استنزاف متصاعد: الأنماط الجديدة لظاهرة “هجرة العقول” بالإقليم

استنزاف متصاعد: الأنماط الجديدة لظاهرة “هجرة العقول” بالإقليم

لم تَعُدْ هجرة العقول ذات اتجاه واحد من دول الجنوب النامي إلى دول الشمال المتقدم، كما كان يحدث في فترات زمنية سابقة؛ بل دفعت التحولات السياسية الداخلية في دول الإقليم إلى تصاعد أنماط جديدة لظاهرة هجرة العقول والكفاءات، سواء في اتجاهها، أو طبيعتها، أو كثافتها؛ إذ إن تفجر الصراعات الداخلية، وعدم الاستقرار السياسي والأمني، وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، واستهداف الكوادر المتعلمة؛ أدى لانتشار ظاهرة استنزاف أو نزيف العقول brain drain. وبوجه عام، تتمثل الأنماط الجديدة في مسارات هجرة على الكفاءات من دول الإقليم، فيما يلي:

2777

1- الهجرة القطاعية: حيث شهدت بعض دول الإقليم انتقال الكفاءات الاستثنائية من العمل بالمؤسسات العسكرية والأمنية السيادية إلى القطاع الخاص، والشركات دولية النشاط تحديدًا المتخصصة في التكنولوجيا المتقدمة، حيث أكدت تقارير إسرائيلية أخيرة تصاعد أعداد الضباط الذين تخلوا عن العمل بالوحدات القتالية والاستخباراتية والتكنولوجية لصالح العمل بشركات التكنولوجيا الخاصة بحثًا عن رواتب أفضل؛ حيث وصلت نسبتهم إلى حوالي 40% خاصة في شعبة الاستخبارات العسكرية “أمان” ووحدة 8200 المتخصصة بالحروب الافتراضية، ولا تقتصر هذه الظاهرة على إسرائيل، وإنما امتدت إلى دول عديدة بالإقليم نتيجة الضغوط المتصاعدة على المؤسسات العسكرية، والجدل حول أدوارها التنموية، لا سيما عقب الثورات العربية.

2- الهجرة المناطقية: حيث شهدت بؤر الصراعات الإقليمية نزوحًا للكوادر المتخصصة من مناطق احتدام المواجهات العسكرية داخل الدولة إلى مناطق تتمتع بالاستقرار الأمني، وهو ما ينطبق على الصراع السوري الذي دفع الكفاءات الطبية للهجرة بعيدًا عن بؤر الاشتعال، سواء لمعسكرات اللاجئين الإقليمية، أو لمناطق أكثر استقرارًا مثل المناطق الكردية في الشمال الشرقي للدولة، ومناطق تمركز العلويين بمحاذاة الساحل السوري. ذات الأمر ينطبق على إقليم كردستان بالعراق الذي أصبح يجتذب الكفاءات من المحافظات العراقية المجاورة.

3- الهجرة الإقليمية: لم تعد الولايات المتحدة والدول الأوروبية الوجهة الوحيدة لهجرة العقول والكفاءات في ظل تبلور اتجاه جديد عابر للإقليم لهجرة الكفاءات، حيث تمكنت بعض الدول الصاعدة في الإقليم من صياغة نموذج لجذب الكفاءات من مختلف دول العالم خاصة دولة الإمارات العربية المتحدة نتيجة الاندماج المتصاعد في الاقتصاد العالمي، والتوازن في إدارة التعددية والتنوع الثقافي، والاعتماد على ممارسات اقتصاد المعرفة والحكم الرشيد، وهو ما تعبر عنه تصريحات الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة ورئيس مجلس الوزراء وحاكم دبي حول أن “دولة الإمارات ليست دولة في العالم، وإنما العالم في دولة”، ذات الأمر ينطبق على تأسيس مراكز أكاديمية للبحث العلمي في بعض دول الإقليم بهدف اجتذاب الكفاءات العالمية مثل الجامعات التقنية، وفروع الجامعات العالمية في دول الخليج.

4- الهجرة للبلدان الجنوبية: بدأت هجرة الكفاءات من دول الإقليم تتخذ اتجاهات جديدة تتجاوز النطاقات التقليدية على المستوى العالمي، إذ إن قطاعات عريضة من الكوادر والكفاءات التخصصية اللبنانية على سبيل المثال اعتادت الهجرة لدول أمريكا اللاتينية وإفريقيا لاستثمار الفراغ التنافسي، وتحقيق مكاسب رغم مخاطر عدم الاستقرار، ودفعت محاكاة التجربة اللبنانية موجات جديدة من هجرة الكفاءات من بؤر الصراعات الإقليمية خاصة في سوريا والسودان باتجاه دول صاعدة مثل جنوب إفريقيا والبرازيل والأرجنتين ودول جنوب شرق آسيا.

لا تنفصل التحولات في زخم واتجاه ظاهرة هجرة العقول عن التحولات الإقليمية المتتابعة منذ الثورات العربية مع تراجع دور الدولة، وتآكل قدرتها على احتواء التدفقات البشرية عبر حدودها، واستعادة استثمارها في تأهيل الكوادر البشرية المتمثل في الإنفاق العام على التعليم والتدريب والبعثات الخارجية، حيث إن السياقات الاقتصادية والمجتمعية في دول الإقليم باتت طاردة للكفاءات الاستثنائية باتجاه مراكز أكثر استقرارًا بالمعايير الأمنية والسياسية، يرتبط ذلك بتدني مستويات الإنفاق على البحث العلمي في عدد كبير من دول الإقليم بحيث لا يتجاوز 0.3% من الناتج المحلي الإجمالي.

أما العامل الأهم في تحفيز التصاعد المضطرد في هجرة الكفاءات فيتمثل في انتشار بؤر الصراعات الداخلية، وعدم الاستقرار السياسي على امتداد الإقليم، بحيث تجاوزت نطاقاتها التقليدية، مما أسهم في تصاعد معدلات هجرة العقول في دول مثل سوريا والعراق واليمن والسودان. في المقابل لم تعد هجرة العقول قاصرة على الدول النامية، وإنما باتت تشمل دولا أكثر تقدما في الإقليم مثل إسرائيل، وهو ما يُعزي إلى الدور الصاعد للشركات عالمية النشاط المتخصصة في التطبيقات التكنولوجية المتقدمة، والتي اتخذت من بعض دول الإقليم نقاط ارتكاز لجذب الكفاءات الاستثنائية.

وعلى مستوى التداعيات المرتبطة بالزخم المتصاعد لهجرة العقول في الإقليم، يمكن القول إن التغير القطاعي للكفاءات التقنية من المؤسسات العسكرية والأمنية السيادية للشركات التكنولوجية العالمية يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي لدول الإقليم، كونه يستنزف قاعدة الموارد البشرية المتاحة لتعزيز القدرات العسكرية للدولة، فضلا عن أن تقاعد الكفاءات العسكرية بدول الإقليم يمثل اختراقًا مباشرًا لتلك المؤسسات مع تغير الانتماء المؤسسي لتلك الكوادر واحتمالات توظيف المعلومات والخبرات العسكرية المكتسبة خلال خدمتهم لصالح الشركات العالمية والدول المرتبطة بها.

المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية

http://goo.gl/scmJjo

الكلمات المفتاحية: هجرة العقول، نزيف العقول، بؤر الصراع، الانفاق على البحث العلمي، عدم الاستقرار، الصراعات.