تطور آخر، يضع حكومة الدكتور حيدر العبادي، التي يفترض أنها قد تشكلت على أسس ومرتكزات وطنية جامعة، امام تحد كبير. وما دفعنا لكتابة هذه الورقة هو الوضع الصعب والقاسي في السجون العراقية الذي تؤاخذ عليه الحكومة وأجهزتها، وهو ما كشفت عنه الاعلامية العراقية زينب الكعبي في حديث تلفزيوني بعد أن أطلق سراحها قبل أيام، اذ بينت ما تتعرض له المعتقلات العراقيات في السجون الحكومية من تعذيب وانتهاك لحقوق الانسان .
وقالت الكعبي ان معظم السجينات المعتقلات بتهمة المادة 4 إرهاب أو المتهمات بجـــــرائم البغاء يتعرضن للاغتصاب الممنهج، بشكل منتظم في السجون الحكومية على أيدي سجانيهم. وبينت أنها شاهدت نساء متهمات بالإرهاب تعرضن لمختلف أنواع التعذيب مثل: الضرب بالعصي والصعق بالكهرباء وحلق الشعر والكي في أجزاء متعددة من الجسم وتشويه الوجه بحمض النتريك.
ورغم ان القضية ليست بالجديدة، وكانت السبب الرئيس لتنفيذ الاعتصامات والاحتجاجات في المحافظات (السنية) المنتفضة الست على مدى اكثر من عام ، إلا أنها تبدو اليوم اكثر الحاحاً، لجهة معالجتها وإنهاء هذه الخروقات وسوق مرتكبيها للقضاء، بإشراف ورقابة قانونية ذات شفافية لنأمن من التدخلات، وإماتة القضية بالتسويف والمماطلات والتأجيلات، كما هو ديدن أجهزة السلطة ذات النفس الطائفي المقيت.
وفي موازاة ذلك، فان حكومة العبادي، مطالبة بالإيفاء بالتزاماتها، فالمعتقلون ما زالوا في السجون، وشبح الاغتصاب يشكل هاجساً يومياً مروعاً للمعتقلات واسرهن، ومدن المحافظات الست تقصف بالبراميل المتفجرة يومياً، وتم استعداء قوى التحالف عليها تحت ذريعة “داعش”. ونحن هنا لا نرى أية صلة بين المدنيين السلميين المنتهكة حقوقهم والمعتقلة أبناؤهم وبناتهم، والمدمرة بيوتهم، و”داعش” التي لم يستطع جيش الحكومة المدلل من أن يقف بوجهها.
وما يحل قضية هاتيك السيدات المعتدى على أعراضهن من قبل الأجهزة الحكومية هو إصدار عفو عام فوري، وتقديم العون والمساعدة النفسية لهن ليتجاوزن ما أقدمت عليه الأجهزة الحكومية العراقية من جرائم، وضمان أمنهن بعد إطلاق سراحهن من احتمالات القتل غسلاً للعار بتأهيلهن وتشجيع الزواج بهن، وهنا يقع على القيادات العشائرية والدينية دور كبير في هذه المعالجة. والعفو العام هو أحد التزامات الحكومة، التي ينبغي أن تكون جامعة، وتعبر عن الكل.
ويتساءل المواطن في هذه الظروف عن موقع وزارة حقوق الانسان من هذا كله والتي تبدو غائبة تماماُ حيال ما يحدث في السجون العراقية، والتساؤل موجه ايضا إلى وزارة العدل التي أنيطت بها مسؤولية السجون، ووزارة الشؤون الاجتماعية، وقبل كل هذا لوزارة الداخلية التي فاحت رائحة الفساد المستشري فيها مروراً بوزارة الدفاع، ثم بالقائد العام رئيس الوزراء الذي نرجو أن يكون رئيساً لكل العراقيين دون تمييز. نرى أن كل هذه الوزارات صامتة، وتبرر الانتهاكات، سواء المتمثلة بالحجز العشوائي للنساء بجريرة افعال ذويهن من الرجال، او التأخر في حسم الإجراءات القضائية الخاصة بهن، او الاشكاليات المرتبطة بالمخبر السري والاخبار الكاذبة والكيدية، فضلاً عن تعرضهن للتعذيب والاغتصاب، وأحيانا على مرأى من الأقارب الذكور.
ان الابقاء على مثل هذه التصرفات دون معالجات حقيقية سيؤدي الى زعزعة الثقة بحكومة العبادي، فالمطلوب اليوم خطاب عقلاني يبتعد عن التشنج والشعارات الجوفاء. وصولاً الى حالة سياسية تصحح الاخطاء السابقة، إذ لقد سبق للحكومات المتعاقبة ان انكرت حدوث هذه الانتهاكات، رغم توافر الادلة على الجرائم المرتكبة في السجون بحق المعتقلات والسجينات، وبقي الجلاد طليقاً دون محاسبة، ما جعلته يتمادى في سلوكه الوحشي، مدركاً بانه بمنأى عن المساءلة والمحاسبة.
4200 معتقلة
قالت منظمة “هيومن رايتس ووتش” التي نشرت تقريرا في شباط/فبراير 2014 والمكون من 105 صفحات بعنوان “لا أحد يأمن انتهاك حقوق المرأة في نظام العدالة الجنائية العراقي”، استندت فيه إلى شهادات 27 امرأة وسبع فتيات كن معتقلات، وأقاربهن ومحامين ومسعفين، إضافة إلى وثائق من القضاء ولقاءات مع مسؤولين.
وجاء في التقرير ان الأغلبية الساحقة من السيدات الـ4200 المحتجزات في مراكز تابعة لوزارتي الداخلية والدفاع ينتمين إلى اهل السّنة، كما أكد التقرير أن الإساءات التي تم توثيقها تمس سيدات من كل طوائف المجتمع العراقي وطبقاته. ووفقا “لهيومن رايتس ووتش”، فإن هؤلاء النساء اعتقلن إما من أجل التحقيق معهن بخصوص أقارب مشتبه بهم من الذكور، وإما بدعوى دعمهن للمسلحين، وليس بسبب جرائم يشتبه بأنهن أقدمن على ارتكابها. واكدت المنظمة أن القضاء العراقي لا يفعل ما يكفي للتحقيق في مزاعم التعذيب أو سوء المعاملة، وأنه في كل الحالات الموثقة لديها، تقدمت النساء المفرج عنهن بشكاوى للقضاء ولكن لم يتم التحقيق بشأنها.
وبدت المنظمة دقيقة في وصفها للقضاء العراقي، الذي قالت عنه بانه “ضعيف ومبتلى بالفساد، ويستند في أحكام الإدانة إلى اعترافات منتزعة بالإكراه”، حتى أن قضاة أخبروا المنظمة أنهم تعرضوا للضغط لإدانة نساء من غير توفر أدلة.
وفوائد التقرير المذكور، انها تتوافق مع طلبات جهات ومنظمات مدنية ونسوية بالتحقيق في قضايا انتهاكات حقوق الانسان في السجون، ونواب من لجنة حقوق الانسان، يؤكدون وجود الكثير من شكاوى مواطنين تتحدث عن وجود انتهاكات جسدية وتعذيب وانتهاكات جنسية وضرب وشتم وتحرش، من بينها تعرض احدى السجينات إلى “اغتصاب جماعي من قبل رجال الامن في اثناء نقلها من سجن إلى اخر داخل السيارة التي أقلتها”.
وهناك جانب أكثر خطورة، وهو تضخم التناقض بين مواقف الدولة وحساباتها السياسية ومصالحها، وبين مكون بعينه، لا يرى دائماً الموضوع من الزاوية ذاتها. وفي هذه الحال ونتيجة ضخ مفردات طائفية في ثقافة المجتمع، فان الاعلام المسيس، والقوى السياسية الطائفية ممثلة بمؤسساتها ونوابها، وقواعدها، ترى في قصة انتهاك حقوق السجينات مجرد فبركة ليس الا، تطرح بين الحين والاخر للنيل من سمعة الحكومة الشيعية. ولعل الاصرار على التعامل مع الطائفة السنية من زاوية الارهاب، انما يعبر عن المناخ الذي يعيشه العراق، بحيث تمكنت الطائفية من الاستحكام في المعادلات الامنية والمجتمعية، لتكون ثقافة سياسية وعامة.
استغاثة من معتقلات في سجن الرصافة
ابلغنا مصدر موثوق به، نتحفظ عليه، ويمكننا تقديمه في حال توفرت لجنة وطنية ودولية للتحقيق بهذا الامر، ان المعتقلات الموجودات في الطابقين الرابع والخامس في سجن الرصافة، اللواتي القي القبض عليهن بجريرة انخراط اقرباء لهن من الدرجة الاولى في عمليات وانشطة ضد الحكومة، يطلبن ممن يزورهن من الاقارب تأمين موانع للحمل لهن، خشية من حملهم سفاحاً.
ويفيد المصدر ان التحقيق مع هؤلاء المعتقلات لا يتم الا في الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل، إذ يتعرضن للإهانة الجسدية واللفظية والطائفية. وان اغلب هؤلاء المعتقلات يجدن انفسهن عاريات تماماً في صباح اليوم التالي، بعد ان يتم اجبارهن على تناول الماء او ايه سوائل اخرى، ليفقدن الوعي!!
المخبر السري…ديمقراطية الاسلام السياسي
يشكل الاخذ بمعلومات المخبر السري من الناحية الاستخباراتية والمعلوماتية وحتى القانونية، مثلبة كبيرة في النظام القضائي، فما يقدمه المخبر من معلومات لا يمكن الاخذ بها دون بحث وتدقيق وتحر للتأكد من صحة الخبر. وما يؤشر هنا هو اعتماد اجهزة الامن والقضاء العراقي على ما يقدمه المخبر من معلومات، والتي تحمل في جنباتها قصوراً استخباراتيا وقضائيا في قانون التشريعات وفي مهنة الامن والاستخبار. ولان مصدر الخبر يجب ان يكون معروفاً من قبل اجهزة الشرطة والامن، اي لا يمكن ان يكون مصدر الخبر عشوائياً، فان ذلك يعني، انه بالإمكان أشغال القضاء والامن في قضايا غير حقيقية، تلحق ضررا في مسار التحقيق.
وقد وجه الحقوقي والناشط حسن شعبان العراقي اللوم إلى قضاة التحقيق باعتبارهم الجهة الوحيدة التي تقرر مصير الموقوفين اعتمادا على الأدلة المتوفرة، وذكر ان انتشار ظاهرة المخبر السري سببه قلة المعلومات المتوفرة لدى الأجهزة الأمنية الخاصة بالجرائم المرتكبة، واعتمادها بصورة كبيرة على المخبر السري، الذي استغل عمله بصورة سيئة وكان السبب وراء اعتقال أبرياء دون ذنب، بحيث اضحى المخبر هو من يقود الاستخبارات والتحقيق!!.
تأسيساً على ما تقدم فان اعتقال بعض النساء، كان بسبب وشاية المخبر السري لأسباب شخصية أو شراء ذمم! وقد كشف القضاء العراقي أن احدى المعتقلات بتهمة الإرهاب- بوشاية من المخبر السري- كان السبب الحقيقي هو رفضها الاقتران بالمخبر نفسه.
إن العراق اليوم يقف أمام مفترق طريق في سعيه لإقامة مجتمع مدني قائم على أسس من الديمقراطية والعدالة الانسانية والاجتماعية بضمانات القوانين والدستور، وبالتالي يبدو ملحاً ايجاد آليات مناسبة لمحاكمة أولئك الذين يرتكبون جرائم التعذيب، ما يسهم في ردع من يملكون القدرة اليوم على ممارسة هذه الجرائم وانتهاك حقوق وحريات البشر.
وازاء ما تتعرض له النساء في المواقف والمعتقلات والسجون، من مرض وذل واهانة وتعذيب واغتصاب، لابد من محاسبة رئاسة الوزراء السابقة إذ ابلغ وزير العدل السابق حسن الشمري لجنة حقوق الانسان في البرلمان بأن مجلس الوزراء، هو من أمر بعدم السماح لأي جهة برلمانية بزيارة السجون. والحال ينطبق على وزارة العدل لجهة مسؤوليتهما في الاخفاق في الارتقاء بواقع حقوق الانسان داخل السجون العراقية، فضلا عن وزارة الداخلية التي تمتلك هي الأخرى حصة كبيرة في تعذيب واغتصاب المعتقلات لديها، بهدف انتزاع الاعترافات منهن.
لا نجد مبرراً لصمت المجتمع العراقي ازاء هذه الفعل الشنيع، بل ان هناك تشفياً نلمسه لدى بعضهم، ومنهم نائب في البرلمان السابق، يكشف عن نفس طائفي حول ما يحدث في السجون، بان ما يحدث يتم “برضا” الطرفين السجينة والشرطي، مشيرا الى ان بعض السجينات لديهن عطش جنسي فيقمن بعرض انفسهن على الشرطة، ليقوموا بممارسة الجنس معهن، ويدعين بعدها انهن تعرضن للاغتصاب!!!.
وما يعزز القناعة بأن التغيير الذي تحدث عن الساسة واحزابهم لم يكن الا شكلياً، فمنظومة العمل في السجون ما تزال تمتهن الانسان وتسحق ارادته، لانتزاع اعترافات مبرمجة، ولهذا لن يكون بمقدور المصالحة الوطنية ان تحقق اهدافها دون تحقيق نزيه في هذا الملف، وايقاع العقوبة على الجناة ومن يقف خلفهم، وصولاً لتعزيز عرى السلم الاهلي التي اصابها التفكك على مدار العقد الماضي.
لجان الحقيقة
لم تعد قضية حقوق الإنسان والانتهاكات الجسيمة التي تمارسها الانظمة السياسية ضد مواطنيها، مسألة داخلية بمنأى عن التدخل الدولي، لان هذه الانتهاكات التي صارت مصدرا للقلق والنزاعات وعدم الاستقرار مؤثرة على الأمن والسلم الدوليين خصوصا إذا جاءت ضمن ممارسات ارهاب الدولة .
ومن هنا يسهم البحث عن الحقيقة في إنشاء سجل تاريخي يحول دون تلاعُب أية جهة بالحقائق والمعلومات، ويساعد الضحايا على الوصول إلى خاتمة للقضية عن طريق تمكينهم من معرفة المزيد حول الأحداث الصادمة التي عانوا منها من قبيل معرفة مصير أحبائهم الذي اختفوا قسراً أو السبب وراء استهداف أشخاص أو جماعات بعينها بالإساءات.
ولجان الحقيقة تهتم بتشكيل عمليات تحقيق رسمية مؤقتة، لتحديد الحقائق المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان، والأسباب التي تقف وراءها، والنتائج التي أفضت إليها. والاعتراف للضحايا، والإقرار بما وقع لهم وتمكينهم، والعمل على تحقيق تغيير في النظم ذات الصلة بالعدالة وضمان حقوق الانسان. ويمكن لهذه اللجان ان تسهم في الدعاوى القضائية وجبر الضرر من خلال ما تتوصل إليه اللجان من حقائق وما تقدمه من توصيات، ومساعدة المجتمعات المنقسمة على التغلب على ثقافة الصمت وانعدام الثقة، ناهيك عن المساعدة في تحديد الإصلاحات اللازم إجراؤها في المؤسسات لمنع وقوع انتهاكات جديدة.
ومن هنا فان دعوة صادقة نقدمها للحكومة للاخذ بمعايير دولية وانسانية، تكشف عن الحقيقة، وتتصدى لمحاسبة الجناة ورد الاعتبار للضحايا، كما أن كشف الحقيقة يُعد أمراً ضرورياً لتصحيح أية اتهامات باطلة وُجهت إلى هؤلاء الضحايا في سياق الجرائم.
وترك القضايا الانسانية والقضائية معلقة دون رد فعل، في بلد كالعراق تحكمه التقاليد الاسلامية والقبلية، لجهة اعتبار كرامة المرأة وشرفها امر مقدس، لا يحق لاحد المساس بهما، ولان الحكومة تقدم خطابا مغلفا بتعاليم الاسلام وتشدد على اهميته في مفاصل السياسة والقضاء والحياة، فإنها مطالبة اليوم بالتصدي لمثل هذه الفظائع، والتساؤل هنا ما الفرق بين ما قام به “داعش” من سبي النساء الايزيديات وبيعهن كسبايا، وبين جرائم السجانين واغتصابهم للمعتقلات في السجون العراقية ..لا فرق.
هدى النعيمي
الكلمات الدلالية: المعتقلات العراقيات،السجون العراقية،السجون الحكومية،العراق،المحافظات السنية،جرائم التعذيب،انتهاكات حقوق الإنسان