي ارتكبت خلال النصف الأول من العام 2019 أكثر من 2720 حالة انتهاك لحقوق الإنسان في عموم المديريات التابعة لمحافظة العاصمة صنعاء. ودعت المنظمة التي أصدرت التقرير المجتمع الدولي للتدخل السريع والعاجل لوقف الانتهاكات الحوثية بحق المواطنين اليمنيين، واتخاذ جميع التدابير الممكنة والعاجلة لحماية المدنيين، والضغط على المنتهكين لوقف انتهاكاتهم.
وكتب السفير البريطاني لدى اليمن مايكل آرون في تغريدة على حسابه بتويتر “لقد عانى البهائيون في اليمن بسبب معتقدهم.. هذا يجب أن يتوقف”. وأضاف “على وجه الخصوص، ندعو الحوثيين إلى إطلاق سراح المعتقلين تعسفيا والسماح لجميع البهائيين بممارسة دينهم والعيش بحرية في اليمن”.
وتقول الأمم المتحدة على لسان مقررها المعني بحرية الدين والمعتقد أحمد شهيد إنّ “المضايقات التي يتعرض لها البهائيون في صنعاء تتحول إلى اضطهاد ديني”، بينما يؤكّد مدافعون عن قضية البهائيين أنّ اضطهاد هذه الطائفة في اليمن ليس حدثا عابرا بل هو أمر ممنهج يستند إلى ذرائع دينية وأيديولوجية، ويوجّه هؤلاء اتّهاما مباشرا لزعيم جماعة أنصارالله الحوثية عبدالملك الحوثي بالإشراف على عملية إنهاء وجود البهائيين في اليمن تنفيذا لتعليمات واردة من إيران.
وعداء زعيم الحوثيين معلن وموثّق بالنصّ حيث سبق له القول في كلمة له بمناسبة إحياء ذكرى المولد النبوي إنّ “أي حالة ادعاء للنبوة هي افتراء وهي كذب وهي دجل. وما هو قائم اليوم في ما يسمى بالبهائية والأحمدية، في ادعاء نبوة جديدة بعد خاتم النبيين محمد هو افتراء وضلال وباطل.. وراءه نشاط أو دفع مقصود من جانب المخابرات الأميركية والإسرائيلية التي تسعى لاختراق الأمة الإسلامية ونشر الضلال في أوساط البشرية”.
العرب