نلتقي اليوم مع قراءة اقتصادية لافكار عالم الاقتصاد الإسكتلندي الأصل آدم سميث -Adam Smith ، والذي عاش في القرن الثامن عشر (1723م : 1790م)، ويعتبرونه الكثيرون أباً لعِلم الاقتصاد؛ فقد كان مؤلفاً لأغلب النظريات الاقتصادية، التي مازالت تشكل أساساً لاقتصاديات السوق الحر، كما أنه أحد أكثر الكتاب تأثيراً في التاريخ الحديث.
فهو أول من ابتكر الاقتصاد الحديث ومفاهيم الرأسمالية؛ ومؤسس الليبرالية الاقتصادية Economic Liberalism، والتى اشتهرت في أوروبا عندما نشر مبادئها عام 1776 في لندن بمؤلفه الضخم الشهير دراسة في طبيعة وأسباب ثروة الأمم – An inquiry into the nature and causes of the wealth of nations، والمعروف اختصاراً بــ ثروة الأمم – Wealth of Nations، في أكثر من ألف صفحة، في بداية فترة الثورة الصناعية؛ ليحتوى المبادئ والأسس والقوانين التى تقوم عليها الرأسمالية، التى مازال العالم يأخذ بها حتى الوقت الحاضر.
ورغم أنه لم يضف في كتابه الشهير ثروة الأمم أفكاراً ونظريات اقتصادية جديدة، إلا أنه يبقى واحداً من أهم المؤلفات في الاقتصاد الحديث؛ ومَثَل انطلاقة الفكر الكلاسيكي؛ لكونه أول كتاب جامع، وملخص لأهم الأفكار الاقتصادية للفلاسفة والاقتصاديين الذين سبقوه أمثال: فرنسوا كيناي وجون لوك وديفيد هيوم.
رابط الكتاب عبر موقع Goodreads
يمكنك اقتناء نسخة من الكتاب عبر موقع Amazon.
فقد دافع مع آخرين عن إلغاء التدخل الحكومي في الشؤون الاقتصادية، ورفع القيود عن عملية التصنيع، ورفع الحواجز والتعريفات الجمركية، وقال أن التجارة الحرة هي أفضل وسيلة للنهوض باقتصاد دولة ما، لذا يُعد الرجل أحد أهم مفكري عصر التنوير، إذ اتخذه تيار المحافظين الجدد – منذ زمن بعيد – أباً لفكرهم، وحديثاً حاول حزب العمال الجديد أن يتخذه كمرجعية فكرية له.
فماذا يقول آدم سميث في كتابه الضخم الشهير ثروة الأمم؟
مبدئياً فإن من أقدم تعريفات علم الاقتصاد، هو ذلك التعريف الذي ذكره آدم سميث في كتابه ثروة الأمم، ليُعد بذلك من أوائل الاقتصاديين الذين قدموا تعريفاً لعلم الاقتصاد، فيقول: إن علم الاقتصاد هو ذلك العلم الذي يهتم بدراسة الوسائل التى يمكن أن تزيد ثروة الأمم، أو بمعنى أخر: هو العلم الذي يبحث في الوسائل التى تمكن الأمة من أن تغتني. وهكذا كانت الثروة ووسائل زيادتها هى موضوع دراسة علم الاقتصاد عند آدم سميث.
ينظر سميث إلى الإنسان باعتباره إنساناً اقتصادياً، فهو يرى أن من يقترح على شخص آخر صفقة ما يخاطبه عموما بالعبارات مثل (أعطني ما أحتاج وستحصل مني بالمقابل على ما تحتاج).
إننا إذن، لا ننتظر من الجزار أو بائع الجعة أو الخباز أن يوفر لنا عشاءنا بفعل الاهتمام بنا وحده، بل بفعل الفائدة التي يجلبها توفير هذا العشاء لمصالحهم، إننا لا نتوجه بالخطاب لإنسانيتهم وإنما لأنانيتهم أو كما يقول سميث مصلحتهم الشخصية، ومن هذا المعتقد الذي يوجد بشكل طبيعي لدى كل واحد منا وفقه استعداد للتبادل مع أمثاله ينبع التعريف الليبرالي للإنسان باعتباره إنساناً اقتصادياً.
ففي كل الأنواع الحية تقريباً -كما يشير إلى ذلك آدم سميث- إذا بلغ أي كائن كمال تطوره، يغدو مستقلاً تمام الاستقلال، وكلما ظل على حالته الطبيعية، فإنه يستطيع الاستغناء عن مساعدة كل المخلوقات الحية.
لكن الإنسان في حاجة دائمة تقريبًا لمساعدة بني جنسه، وهو يتوقع منهم ذلك بدون جدوى إنطلاقًا من اهتماماتهم وحدها، إلا أنه سيكون متأكدًا من النجاح لو أنه حرك فيهم مصالحهم الشخصية، واقنعهم أن مصلحتهم الخاصة تتطلب منهم أن يعملوا ما ينتظره منهم.
ويقول آدم سميث في كتابه أن المصدر الأول لثورة الأمة ليس الأرض، وإنما العمل: عمل الأفراد الذي يزودهم بالحاجات الضرورية والكمالية، التى يستهلكونها، سواء كانت مما ينتجونه بأنفسهم، أو ما يتبادلونه مع منتجات الأمم الأخرى..
وهكذا فإن ثروة الأمة تزيد كلما زاد العمل، ولا سبيل إلى زيادة العمل إلا بالتخصص وتقسيم العمل وتطوير أدوات الإنتاج وآلاته، وفي حالة زيادة عدد السكان المستهلكين، لابد أن تزيد عدد العمال المنتجين، وهذا بالطبع يتطلب زيادة رؤوس الأموال المستثمرة.
فيرى أن ثروة كل أمة تقاس بإنتاجيتها، وربط الإنتاجية بتقسيم العمل، واعتبر أن التقسيم المطرد للعمل إلى وحدات أصغر وأصغر يسهل العملية الإنتاجية، ويزيدها كمياً.
ومن وصايا آدم سميث ألا يسرف الأفراد والمجتمع في التبذير، ويفضل عليها التعقل والحرص، كما أنه يميز بين نوعين من العمل، أحدهما عمل منتج، والآخر يحقق نفعاً ومتعة سريعيين، لكنه لا يضيف شيئاً لموارد المجتمع، ويدخل في ذلك عدد من أعمال الخدمات التى تروج لها الدعاية دون أن يكون لها عائد حقيقي على المجتمع.
ويرى أن أهم قوة تنمي الثروة هى غريزة المصلحة الشخصية، التى تدفع الفرد إلى تحسين أحواله، وبالتالي تتكون ثروة المجتمع من مجموع تحقيق هذه المصالح الشخصية للأفراد، حتى دون أن يكونوا قد قصدوا أساساً إليها، وهكذا فإن النظام الاقتصادي عند آدم سميث يقوم على النظام الطبيعي الذي تحكمه تلك الغرائز الشخصية.
وقد أوضح ذلك عندما ابتكر مبدأ اليد الخفية Invisible hand، حيث يقول، أن الفرد الذي يقوم بالاهتمام بمصلحته الشخصية، يساهم أيضاً في ارتقاء المصلحة الخيرة لمجتمعه ككل، حيث يشرح بأن العائد العام للمجتمع هو مجموع عوائد الأفراد، فإذن، عندما يزيد فرد ما عائده الشخصي، فإنه يساهم في زيادة مجموع العائد للمجتمع؛ وعلى الرغم من أن آدم سميث استعمل المصطلح لثلاث مرات فقط؛ إلا أن المصطلح انتشر بشكل واسع لاحقاً.
وهنا قد يسأل سائل: كيف تنوعت المجالات الاقتصادية وتكاملت في المجتمع؟ الإجابة أن كل فرد عندما يسعى لتحقيق مصلحته الشخصية، فإنه يجد نفسه مضطراً للتخصص في العمل الذي يجيده، لكى يخرج منه منتجًا يتبادله مع غيره ممن يحتاج إلى منتجاتهم، ومن هنا جاء تقسيم العمل والتخصص فيه أيضاً بصورة طبيعية.
لكن كيف يتكون رأس المال الذي يحرك الإنتاج في المجتمع؟
يجيب آدم سميث أنه بسبب غريزة طبيعية تدفع الإنسان إلى الإدخار، وتحثه وبالتالي على زيادة مدخراته من خلال الاستثمار، وبذلك تزيد رؤوس الأموال التي تؤدي إلى زيادة الإنتاج، وتشغيل العمال، ومنها جميعاً تتكون ثروة الأمة.
وفي هذه الحركة للاقتصاد تبعاً لتنوع الغرائز الإنسانية، يقتصر دور الدولة على تهيئة البيئة المناسبة، وذلك من خلال شق الطر، وتنظيم حركة النقود، وضمان تنفيذ العقود بصورة أمينة، وعلى الدولة أن تحقق حرية الصناعة والتجارة بامتناعها عن التدخل فيها، وبذلك تتيح الحرية الكاملة لكل من العمل والإنتاج ورأس المال، لكى يحقق أصحابها مصالحهم الشخصية، ويزيدوا بالتالي من ثروة مجتمعهم.
إن أي دولة –مهما كان نظامها الإداري، وعقول موظفيها الأذكياء- لن تستطيع أن تحقق للأفراد مصالحهم الشخصية، كما أنها لن تحقق لمجموعهم الازدهار الاقتصادي بما تفرضه عادة من قوانين وضوابط وإشتراطات، وسوف تصاب بخيبة الأمل عندما يتدهور النظام الاقتصادي فيها، بسبب هذا التدخل الذي يتنافى تماماً مع حرية الاقتصاد.
لكن آدم سميث يعود فيعترف للدولة ببعض السلطة في منع الاحتكار والربا، كما يسمح لها بفرض ضرائب على السلع الواردة من الخارج، والتى تشكل تهديداً للسلع المشابهة التى ينتجها المجتمع، لكن القاعدة الأساسية في نظام الدولة هو أن يقتصر دورها على تهيئة المناخ المناسب لحرية الزراعة والصناعة والتجارة، مع ضرورة توفير الأمن والعدالة والتعليم لجميع أبناء المجتمع.
وبالنسبة إلى السلع، يرى آدم سميث أن كل سلعة لها قيمتان: قيمة يحددها حاجة المنتفع بها واستعماله لها، وقيمة مبادلة يحددها ما يمكن ان يحصل عليه صاحبها في مقابلها من سلع أخرى، ومن الواضح أن القيمتين مختلفتان، لكن الأساس الذي يجمعهما هو قيمة العمل المبذول فيهما، لأنها القيمة الثابتة التي ستظل في كل الأحوال معياراً صادقاً لقيمة السلعة الحقيقية في أي زمان ومكان.
وتظل بعض الأسئلة مطروحة بقوة على نظرية آدم سميث
- ماذا لو اجتمع عدد من الأفراد ذوى مصالح مشتركة للعمل ضد مصلحة المجتمع؟
- كيف يتم تقييم أجر العمال عن المجهود الذي يبذلونه في إنتاج السلع؟
- ما الحل بالنسبة إلى الأفراد الذين قد يتعثرون في تحقيق مصالحهم الشخصية، أى مشروعاتهم الخاصة؟
- اذا أخذ بلد ما بهذا النظام الطبيعي في الاقتصاد، كيف تتعامل مع بلاد أخرى لا تطبقه؟
النظرية في اساسها صحيحة، وهى تطلق طاقات كل أفراد المجتمع ليحقق كل منهم رغبته الشخصية في النشاط الاقتصادي الذي يختاره، بدلاً من أن تحولهم إلى موظفين لدى الدولة التى تفشل عادة في إدارتهم، وتوزيعهم على مختلف الأعمال، ومن المؤكد أن الدولة المزدهرة اقتصادياً سوف تكون دولة مزدهرة سياسياً وعسكرياً، لأنها من خلال الضرائب المتوافرة لها سوف تكون قادرة على الوفاء بمسؤولياتها.
لقد أخذ النظام الرأسمالي الحالي بنظرية آدم سميث بعد ان أدخل عليها بعض التعديلات، كما استفاد من بعض عناصرها النظام الاشتراكي دون أن يصرح بذلك، والملاحظ حالياً أن النظام الاشتراكي قد ثبت فشله تماماً، كما أن النظام الرأسمالي بعد أن استطبع بطابع العولمة قد ظهر تعثره، وأصبح كل إنسان في العالم مدعواً لكى يرفعه من تلك الحفرة التى وقع فيها، فهل يمكن إدخال بعض الإصلاحات عليه، أم سيتم استبداله تماماً من خلال ابتكار نظام جديد.. هذا هو السؤال.
وفي الأخير فقد رحل آدم سميث تاركاً وراءه إرثاً نظرياً، أثبت التاريخ الاقتصادي وحده مدى الدمار الاجتماعي الناجم عنه.
شيماء جابر
موقع اراجيك