فتنة عربية كردية شرق سوريا تؤججها أياد خفية

فتنة عربية كردية شرق سوريا تؤججها أياد خفية

تصدع العلاقة بين العرب والأكراد شرق سوريا، ووجود أجندات متضادة التقت على ما يبدو على تأجيج التوتر هناك، يضعان المنطقة على فوهة بركان قد يهدد انفجاره بقلب المعادلة القائمة وإعادة خلط الأوراق لاسيما الأميركية منها.

يسود التوتر العلاقة بين المكونين العربي والكردي في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية شرق سوريا، على خلفية سلسلة اغتيالات طالت زعماء ووجهاء من العشائر العربية كان آخرها مقتل شيخ قبيلة العكيدات مطشر الحمود الهفل برصاص مسلحين يستقلون دراجات نارية في 2 أغسطس الجاري، وقبلها بيومين اغتيال الشيخ سليمان الويس من عشيرة البكارة بنفس الأسلوب.

سبق اغتيال الشيخين الهفل والويس مقتل الناطق باسم عشيرة البكارة سليمان الكسار في أول أيام عيد الأضحى. وتتهم العشيرتان قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بالوقوف خلف سلسلة الاغتيالات التي تستهدف، بحسب أبنائها، تركيع المكون العربي في المنطقة الشرقية وإخضاعه لسلطة الأمر الواقع الممثلة في الأكراد.

تزامنت موجة الاغتيالات مع توقيع شركة نفط أميركية “ديلتا كريسنت إنيرجي” لاتفاق مثير للجدل مع قسد لتطوير واستغلال حقول النفط الواقعة تحت سيطرة الأخيرة، وجرى ذلك برعاية الإدارة الأميركية بحسب ما أكده وزير الخارجية مايك بومبيو خلال جلسة استماع في الكونغرس قبل نحو أسبوعين.

وكانت أنباء تحدثت عن أن اغتيال شيخي قبيلتي البكارة والعكيدات يرتبط بتحفظ كليهما على هذا الاتفاق الذي سبق أن أدانته دمشق وأنقرة باعتباره يشكل اعترافا ضمنيا أميركيا بالإدارة الذاتية الكردية.

وأثارت الاغتيالات موجة احتجاجات واسعة شرقي دير الزور، خصوصا في مدينة البصيرة وقرى يبان والشحيل والحوايج، وسط نذر تحول الحراك إلى مواجهة مسلحة، في ظل التعاطي الخشن لقوات سوريا الديمقراطية مع المتظاهرين، عبر حملة المداهمات والاعتقالات التي قامت بها خلال الأيام الأخيرة، وفي ظل وجود عدة أطراف محلية وإقليمية من مصلحتها انزلاق الوضع إلى مربع العنف.

وتنفي قوات سوريا الديمقراطية التي تقودها وحدات حماية الشعب الكردي، الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي، أية صلة لها بالاغتيالات ملقية باللوم على خلايا لتنظيم الدولة الإسلامية، التي قالت إنها ترمي إلى إحداث فتنة عربية/ كردية.

لا يلقى هذا النفي اقتناعا لدى أبناء عشيرتي العكيدات والبكارة اللتين تعدان من أكبر العشائر في سوريا ويمتد وجودهما إلى العراق والأردن وحتى بعض دول الخليج العربي، وسط سعي دمشق وأنقرة كل على حدة إلى توظيف هذا التوتر لإضعاف الجانب الكردي وحشر الوجود الأميركي في تلك الرقعة الجغرافية التي تكتسي أهمية إستراتيجية، فهي إلى جانب احتوائها على الجزء الأكبر من المخزون النفطي والغازي السوري تضم أخصب أراضي البلاد.

وأدان ما يسمى بمجلس العشائر والقبائل العربية في سوريا، خلال مؤتمر صحافي عقده الجمعة في مدينة شانلي أورفا، جنوبي تركيا، ممارسات قوات سوريا الديمقراطية متهما صراحة وحدات حماية الشعب الكردي بالوقوف خلف سلسلة الاغتيالات.

وطالب المجلس في بيان تلاه رئيس جمعية قبيلة العكيدات، إسماعيل العسكر الهفل، بانسحاب القوات الأميركية التي تدعم “ي ب ك” أي وحدات حماية الشعب، من سوريا. وقال إن “(ي ب ك) قتلت الكثير من الأبرياء في مناطق سيطرتها شرقي سوريا، وغيرت البنية الديموغرافية فيها، ومارست الظلم والقمع“.

وأمر الهفل بتسليم النفط وانسحاب “ي ب ك” من الأراضي التي تسيطر عليها وتسليمها إلى سكانها. وأعرب عن شكره لتركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان، على الدعم الذي تقدمه للعشائر العربية في سوريا، داعيا الجيش التركي إلى إخراج المنظمة الإرهابية من الأراضي السورية.

وسبق أن أصدر “التحالف العربي الديمقراطي في الجزيرة والفرات” بيانا حول ما اعتبره “انتفاضة العرب ضد العنصرية والقمع”، حذر عبره من انعكاسات سياسات قوات سوريا الديمقراطية، لافتا إلى أن “استمرار الضغط على ملايين العرب في المحافظات الثلاث (الحسكة، ودير الزور والرقة) سيحدث زلزالاً لن يكون من السهل احتواؤه، وقد شهدنا تصاعد مظاهر الاحتجاج والرفض لسياسات الميليشيات العنصرية من قبل أهالي المنطقة”.

بيان مجلس العشائر والقبائل العربية في سوريا، كان الأوضح والأكثر حدة وهو بمثابة تحول في طبيعة المطالب التي كانت تقتصر في البداية على محاسبة المتورطين في عمليات الاغتيال وكف اليد الأمنية للإدارة الذاتية، إلى الدعوة لانسحاب القوات الأميركية وتسليم إدارة الحقول النفطية إلى السكان العرب المحليين، مع رحيل قوات سوريا الديمقراطية.

وتعكس الدعوة الصريحة من قبل المجلس إلى تدخل تركي لطرد قوات سوريا الديمقراطية من المنطقة الشرقية أن أنقرة غير بعيدة عن الأحداث الدائرة في تلك الأنحاء، ولا يستبعد كثيرون فرضية أن تكون خلف عمليات الاغتيال الجارية في محاولة لتأليب العشائر العربية على الأكراد وضرب قوات سوريا الديمقراطية التي تضم إلى جانب العنصر الكردي عربا وسريانا وآشوريين وإيزيديين.

وعقب اغتيال شيخ قبيلة العكيدات سجل انشقاق العشرات من العناصر العربية المنضوية ضمن قوات سوريا الديمقراطية وانضمامها إلى الحراك الاحتجاجي، وسط ترجيحات بانشقاق المزيد في غياب بوادر عن إمكانية خفض التصعيد في المنطقة.

بصمات تركية
تعتبر تركيا أحد أبرز المستفيدين مما يجري شرق سوريا، فمن مصلحتها ضرب العلاقة بين العرب والأكراد الذين تعتبرهم تهديدا لأمنها القومي، حيث تزعم أن لهم صلات عضوية بحزب العمال الكردستاني الذي يطمح لإنشاء حكم ذاتي جنوب شرق تركيا.

وترى أنقرة أن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وذراعه العسكرية وحدات حماية الشعب ليسا إلا ذراعا لحزب العمال، وأن مشروعا خاصا للأكراد في شمال شرق سوريا سيشكل خطرا كبيرا ليس فقط لجهة أنه سيعيد بث الحماسة لدى أكراد تركيا في تحقيق حلم إنشاء حكم ذاتي أسوة بشمال العراق، بل وأيضا سيشكل شمال شرق سوريا في حال نجح المشروع منصة انطلاق جديدة لعناصر حزب العمال.

الدعوة الصريحة إلى تدخل تركي لطرد قسد تؤكد أن أنقرة غير بعيدة عن الأحداث الدائرة شرق سوريا

وشنت تركيا ثلاث حملات عسكرية داخل الأراضي السورية خلال السنوات الأخيرة في محاولة لقطع الطريق على المشروع الكردي في سوريا، آخرها في أكتوبر الماضي حيث نجحت في السيطرة على رأس العين شمال غرب محافظة الحسكة، وتل الأبيض شمال الرقة، وقبلها في العام 2018 تمكنت من فرض سيطرتها على مدينة عفرين التابعة إداريا لمحافظة حلب والتي تضم غالبية كردية، سبق ذلك احتلال كل من جرابلس وأعزاز والباب في العام 2016.

حرصت أنقرة والميليشيات السورية الموالية لها عقب كل حملة على إحداث تغيير ديموغرافي في المناطق التي سيطرت عليها، عبر تهجير الأكراد وباقي الأقليات وتوطين اللاجئين السوريين الموجودين لديها ومعظمهم من العرب، ومن الواضح أن نظام الرئيس رجب طيب أردوغان لن يكف عن مساعي ضرب الوجود الكردي على حدوده وبالتالي العمل على تأجيج الوضع في المنطقة الشرقية وإحراج الإدارة الأميركية لاسيما وأن الأخيرة أظهرت من خلال الاتفاق النفطي الأخير نوايا للاعتراف بالإدارة الذاتية الكردية، وهو ما تعتبره أنقرة خطا أحمر.

وكانت تركيا سارعت إلى إدانة الاتفاق بين شركة دلتا كريسنت إنرجي الأميركية وقوات سوريا الديمقراطية، وقالت الخارجية التركية في بيان إن الصفقة “دليل واضح” على الأجندة الانفصالية “لتنظيم حزب العمال الكردستاني/وحدات حماية الشعب الإرهابي بالاستيلاء على الموارد الطبيعية للشعب السوري”. وأضافت “هذا القرار، الذي لا يمكن تبريره بأي دافع مشروع، غير مقبول”.

المقاومة الشعبية
ليست تركيا فقط المستفيدة من الوضع المتوتر بين الأكراد والعشائر العربية فهناك دمشق التي ترفض أي وضع خاص لهذا المكون في أي ترتيبات مستقبلية في سوريا، وتنظر للوجود الأميركي على أنه احتلال وجب اقتلاعه.

وهاجمت دمشق الاتفاق النفطي الأخير وقالت إنه صفقة باطلة “لسرقة النفط السوري”، وهو اعتداء على السيادة السورية، مجددة مطالبة الولايات المتحدة بالرحيل.

وتدرك دمشق وحلفاؤها، لاسيما إيران، أن طرد القوات الأميركية المنتشرة في المنطقة الشرقية لن يكون سهلا في ظل اختلال موازين القوى، وأن الحل يكمن في الرهان على السكان المحليين من خلال دفعهم إلى الانتفاض ضد هذا الوجود.

وسبق أن صرح الرئيس بشار الأسد في 16 ديسمبر بأن المقاومة الشعبية هي الحل لإجبار الولايات المتحدة على سحب كامل قواتها من سوريا.

وهناك اليوم حالة تنافس شديدة بين دمشق وأنقرة لكسب ود العشائر العربية في المنطقة الشرقية وتحريضها على الوجود الأميركي والانتفاض على الإدارة الذاتية التي وإن تبرأت من أي دور لها في الاغتيالات التي تعرض لها وجهاء وشيوخ في المنطقة، بيد أن ذلك لا يعفيها من تحمل جانب كبير من المسؤولية في تأجيج حالة الغضب ضدها نتيجة سياساتها التمييزية وتغولها في مناطق ذات غالبية عربية مراهنة على الدعم الأميركي.

وقال القيادي في المجلس الوطني الكردي فؤاد عليكو في تصريحات لـ”العرب” “إن ما يحصل اليوم في محافظة دير الزور من توتر بين الأهالي وقوات قسد كان أمرا متوقعا، وسبق أن حذرنا حزب الاتحاد الديمقراطي (ب ي د) منذ العام 2016 وأثناء الدخول إلى منبج بأن ليس من مصلحة وحدات حماية الشعب الكردي الذهاب للقتال في المناطق العربية لأن من شأن ذلك خلق عداء عربي/كردي نحن بغنى عنه، وأن أبناء المنطقة هم الأحق بالدفاع عن مناطقهم وطرد تنظيم داعش منها وإدارتها، لكن مع الأسف لم نجد آذانا صاغية وأخذتهم الحماسة والغرور وحصل ما حصل من حالة تباعد غير مريح بين العرب والكرد في المنطقة، إن لم نقل حالة عداء”.

واعتبر عليكو أن “حزب الاتحاد الديمقراطي يتحمل مسؤولية ذلك وعليه أن يراجع سياساته بأقصى سرعة وينسحب من تلك المنطقة ويسلم إدارتها لأهلها بدلا من استخدام القوة والدخول في معارك عبثية لا طائل منها وعليهم إفهام الأميركيين أننا لا نستطيع البقاء في منطقة نحن غير مرغوبين فيها من قبل أبنائها“.

حرصت أنقرة والميليشيات السورية الموالية لها عقب كل حملة على إحداث تغيير ديموغرافي في المناطق التي سيطرت عليها، عبر تهجير الأكراد وباقي الأقليات
أنقرة عملت في أعقاب كل حملة على إحداث تغيير ديموغرافي في المناطق التي سيطرت عليها بهدف تهجير الأكراد وباقي الأقليات
رفْعُ المحتجين خلال مسيراتهم في دير الزور شعارات تطالب برحيل القوات الأميركية مشهد غير مألوف ويعد تطورا خطيرا قد يجبر واشنطن على إعادة النظر في سياساتها الداعمة للإدارة الذاتية لاسيما في المناطق ذات الغالبية العربية، خاصة وأن هذا الرفض للوجود الأميركي قد يتحول إلى مواجهة مسلحة وعمليات عسكرية تستهدف هذا الوجود، أسوة بانتفاضة العشائر في العراق في العام 2005، قبل أن يتلقفها تنظيم القاعدة.

وتعتبر العشائر العربية شرق سوريا أن تغول الأكراد في مناطق سيطرتهم ما كان ليتم لولا الغطاء الأميركي، وأن هناك عملية تهميش لهم مقصودة من قبل واشنطن.

ومن المرجح أن تسارع الولايات المتحدة لتدارك هذا الموقف، خشية انفلات الوضع من يدها لاسيما وأنها ترى في بقائها بتلك المنطقة أمرا حيويا لقطع الطريق على المشروع الإيراني الذي يطمح لتحويل شرق سوريا إلى جسر يربطها بلبنان والبحر المتوسط. وقد بدأت واشنطن بالفعل التحرك لنزع فتيل التوتر بين الأكراد والعشائر.

وعقد مسؤولون عسكريون أميركيون وقيادات من قوات سوريا الديمقراطية، اجتماعات ماراثونية مع وجهاء العشائر في محاولة لاحتواء التصعيد، كان آخرها في قرية الموحسن ببلدة هجين في ريف دير الزور الشرقي.

وكان المرصد السوري لحقوق الإنسان نشر في 5 أغسطس، خبر اجتماع لعدد من شيوخ ووجهاء مناطق ذيبان والشحيل وشيخ عشيرة العكيدات مع الجانب الأميركي، في حقل العمر النفطي في ريف دير الزور، لمناقشة الأوضاع الخدمية، وبحث التطورات في المنطقة، حيث تعهد الجانب الأميركي بمواصلة التحقيقات لكشف مرتكبي جريمة قتل شيوخ العشائر.

وكانت الخارجية الأميركية أدانت في وقت سابق الاغتيالات التي جرت متعهدة بمحاسبة منفّذيها. وهناك اعتقاد سائد بأن هذه الاجتماعات لن تنجح في نزع فتيل التوتر هذه المرة لاسيما وأن سقف مطلب العشائر عال، وأن الإدارة الأميركية أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما تغيير سياساتها في التعاطي مع أبناء المنطقة الشرقية، أو الذهاب في خيار المعالجة الأمنية وهذا الأمر سيكون مكلفا جدّا.

العرب