القيد الأمريكي: احتمالات بروز قيادة إقليمية في الشرق الأوسط

القيد الأمريكي: احتمالات بروز قيادة إقليمية في الشرق الأوسط

يثير ما بدا يتجلى من تراجع نسبي في قدرات القيادة الأمريكية للعالم، وحالة الاضطراب الواسعة التي تشهدها العديد من دول منطقة الشرق الأوسط، والعلاقات الإقليمية عامة فيها، تساؤلا جوهريا حول إمكانية صعود قائد إقليمي في منطقة الشرق الأوسط في ظل التحديات المتصاعدة فيها.

2014-635517350126135594-613

 تستوجب الإجابة على هذا التساؤل دراسة طبيعة العلاقات البينية بين دول المنطقة، وطبيعة البيئة الاستراتيجية هل هي تعاونية أو صراعية؟،وإمكانية قبول القوة العظمى الأمريكية بظهور منافس إقليمي لها في منطقة تعدها منطقة استراتيجية بالنظر لمصالحها. وفي معرض اقترابها من هذا التساؤل، تركز الورقة على الدول الخمس الفاعلة إقليميا، وهي: مصر، والسعودية من الشرق الأوسط العربي، وإيران، وتركيا، وإسرائيل كدول غير عربية في المنطقة. وللوهلة الأولى ، يبدو أن لهذه الدول الفاعلة مصالح متناقضة مما قد يعني أن رهانات استفراد دولة بقيادة المنطقة ربما تطرح مخاطر تفوق أي تداعيات إيجابية لهذا الاستفراد. وإلى ذلك، فإن التوتر الناتج عن تعارض المصالح الضخم في الشرق الأوسط يسترعي اهتمام القوى النافذة في النظام الدولي التقليدية، والصاعدة منها، ويعزز من فرص الاختراق المستمر للنظام الإقليمي من طرف القوي الكبرى، مما يزيد من تعقيد أوضاع المنطقة.

وسنحدد بداية النظام الإقليمي محل الدراسة، ثم نناقش مفهوم الدور والقيادة في العلاقات الدولية، قبل أن نحاول أخيرا استشراف إمكانية بروز قيادة إقليمية في المنطقة، والسيناريوهات المختلفة لهذا الاحتمال.

أولا- النظام العربي أم الشرق أوسطي؟

من شأن تحديد النظام الإقليمي موضوع الدراسة تبسيط منطق التحليل وتعقيده في آن واحد، حيث يمكن أن نلمح اتجاهين رئيسيين في هذا السياق. يتبني الاتجاه الأول(1) مفهوم المنطقة العربية التي تمتد من موريتانيا غربا إلي العراق شرقا، والتي تنضوي دولها ضمن جامعة الدول العربية كتعبير مؤسسي وتنظيمي لما يمكن وصفه بالنظام الإقليمي العربي. بينما يرى اتجاه ثان أن النظام الفعلي القائم في المنطقة هو نظام يشمل كل الدول العربية، إضافة إلى بعض دول الجوار غير العربية، خاصة إيران، وتركيا وإسرائيل. نتحدث هنا بالتالي عن النظام الإقليمي الشرق أوسطي.

في إطار الاتجاه الأول الذي يقول بوجود نظام إقليمي عربي، يمكن تبين أن إمكانية بروز قيادة إقليمية كانت دوما في حدها الأدنى، ولم تعرف المنطقة العربية تاريخيا بروز قيادة لتفاعلاتها إلا من خلال وجود حالة تضامن بيني عربي علي حد أدني من المبادئ المشتركة، وحول قضايا عدَّها الزعماء العرب مصيرية، أهمها القضية الفلسطينية. وتأرجحت أنماط بروز قيادة عربية بين محاولة هيمنة دولة عربية علي هذا النظام (مصر في عهد جمال عبد الناصر)، أو توزيع هذه الهيمنة بين دولتين عربيتين أو أكثر عبر حقب متعددة (مصر بين عامي 1967 و1978، والسعودية بين عامي 1967 و1975، والجزائر في عهد هواري بومدين، وسوريا في عهد حافظ الأسد، والعراق في عهد صدام حسين في فترة ما قبل حرب الخليج الثانية 1978-1990). وانتهت الأوضاع العربية في العشرية الأولى من الألفية الثانية إلى نوع من الفوضى الجيوسياسية، كانت النتيجة المنطقية لسلسلة الاختراقات الأمنية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية الأمريكية والإسرائيلية للمنطقة العربية.

أما الاتجاه الثاني والأخير الذي يقول بوجود نظام إقليمي شرق أوسطي، فإنه يستند إلى جملة اعتبارات، أبرزها:

– الاعتبار الجيوسياسي: لا يمكن فصل السياسة عن الجغرافيا، فالمنطقة العربية محاطة بمجموعة من الدول لا تربط بينها وبين الدول العربية علاقات ودية بالضرورة، لكنها علاقات تتميز بالاستمرارية، والنظمية، والتأثير المتبادل(2).

– الاعتبار التاريخي: يحاجج أصحاب هذا الاتجاه بأن المنطقة هي قلب العالم القديم، والحضارات الإنسانية، والديانات السماوية، وبالتالي فلا يمكن أن تستأثر أي جماعة بشرية بمفردها بحق من الحقوق علي هذه المنطقة. والمقصود هنا العنصر العربي الذي، وفقا لهذه الرؤية، يجب أن يتعايش مع العناصر الفارسية (إيران)، والطورانية (تركيا)، واليهودية (إسرائيل).

الاعتبار الواقعي: من الاعتبارين السابقين، يمكن الوصول إلي نتيجة منطقية تحكم طبيعة العلاقات بين دول المنطقة، وهي العلاقات ذات النمط الهوبزي، حيث التناقضات مستحكمة في تفاعل الدول مع بعضها بعضا(3)، سواء كانت بين الدول العربية، أو بين هذه الأخيرة والدول المجاورة غير العربية. في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلي احتمال وجود تفاهمات ضمنية بين بعض دول الشرق الأوسط العربية وغير العربية في مواجهة دول أخري من الفئتين. ومن أبرز أمثلة هذا النموذج ما اصطلح علي تسميته، خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدول محور الاعتدال، ودول محور الممانعة، التي هي في حقيقة الأمر تكريس واقعي وصريح لتناقضات البيئة الإقليمية العربية، والتخطي بها إلى مستوى مفهومي أعلى، هو النظام الشرق أوسطي. كما أن الحرب الأهلية السورية أدت إلي تشكيل محاور تقاطعت فيها دول المنطقة بين مؤيد للحكومة السورية، ومؤيد للمعارضة المسلحة.

تؤدي هذه الاعتبارات إلي نتيجة، مفادها أن دراسة التفاعلات الدولية في هذه المنطقة هي من التعقيد بمكان، مما يجعل فصل البيئة العربية عن باقي الدول المحيطة بها غير ناجع من حيث تحديد المفاهيم. فالمتغيرات الدولية والإقليمية تحتم على الدارس تحديد هوية المنطقة التي لا يمكنها أن تبقي عربية فقط، بل تتجاوز البعد العربي إلى المدي الشرق أوسطي الأوسع بضمه لثلاث دول محورية هي إيران، وتركيا، وإسرائيل. على ذلك، فإن مصطلح المنطقة سيعني في هذه الورقة منطقة الشرق الأوسط، لا المنطقة العربية، كما يحددها النظام الإقليمي العربي المتمثل في جامعة الدول العربية.

ثانيا-  معضلة القيادة ومخاطر الفوضي في الشرق الأوسط:

إذا كان مفهوم الدور يعني “مجموعة السلوكيات المتوقعة اجتماعيا، والمرتبطة بوظيفة معينة”(4)، فإن مفهوم القيادة في نظام دولي ما ينصرف عادة إلي ممارسة مدي قدرة دولة ما على تحديد قواعد تفاعل تضمن لهذا النظام الاستقرار والاستمرارية من جهة، وفرض احترام هذه القواعد من جهة أخري. وترتبط هذه القدرة عادة بمقومات قوة الدولة من معطيات جغرافية، وسياسية، وعسكرية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية، ومن مواردها الطبيعية، لكن أيضا من إدراكها لمكانتها ضمن الساحة الدولية، وأهدافها، ومدي اتساقها مع ممارسة هذا الدور من عدمه. وتتحدد فاعلية الدور بمدي فهم الفواعل الدولية الأخرى المؤثرة في هذا النظام له، وقبولها به. وبالتالي، فإنه على المستوي المفاهيمي، يمكن تحديد المعايير اللازمة لبيان مدى تحقق هذه الحالة القيادية فيما يأتي(5):

– القوة النسبية للدولة الطامحة للريادة والصعود في المنطقة، بمعنى أن قوتها يجب ألا تكون مطلقة تجاه الدول الإقليمية الأخرى، حيث يتعين توافر حد أدنى من توازن القوي بينها، حتى لا تكون علاقة تبعية، وحتى يتوافر للقيادة معناها:

– قبول الدول الأخرى في الإقليم بدور القيادة والريادة للدولة الصاعدة، بمعنى أنها تسلم لها بالنفوذ، والقدرة علي حل المشاكل، وإدارة الأزمات إقليميا دون تدخل القوى الخارجية.

– عدم كفاية الإطار المؤسسي الإقليمي، وقلة فاعليته في أنظمة مثل الشرق الأوسط لتحديد حالة القيادة.

– مدى تدخل القوى العظمى في هذا النظام الإقليمي.

أما من الناحية البنيوية، فإنه يحب الانتباه إلي محدودية استقلال تفاعلات المنطقة تاريخيا، وبالتالي إمكانية بروز قيادة مستقلة نسبيا فيها عن التفاعلات الكلية لهيكل القيادة في النظام الدولي. وقد خضعت التفاعلات الإقليمية، إبان الحرب الباردة، لتجاذبات الاستقطاب الدولي بين القوتين العظميين. أما في الفترة التي أعقبت زوال نظام الثنائية القطبية، ومحاولة الولايات المتحدة الاستئثار بالهيمنة والقوة علي الساحة الدولية، فقد أصبح مدى الاقتراب من منطق “الإمبراطورية” الأمريكية، ومصالحها، أو المفارقة معهما المحدد للقدر الكبير من التفاعلات الإقليمية، ومحاور التقارب أو التنافس فيها. وخلا إيران التي كانت في حالة مفارقة تاريخية مع الولايات المتحدة، منذ الثورة الخمينية سنة 1979، فقد تكرس الانقسام الإقليمي حول السياسة الأمريكية، في ضوء التحديات الاستراتيجية التي خلفها الفشل الأمريكي في إنجاز تسوية للصراع العربي – الإسرائيلي، طوال عقد التسعينيات من القرن العشرين، ولاحقا تداعيات الاحتلال الأمريكي للعراق (2003).

إلا أن هذه المعادلة يبدو أنها باتت غير مجدية لتأسيس نظام التفاعلات الإقليمية، في ظل ما يبدو هذا عجزا أمريكيا عن فرض حلول أمنية وسياسية في المنطقة، أو إحجاما عنه. ومع إمكانية رد هذا الوضع، بالنظر إلى كون القوة الأمريكية في مرحلة انتقالية من التركيز علي الشرق الأوسط إلي التحول نحو آسيا والمحيط الهادي، مما يؤدي إلي اضطراب السلوك الاستراتيجي الأمريكي تجاه المنطقة، فإن المنطقة باتت مضطرة إلى مواجهة ضرورة تأسيس منطق داخلي مستقل نسبيا لتفاعلاتها، أو مواجهة الفوضى.

لم تكن الفوضى التي تنبأت بها وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق، كوندوليزا رايس، خلاقة لمستقبل أكثر ديمقراطية لدول الشرق الأوسط. فقد كانت الرؤية الأمريكية المتفائلة مجرد عملية تسويق لفرض مبادئ “الإمبراطورية” الأمريكية، كما نظر لها المحافظون الجدد في إدارة الرئيس السابق، جورج بوش الابن، غداة احتلالهم للعراق. إلا أنه جراء هذه الفوضي، فتح باب الطائفية والمذهبية في العراق وفي جواره مصراعيه، ولا تزال شظاياها تحرق جماعات بشرية، بل ودولا بأكملها في المنطقة. وتزداد احتمالية الفوضى في المرحلة الحالية

في مواجهة ما يشهده الشرق الأوسط حاليا من اتجاهين متعارضين، أولهما: تراجع الاهتمام الأمريكي بالانخراط في المنطقة، آخرهما: محاولة إثارة منافسين إقليميين ودوليين للولايات المتحدة تحديات لها في الشرق الأوسط لخفض قدرتها على الالتفات خارجها.

نتج الاتجاه الأول جزئيا عن عبء الانخراط الأمريكي العسكري المباشر في أفغانستان والعراق، حيث لم يستطع الاقتصاد الأمريكي تحمل هذا الجهد المالي غير المسبوق. وفرض منعرج الأزمة المالية العالمية لسنة 2007-2008 إعادة ترتيب الأولويات في البيت الأمريكي لضمان الحفاظ علي القوة والهيمنة الأمريكية عبر العالم، حتي ولو تطلب هذا إدخال تعديلات مهمة علي الأجندة الاستراتيجية الأمريكية. وكان لمنطقة الشرق الأوسط النصيب الأوفر من هذه التعديلات التي بدأت داخليا في الولايات المتحدة مع انتخاب الرئيس باراك أوباما سنة 2008، والتي يمكن حصرها فيما يأتي:

الإعلان عن الانسحاب من العراق في سنة 2011، ومن أفغانستان سنة 2014.

الإعلان عن إرادة أمريكية في فتح صفحة جديدة مع العالم الإسلامي، ودحض مقولة حتمية صراع الحضارات، خاصة بين المسيحية الغربية، بزعامة الولايات المتحدة، والإسلام (خطاب أوباما في القاهرة، يونيو 2009).

الاعتماد على القوة الناعمة لكسب تأييد المجتمعات المدنية والنخب في دول الشرق الأوسط من أجل التمكين للتحول الديمقراطي، بدل الاعتماد على مبدأ المحافظين الجدد: “الديمقراطية المحمولة على الدبابات”.

الاعتراف بشرعية القوي السياسية الإسلامية التي تحترم قواعد اللعبة الديمقراطية، وهذا ما تجلي في القبول باعتلاء الأحزاب والتنظيمات الإسلامية سدة الحكم في بلدان الربيع العربي كتونس، ومصر، وليبيا، والمغرب.

إعلان الرئيس أوباما، ووزيرة خارجيته السابقة، هيلاري كلينتون، عن ضرورة التحول الاستراتيجي الأمريكي من الشرق الأوسط إلي منطقة آسيا والمحيط الهادي (الباسيفيكي)، مما يعني مراجعة استراتيجية لمكانة المنطقة في الحسابات الدولية. ولقد عبرت مستشارة الأمن القومي الأمريكي، سوزان رايس، بعبارات صريحة عن حتمية تراجع مكانة الشرق الأوسط في استراتيجية بلادها: “ليس بمقدورنا أن يستغرق إقليم واحد وقتنا كله، أيا كانت أهميته، ويرى الرئيس أن الوقت مناسب لخطوة للوراء، وإعادة التقييم، بطريقة نقدية وغير متزمتة، لكيفية إدراكنا لمكانة إقليم معين. وإن هدف الرئيس هو تجنب أن تبتلع الأحداث في الشرق الأوسط كل أجندة أعمالنا، كما كانت عليه الحال مع الرؤساء قبله”(6).

التخفيف الاستراتيجي من الاعتماد علي النفط الخليجي، بحيث انتقلت الواردات الأمريكية من هذا النفط من 1.007 مليون برميل سنة 2001 إلي 789.082 برميل سنة 2013، مما يعني مزاوجة الإدارة الأمريكية بين التحول الاستراتيجي عن منطقة الشرق الأوسط، والتحول الطاقوي باتجاه مناطق أخري، أهمها في وسط وجنوب أمريكا، بالإضافة إلي نفط كندا.

تزايد أتباع تيار إعادة النظر في التوسع الأمريكي في المنطقة مما أدي إلي اتخاذ سلسلة من القرارات المرتبكة حيال ما عرف بـ “ثورات الربيع العربي” كالتذبذب في الموقف الأمريكي حيال الثورة المصرية، ثم الفوضى السورية، فيما كان الموقف أكثر وضوحا حيال إطاحة العقيد معمر القذافي في ليبيا.

فتح التأرجح في المواقف الأمريكية الأخيرة حيال الأحداث في المنطقة الباب واسعا أمام عودة روسيا إلي المنطقة، ودخول فاعل جديد إلي الحلبة الشرق أوسطية (الصين). ولقد تجلي تحدي الثنائي الروسي – الصيني للسياسة الأمريكية في مواقفهما المؤيدة للحكومة السورية، واستخدام حق النقض في مجلس الأمن ضد القرارات الغربية ضد نظام الرئيس بشار الأسد. كما دعمت روسيا والصين إيران فترة طويلة في مواجهة العقوبات الغربية. وتزايدت مؤشرات تنامي الدور الروسي في المنطقة من خلال بوابة تقليدية للإمبراطورية الروسية، هي مصر التي بدأت تحت رئاسة عبد الفتاح السيسي في الاتجاه إلي روسيا لتحقيق التوازن الاستراتيجي في علاقاتها مع الولايات المتحدة. إلا أن هذه المؤشرات تمتد كذلك إلى المملكة العربية السعودية، البوابة العربية الثانية لروسيا في المنطقة، حيث توالت زيارات المسئولين السعوديين إلي موسكو من أجل التوصل إلي تفاهمات بخصوص الأوضاع السياسية والأمنية في سوريا، وإلي الحد من التقارب الروسي – الإيراني لمصلحة مزيد من التقارب الروسي – السعودي.

أما بالنسبة لتزايد الدور الصيني في المنطقة، فهو مرتبط بالصعود التدريجي والسلمي لإمبراطورية الوسط علي الساحتين الآسيوية والعالمية. وبلغة الأرقام، أصبحت الصين سنة 2009 أكبر مصدر لدول الشرق الأوسط، محتلة بالتالي المركز الذي كانت تتبوؤه الولايات المتحدة لعقود. كما تضاعف حجم التبادل التجاري بين الصين والدول الشرق أوسطية في أربع سنوات، حيث ارتفع من 62 مليار دولار سنة 2005 إلي 118مليار دولار سنة 2009(7). سياسيا، تعتمد الصين علي حليف تقليدي في المنطقة، هو إيران، لكن هذا لا يعني أنها لا ترغب في إيجاد تحالفات أخري. فخلال أربع سنوات، عقدت الصين اتفاقات شراكة وتعاون استراتيجي مع ثلاث دول فاعلة في المنطقة هي مصر (2006)، والسعودية (2009)، وتركيا (2010).

الملاحظ هنا هو ارتسام ملامح مشهد شرق أوسطي جديد، لن تبقى فيه الولايات المتحدة الفاعل الخارجي الوحيد الذي يؤثر في المنطقة. فدخول فواعل أخرى، كروسيا والصين، إلى جانب محاولة بعض دول المنطقة الارتقاء للعب الأدوار القيادية فيها، يعقدان من الرؤية التحليلية لمستقبل المنطقة. فما هي المشاهد المحتملة لبروز قيادة إقليمية على المدى المنظور؟.

سيناريوهات صعود أو غياب قوة إقليمية قائدة في الشرق الأوسط :

سنتناول سيناريوهات صعود أو غياب قوة إقليمية في المنطقة، انطلاقا من مجموعة من العناصر (المقومات والمعوقات) التي تحدد فرص كل دولة. وتتمثل هذه العناصر في قدرة الدولة علي تحمل القيادة، انطلاقا من مقومات القوة التي تحوزها (جغرافيا كان، أو سياسيا، أو عسكريا، أو اقتصاديا) درجة استقرارها السياسي والأمني، ورصيدها القيادي التاريخي، ونفوذها الرمزي (الثقافي والديني)، وموقفها من القضايا المحورية في المنطقة (القضية الفلسطينية، حركات المقاومة الفاعلة إقليميا، الملف النووي الإيراني، الربيع العربي)، ومدى القبول الإقليمي بالدور القيادي لكل دولة وعلاقاتها مع بعض القوى الدولية الصاعدة كروسيا والصين.

في السيناريو الثالث، سنحاول تطبيق معيار آخر هو طبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة، إذ لا يمكن تصور صعود دولة إقليمية في الشرق الأوسط دون الموافقة الأمريكية على هذا الدور، مما يعني أن مقومات ومعوقات كل دولة لا تكفي لوحدها من أجل تحديد الاتجاهات المستقلبية للمنطقة، حيث يبقى العامل الخارجي (الولايات المتحدة) طاغيا على التفاعلات الإقليمية.

السيناريو الأول- احتمال صعود قوة إقليمية عربية:

يعني هذا الاحتمال عودة دولة من الدول العربية إلى لعب دور القيادة في المنطقة، والدولتان المرشحتان هما مصر والسعودية، حيث إنه برغم مواطن الضعف التي تعانيها كلتاهما، فإنهما فقط الدولتان اللتان تمتلكان مقدرات قومية متعددة يمكن أن تنتج آثارا ونفوذا على مستوي التفاعلات الإقليمية، الكلية والمتنوعة.

تسعي مصر إلي معالجة عناصر الضعف التي أصابت بناءها السياسي، وأرصدة قوتها الشاملة في السنوات الأخيرة من حكم حسني مبارك. وتشكل الشرعية الشعبية التي واكبت انتصار ثورة 25 يناير الزخم الذي كانت الدبلوماسية المصرية بحاجة إليه من أجل إعادة التموقع الإقليمي، من خلال العودة إلى لعب الأدوار الأولي في المفاوضات الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس، وفي العلاقات الفلسطينية – الإسرائيلية، وعلى مسار الأحداث في سوريا، والعراق، وأمن الخليج.

وفي حين أن تباين المصالح والتوجهات أعاق، خلال حكم الرئيس المصري السابق محمد مرسي، المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، تقاربا مصريا – سعوديا بسبب ما بدا من تطلع الجماعة لمد نفوذها عربيا، وعلى نحو يهدد ركائز وجود أنظمة حاكمة عربية أخري، خاصة في منطقة الخليج، فقد فاقم هذا التباين تزايد التأثير القطري في النخب العربية الحاكمة والمنتمية إلي تنظيم الإخوان المسلمين. إلى ذلك، فقد كان محور القاهرة – أنقرة أكثر تماسكا من العلاقات المصرية – السعودية، أو التركية – الإيرانية، فضلا عن الفتور بين مصر وإيران، وبين هذه الأخيرة والسعودية لأسباب سياسية واستراتيجية لا تزال قائمة. ويمكن تفسير متانة العلاقات المصرية – التركية بالتوجه الإسلامي للنظامين الحاكمين.

في المقابل، يبدو بوضوح أن مصر في عهد الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي تحاول تقويم بوصلة السياسة الخارجية باتجاه استقلالية أكثر عن الحليف التقليدي الأمريكي، حيث راحت مصر تسعى إلى تحالفات جديدة مع القوى العالمية الصاعدة، خاصة روسيا والصين، وإلى التركيز على العلاقات مع السعودية في الخليج، وعلى الجزائر في المغرب العربي، من أجل بعث التصور المصري التاريخي في واقعيته السياسية، من خلال إيجاد مرتكزات عربية في الإقليم المباشر، والخروج من منطق العلاقات الاحتكارية مع الولايات المتحدة دون غيرها من القوى الدولية الأخرى، مما يعني البحث عن استقلالية أكبر في اتخاذ القرار، والتمكين لهامش مناورة أكبر كذلك.

هذا الطموح المصري تحده بعض المعوقات الهيكلية التي تقلص من هامش مناورة الدبلوماسية المصرية. فمصر بحاجة إلى عودة الاستقرار الأمني في ربوعها، الذي انعكس سلبا على عوائدها المالية السياحية أساسا، ما جعلها تعتمد على القروض التي منحتها الدول الخليجية (السعودية، والكويت، والإمارات). لن تمكن هذه الهشاشة مصر من العودة إلى لعب سالف دورها كدولة قائدة في المنطقة، لأن منافسا عربيا آخر يطمح إلى الارتقاء إلي هذا الدور.

من جانبها، تحاول السعودية الظهور في منزلة القوة العربية الوحيدة في الشرق الأوسط، مبرزة ثلاثة عوامل ترى أنها كفيلة لتكريسها كقوة صاعدة في المنطقة. أولا: الموارد المالية الضخمة التي تحوزها المملكة تمكنها من استعمال دبلوماسية الشيكات، سواء لتقديم المساعدات لدول أخري، أو لشراء الذمم، وضمان الانحياز إلي المواقف السعودية. ثانيا: الموارد النفطية التي تجعل من المملكة المصدر الأول للنفط في العالم، وهذا يعني إمكانية التأثير، ولو نسبيا، في استراتيجيات القوي التي تعتمد على النفط السعودي. ثالثا: الدين الإسلامي. فبحكم إدارتها للأماكن الإسلامية المقدسة، تلعب السعودية على وتر الحساسية الدينية لضمان ولاء جماعات بشرية عديدة عبر العالم.

لكن الدور السعودي المأمول لدي صناع القرار السعوديين يصطدم بعوامل جيوسياسية عديدة، لعل أبرزها التنافس السعودي – الإيراني على النفوذ في الخليج العربي، واعتماد السعودية على المظلة الأمنية الأمريكية، مما يعيق استقلالية اتخاذ القرار الأمني والاستراتيجي السعودي، والتقاء المصالح السعودية – الإسرائيلية ضمنيا حول ضرورة مواجهة الطموح النووي الإيراني. وأخيرا، فإن طبيعة النظام السياسي السعودي المغلقة، ومخاطر ترتيب مستقبلي لخلافة الملك عبدالله بن عبدالعزيز تعقدان الرهان على استقرار المملكة على المدي المتوسط.

كل هذه العوامل تجعل من إمكانية صعود قوة إقليمية عربية في المنطقة ضئيلة، بالنظر إلي المعوقات الهيكلية، والمتغيرات الإقليمية والدولية التي تحول دون ذلك. وبالتالي، يمكن استشراف مشهد آخر يقول بإمكانية صعود القوي غير العربية في المنطقة.

السيناريو الثاني- احتمال صعود قوة إقليمية غير عربية:

يقوم هذا المشهد علي فرضية استبعاد صعود دولة عربية، ومنه يتسني الأمر لإحدى دول المنطقة الثلاث -غير العربية- الفاعلة في النظام الإقليمي الشرق أوسطي، وهي إيران، وتركيا، وإسرائيل. لكل منها مقومات القوة، لكن كذلك هناك عناصر تحد من احتمال قيامها بمفردها بدور الدولة القائدة في المنطقة.

فإيران تمتلك من مقومات القوة الجغرافية، والبشرية، والاقتصادية، والعسكرية ما يؤهلها للعب الأدوار الأولي في المنطقة. لكن الملاحظ أن عناصر القوة الإيرانية قد تتحول في الوقت نفسه إلي معوقات تحدد طبيعة علاقاتها مع بعض الفواعل الإقليمية والدولية. جغرافيا، مكانة إيران الممتازة علي الخليج العربي الفارسي تحولت في العشرية الأخيرة إلى نقطة ضعف، كون القواعد العسكرية الأمريكية تحيط بها من كل الجوانب تقريبا (دول الخليج العربية، وباكستان، وأفغانستان، والعراق، وأذربيجان). أضف إلى ذلك التنافس الإيراني – السعودي على الهيمنة في الخليج، واحتدام الصراع بين البلدين حول عدة قضايا استراتيجية، منها مسألة البحرين، وحماية الأقليات السنية في إيران، والشيعية في السعودية، وتصادم المصالح الثنائية في العراق، وسوريا، ولبنان.

استراتيجيا، بدأت إيران في إجراء حوار حذر مع القوي الغربية، لاسيما الولايات المتحدة، حول المسألة النووية. تقول إيران بأحقية امتلاكها للطاقة النووية السلمية، بينما يرفض الغرب وإسرائيل ودول عربية، لاسيما السعودية، أي احتمال نووي إيراني، ولو كان تحت مبدأ الغموض النووي. كما تعمل به إسرائيل. فالتقارب الإيراني – الأمريكي الحذر كانت له نتائج على مستوي التصورين السعودي والإسرائيلي لأي احتمال تطبيع كامل بين طهران وواشنطن، وهذا يجعل المسألة الإيرانية شائكة بالنسبة لمستقبل العلاقات العربية – الإسرائيلية. من جهة أخرى، يمكن لإيران، وبتفاهمات ضمنية مع الولايات المتحدة، أن تلعب دور الموازن من أجل استقرار العراق، والمسهل لإنهاء الحرب الأهلية السورية، والفوضى الأمنية في لبنان عبر التأثير في حلفائها الإقليميين: حكومة الرئيس بشار الأسد في سوريا، وحزب الله اللبناني.

على المستوي الديني والرمزي، تقدم إيران نفسها بمنزلة حامٍ لكل المسلمين الشيعة في المنطقة، مما يفسر علاقاتها مع الحكومة العراقية السابقة، بزعامة نوري المالكي، والحكومة السورية، وحزب الله اللبناني، والمعارضة البحرينية وحتي الحوثيين في اليمن، وكلها مسائل خلافية مع السعودية، وبدرجة أقل مع تركيا، بحيث تتهم إيران بتغذية النعرات الطائفية والنزاعات ضد السنة في العراق، وسوريا، ولبنان، والبحرين، واليمن، مما يشكل تهديدا وجوديا بالنسبة للسعودية.

أما فيما يتعلق بالمساندة الإيرانية للمقاومة الفلسطينية واللبنانية، وهذا هو بيت القصيد في العلاقات النزاعية بينها وبين إسرائيل، فإن احتمالات المواجهة المباشرة بين الطرفين تبقى ضئيلة بالرجوع إلي الثقل العسكري لكل منهما، وإلى تداعيات حرب محتملة علي النظام الإقليمي، وحتى على النظام الدولي. ومنه، فالعداء الإيراني – الإسرائيلي لا يعدو كونه حربا كلامية يسوقها الطرفان لأغراض داخلية بحتة، وإن كانت هنالك مظاهر محدودة لحروب إلكترونية، واغتيالات للعلماء والمهندسين، لكنها لا ترقى إلى مستوي إعلان الحرب.

أما تركيا، فقد حاولت منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلي السلطة، سنة 2002، انتهاج سياسة جديدة، كان مهندسها الرئيسي وزير الخارجية، أحمد داود أوغلو، ونظريته للعمق الاستراتيجي، وتصفير النزاعات. لكن الإشكال الأساسي بالنسبة لتركيا هو إرثها ورصيدها في المنطقة، والذي ليس بالضرورة إيجابيا. فالعرب يرون فيها مستعمرا حكمهم لمدة خمسة قرون، بينما يرى فيها الإيرانيون عدوا لدودا، وحليفا للغرب ولإسرائيل، كونها عضوا في حلف الناتو، بينما لا يعد الإسرائيليون الأتراك حلفاء موثوقين.

صحيح أن الحكومة التركية تبنت عدة سياسات، حاولت من خلالها إعادة كسب الثقة مع كل جيرانها، فقد منعت استعمال أراضيها لغزو العراق سنة 2003، وطبعت علاقاتها مع سوريا، حتي أضحت تركيا الوسيط بين دمشق وتل أبيب في مفاوضات غير مباشرة سنة 2008، وانتفض رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان في وجه الرئيس الإسرائيلي، شمعون بيريز، في منتدى دافوس، وأطلقت أسطول الحرية الذي أبحر من اسطنبول لكسر الحصار على غزة، وبدأت في بناء حوار استراتيجي رباعي تركي – إيراني – عراقي – سوري سنة 2010، كما ساندت الانتفاضات الشعبية العربية، فيما سمي بالربيع العربي منذ بداية .2011

لكن الخطأ التركي تمثل في الشعور الوهمي بفائض قوة تحوزه تركيا، مما يخولها التدخل في شئون المنطقة بمنطق استعلائي(8) منذ مساندة التدخل الأطلسي ضد ليبيا (2011)، والمعارضة السياسية والمسلحة السورية (منذ مارس 2011)، والإخوان المسلمين بعد الإطاحة بهم في مصر (يوليو 2013). فائض القوة هذا الموهوم كان السبب الرئيسي في إضاعة تركيا لمكاسب العمق الاستراتيجي، ونظرية تصفير النزاعات. إذ بات لأنقرة عدو في دمشق (سوريا)، ومشكلة في العراق (احتمال استقلال إقليم كردستان وتداعياته على أكراد تركيا)، ومنافس يسعى إلى حماية السنة في المنطقة (السعودية)، ومنافس آخر يسعى إلى تقديم نفسه كقوة إسلامية مؤثرة في الشرق الأوسط (إيران)، ونصف حليف ونصف عدو في الوقت نفسه (إسرائيل)، ومستوى علاقات متدنية مع قوة إقليمية عربية (مصر).

تبقى إسرائيل محل توافق فيما يخص استحالة إمكانية قيادتها للمنطقة، فالمعوقات الموضوعية الكثيرة تحول دون استطاعتها لعب هذا الدور. إذ من محددات قيادة نظام إقليمي قبول الأطراف بقيادة أحدها، والتسليم له بالنفوذ، وتسوية النزاعات داخل هذا النظام، وهذا ما لا يتوافر في إسرائيل، لأنها أولا دولة تحتل الأراضي الفلسطينية، واللبنانية، والسورية، فهي دولة مغتصبة للقانون الدولي. من جهة أخري، باستثناء مصر، والأردن، عربيا، وتركيا إقليميا، لا تعترف باقي دول المنطقة بإسرائيل، مما يعيق جديا إمكانية لعبها للدور القيادي. كما أن الواقعية السياسية الإسرائيلية كانت، ولا تزال، تعمل على بلقنة وتشتيت المنطقة، لكي تبرز بمنزلة الكيان الطبيعي، وسط كيانات تولد من رحم الدول العربية المجزأة، وفقا للمعطى الإثني، أو الديني، وحتي الطائفي. ومنه لا يمكن لهذا المنطق أن يتحول إلى نقيضه، وتصبح إسرائيل العنصر الجامع، وليس المشتت والمفرق.

من جهة أخرى، لا يمكن لمصر أن تقبل بصعود قوة إسرائيلية كفيلة بقيادة المنطقة، لأنها ستشكل خطرا على أمنها القومي، وتنافسها في طموحها التاريخي لقيادة المنطقة. بينما لا يمكن للدول العربية الأخرى في النظام الإقليمي الشرق أوسطي أن تقبل بهيمنة إسرائيلية مؤسساتية، تجعل منها الدولة القائد، في هذه النظام. أما تركيا وإيران، اللتان تطمحان إلي لعب هذا الدور، فلا يمكن لهما الاعتراف بالسلام الإسرائيلي، حتى ولو تحججت تل أبيب بامتلاكها للسلاح النووي.

السيناريو الثالث – خلو المنطقة من دولة قائد أو المناولة الاستراتيجية:

انطلاقا من السيناريوهين الأول والثاني، وانطلاقا من أن الدول الخمس المذكورة لا تحوز مقومات القوة الكفيلة بصعودها إقليميا، وتوافر كل منها على المعوقات التي تحول في نهاية المطاف إلى استحالة قيام دولة من بينها بمهام القيادة في النظام الإقليمي الشرق أوسطي، فإن السيناريو المرجح هو استمرار تأثير تناقضات المنطقة في إرادات الدول الطامحة للعب الأدوار الأولي، واستمرار التأثير الأمريكي في كل دولة من هذه الدول.

فالقضية الفلسطينية ستبقى في قلب الهواجس الاستراتيجية لدول المنطقة، خاصة بالنسبة لإسرائيل ولمصر، كما ستؤثر في طبيعة العلاقات المستقبلية بين إسرائيل والدول العربية، وصولا إلي تركيا وإيران، في حالة انفراج علاقاتها مع الغرب. من جهتها، ستؤثر الحرب الأهلية السورية في العلاقات التركية – الإيرانية بحكم تخندق الطرفين في معسكرين مختلفين ومتحاربين، وكأنما أضحت سوريا إسبانيا القرن الحادي والعشرين في حرب أهلية تتحارب فيها جيوش ومرتزقة دول أخرى، وفق مصالح وأيديولوجيات متطاحنة. أما الإسلام السياسي، فإن توظيفه من قبل السعودية، أو إيران، أو حتى تركيا سيستمر في تذكية الخلافات المذهبية والطائفية في عدة دول هشة اجتماعيا كالعراق، ولبنان، واليمن، والبحرين، وسوريا.

كل هذه المعطيات تؤدي إلى القول إن الشرق الأوسط سيبقى بيئة محكومة بالمنطق المتضمن في فلسفة الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز(1)، إذ إن المصالح المختلفة، بل والمتناقضة، في غالب الأحيان ستحول دون انفراج الوضع، وانتقاله إلى بيئة من الفكر الذي تطلع إليه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، وهي بيئة تتضافر فيها الجهود من أجل بناء نظام مستقر يقوم، سواء علي قيادة فردية للمنطقة، أو على توازن بين القوى الطامحة للقيادة. والنتيجة المنطقية ستكون استمرار الهيمنة والنفوذ الأمريكيين علي الشرق الأوسط، ليس مباشرة كما كان عليه الأمر لعقود مضت، وإنما من خلال نوع من المناولة الاستراتيجية، وتقسيم العمل على المستوي الإقليمي، حيث تقوم كل دولة من الدول الخمس بدور محدد، وفقا للأجندة الأمريكية، وهي أدوار تؤدي إلى استحالة بروز قطب أو دولة مهيمنة. فالمصالح القومية الأمريكية في المنطقة ستلعب دور الكابح لأي طموح إقليمي إلى حد اللعب على وتر التناقضات الإقليمية من أجل تشجيع نظام إقليمي يحيد فيه كل طرف الطرف الآخر، مما يضمن استمرار الهيمنة الأمريكية على بيئة تنافسية هوبزية.

وبالرجوع إلى قضية المناولة الاستراتيجية، وتقسيم العمل الإقليمي، يمكن طرح فرضية قيام كل دول من الدول الخمس بمهمة، انطلاقا من مقومات قوتها الإقليمية دون ترجيح المعوقات، وهذا بالرجوع إلى الحوافز والكوابح الأمريكية لدور كل فاعل إقليمي. فالسعودية مثلا يمكن أن توكل لها مهمة “تطهير” الإسلام السياسي، والتيار السلفي من العناصر الأيديولوجية التكفيرية والجهادية، بينما ستضمن مصر اتفاق سلام فلسطينيا – إسرائيليا محدود السقف. أما إسرائيل، فيمكنها أن تلوح بالردع النووي من أجل ثني أي خطر إيراني، في حال عدم التوصل إلى حلحلة الخلاف بين إيران والغرب، بينما تستطيع إيران، في حال انفراج علاقاتها مع الغرب، لجم الحركات الشيعية المسلحة، والمقاومة في لبنان، وبدرجة أقل في العراق، وتقاسم الأدوار مع السعودية من أجل ضمان أمن الخليج العربي – الفارسي. أخيرا تركيا، سيراد منها فرض الاستقرار في المناطق الكردية التي يمكنها أن تحلم بالانفصال، سواء عن العراق، أو حتى عن الدولة التركية، كما ستبقى تركيا بمنزلة نموذج نجاح الديمقراطية الإسلامية في منطقة يرى البعض أنها عصية على التحول نحو الديمقراطية.

خاتمة:

مما سبق، يمكن استنتاج أن النمط القيادي الأكثر ترجيحا في المنطقة هو غياب بروز دولة أو مجموعة دول (قطب) تهيمن على الشرق الأوسط بسبب عدم توافر أغلب مقومات القوة في دولة بعينها، إلى جانب عدم رغبة وقبول كل دولة بصعود دولة أخرى وقيادتها للمنطقة. وفي الواقع، فإن المعوقات الهيكلية تحول دون استئثار دولة واحدة بمهمة القيادة، أضف إلى هذا الدور الأمريكي الكابح لكل طموح مستقل، لأنه ليس من مصلحة الولايات المتحدة أن تكون في الشرق الأوسط قوة مستقلة استراتيجيا عن المنطق الأمريكي. فالمناولة الاستراتيجية التي يمكن أن تقبل بها الولايات المتحدة، كهندسة إقليمية جديدة، لا تعني تمتع الدول الخمس المذكورة بهامش مناورة يسمح لها بالصعود إقليميا، لأن المصالح الأمريكية في المنطقة ستبقى تؤثر في مستقبل تعامل الولايات المتحدة مع الشرق الأوسط للحسابات التقليدية نفسها (ضمان تدفق النفط، وأمن إسرائيل، ومكافحة الإرهاب).

هذه القيود الأمريكية على القوي الإقليمية يترتب عليها تحفيز قيام هندسة شرق أوسطية هوبزية تنافسية تحيد فيها كل دولة الدول الأخرى، مما يعني أن تحول الولايات المتحدة الاستراتيجي من الشرق الأوسط نحو آسيا والمحيط الهادي ليس مرادفا لتخليها عن الاهتمام بالمنطقة، أو عن إدارة شئونها، وأن التقاعس الأمريكي الحالي تجاه المنطقة ما هو إلا تقاعس ظرفي ينتهي بترتيب النظام الإقليمي الشرق أوسطي الجديد.

الهوامش:

1- علي الدين هلال، جميل مطر، النظام الإقليمي العربي.. دراسة في العلاقات السياسية العربية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1978، ص ص 16-.17

2- حامد ربيع، قراءة في فكر علماء الاستراتيجية.. إدارة الصراع العربي – الإسرائيلي، القاهرة: دار الوفاء، 1999، ص28.

مع ملاحظة أن اليهودية هي دين وليست عرقا. لكن إذا أخذنا بالتقسيم الأنثروبولوجي الذي يركز علي مقولة مفادها أن اليهود ساميون، فإن هذا يعني كذلك القول إن العرب كذلك هم ساميون. بيد أن بعض الدراسات الحديثة أخذت في دحض مقولة سامية اليهود، وبالتالي قرابتهم الأنثروبولوجية مع العرب. ومنه، تطرح إشكالية أحقية وصحة المقولات التي يوظفها الإسرائيليون في بناء فكرة تاريخانية الوجود اليهودي  الإسرائيلي في المنطقة.

3- Bahgat Korany, Globalization and (In) Security in AMENA. A Contextual Double-pronged Analysis, in Ersel Aydinli and James N. Rosenau (eds), Globalization, Security, and the Nation-State. Paradigms in Transition. New York: State University of New York Press, 2005, p.135.

4- منصور حسن العتيبي، السياسة الإيرانية تجاه دول مجلس التعاون الخليجي (1979 – 2000). دبي: مركز الخليج للأبحاث، 2008، ص 34.

5- دلال محمود السيد، “معضلات “الدولة القائد” في النظم الإقليمية والدولية”، مجلة السياسة الدولية (ملحق اتجاهات نظرية)، العدد 196، أبريل .2014

6- وليد عبدالحي، الوطن العربي 2014: مزيد من التفكك، تقرير مركز الجزيرة للدراسات، الموقع الإلكتروني:

http://studies.aljazeera.net/reports/01/2014/.201411364721783212htm

7- صحيفة الوسط البحرينية، عدد 3151، 24 أبريل 2011، الموقع الإلكتروني:

http://www.alwasatnews.com/3151/news/read/547273/.1html

8- محمد نور الدين، “تركيا وسوريا: نهاية “العمق الاستراتيجي”. شئون الأوسط، العدد 139، صيف 2011، ص67

أحمد الكاتب:أستاذ مساعد، المدرسة الوطنية العليا للصحافة وعلوم الإعلام الجزائر

http://goo.gl/OKShJ7

الكلمات الدلالية : النظام الاقليميالعربي، الشرق الاوسط،القوي الكبرى،التحديات الاستراتيجية،ايران،تركيا،الصراع العربي الاسرائيلي،الخليج العربي .