لا يتوانى نظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن استغلال أي فرصة لكبح جماح المعارضة في الداخل والخارج، ويعتمد هذا النظام، صاحب الصيت الواسع في انتهاكات حقوق الإنسان خاصة منذ محاولة الانقلاب الفاشلة، على نشر جواسيسه وجماعات تعمل لحسابه داخل الجاليات التركية المنتشرة حول العالم لملاحقة أي معارض أو مواطن تركي “يفكر” في توجيه انتقادات لشخص الرئيس أو عائلته.
يواجه نحو 3 ملايين نسمة من أصول تركية يعيشون في ألمانيا ضغوطات متزايدة من جماعات مرتبطة بالنظام التركي برئاسة رجب طيب أردوغان لجرهم نحو الأيديولوجيات الإسلاموية القومية لحزب العدالة والتنمية الحاكم.
ويستغل النظام التركي الحضور القوي لقومية “الذئاب الرمادية” المتطرفة في ألمانيا وكذلك أعضاء مللي جوروش (الرؤية الوطنية)، السلف الإسلامي لحزب العدالة والتنمية لتنفيذ خططه في المراقبة والتنظيم داخل أبناء الجالية التركية.
وتقول رئيسة المجموعة البرلمانية الألمانية التركية في ألمانيا ذات الأصول التركية، سيفيم داغديلين، إن “السياسة الخارجية العثمانية الجديدة للحكومة التركية وحزب العدالة والتنمية صمّمت لربط الجاليات من أصل تركي في أوروبا بهما”.
وتشير الصحافية التركية المخضرمة بينار تريمبلاي إلى أن “الإسلاميين في تركيا يعتمدون على الذئاب الرمادية داخل تركيا وخارجها”.
وخلال شهر يوليو الماضي، أطلقت حكومة النمسا المجاورة لألمانيا هيئة جديدة للتدقيق في أنشطة الإسلام السياسي في البلاد بعد تسجيل هجوم من مجموعة مرتبطة بـ”الذئاب الرمادية” على مظاهرة للأكراد والأتراك اليساريين.
والذئاب الرمادية هي منظمة مدعومة من الحكومة التركية، تؤمن بالقومية التركية وبخرافة الأعراق البشرية، ويعتبر عناصرها أن عرقهم هو الأسمى بين كل الأعراق، حيث تأسست المنظمة في أواخر ستينات القرن الماضي كذراع مسلحة تابعة لحزب الحركة القومية.
وقبل عشر سنوات، أنشأت الحكومة التركية رئاسة أتراك المهجر ومجتمعات ذوي القربى (YTB) لتعزيز التعاون بين المواطنين الأتراك في جميع أنحاء العالم. وتقول أنقرة إن المنظمة بمثابة جسر تواصل بين أبناء الجالية التركية في مختلف أنحاء العالم، لكن السلطات تستخدمها في عمليات مشبوهة ضد الجالية.
وفي العام 2018، حث رئيس المنظمة عبدالله إرين الأتراك في الخارج على مساعدة أنقرة في معركتها العالمية ضد أتباع رجل الدين فتح الله غولن الذي تتهمه تركيا بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة في العام 2016.
وفي نفس السنة، ذكرت وسائل الإعلام الألمانية أن جهاز الاستخبارات الوطنية التركي طور تطبيقا للهواتف الذكية يمكّن أي مواطن تركي في ألمانيا من الإبلاغ عن أي شخص، بغض النظر عن جنسيته، لانتقاده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أو حكومته. وفي يناير، أعلنت ألمانيا عن خطط للتعاون مع أنقرة لفتح ثلاث مدارس تركية في برلين وكولونيا وفرانكفورت.
أئمة جواسيس
النظام التركي يعتمد على مساجد “ديتيب” لملاحقة المعارضين ويطلب من أئمتها جمع المعلومات وتسليمها للسفارة والقنصليات التركية
ترى سيفيم داغديلين أن أكبر جماعة إسلامية في ألمانيا هي الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية، وهو الوكيل الرئيسي لتركيا في ألمانيا. إذ يشرف الاتحاد الذي تديره الحكومة التركية على أكثر من 900 مسجد. وفي العام 2017، اعتذر الاتحاد عن نقل بعض أئمته لمعلومات إلى أنقرة.
ويعتبر الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية “ديتيب” وسيلة أساسية لحزب العدالة والتنمية الإسلامي والرئيس رجب طيب أردوغان للتأثير على المساجد التابعة لتركيا في ألمانيا وبث خطاب سياسي إسلامي متشدد يتناسب مع سياسات أنقرة الداخلية والخارجية.
وعرض فيلم وثائقي لقناة “زي.دي.إف” التلفزيونية الألمانية في يونيو الماضي تفاصيل اعتماد المخابرات التركية على مساجد الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية للعثور على مؤيدي حركة غولن أو أنصار القضية الكردية. ووفقا للوثائق، يُطلب من الأئمة جمع المعلومات حول الأهداف وأماكن وجودهم ونقلها إلى السفارة والقنصليات التركية الموجودة في ألمانيا.
وتقول داغديلين لموقع “أحوال تركية” إن هذه العمليات تسمم جهود الاندماج بين أبناء الجالية التركية في ألمانيا. فهناك أكثر من 6 آلاف عميل ومخبر يعملون مثل الجواسيس وينشطون في ألمانيا لصالح المخابرات التركية.
وتدرك داغديلين هذا، ففي العام 2016، دعت ألمانيا إلى رفض دخول أردوغان إلى أراضيها بعد أن وَضعت السلطات التركية مكافأة قدرها 100 ألف يورو (122 ألف دولار) مقابل رأس داغديلين بسبب دعمها لقرار ألماني بشأن الإبادة الجماعية للأرمن.
وواجهت منذ ذلك الحين تهديدات متكررة وتعرضت للاعتداء في مكتبها ووضعت تحت حماية الشرطة. وتوضح في هذا السياق “استهدفني الرئيس التركي شخصيا. وإذا قرر استهداف شخص ما، فإن هناك الآلاف من المجانين المعجبين به الذين يهددونك. لهذا السبب، تعرضت للهجوم عدة مرات”.
وعملت الحكومة الألمانية على تعليق التمويل الفيدرالي المخصص للاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية، وسعت إلى الحد بشكل كبير من التأثير التركي على مجتمعاتها الإسلامية، وخاصّة مع إطلاق برنامج تعليم الأئمة المحلي العام الماضي.
وقدمت الحكومة الألمانية تمويلا بقيمة 297 ألف يورو للاتحاد الإسلامي التركي في العام 2018، وهو مبلغ أقل من الـ1.5 مليون يورو الذي قدمته في العام السابق.
ويصنف المكتب الاتحادي لحماية الدستور الاتحاد الإسلامي على أنه “منظمة قومية وليست دينية”.
وتعتقد سيفيم داغديلين أن مساعي برلين لفصل الاتحاد عن الحكومة التركية خاطئة، إذ أن أئمته يتدربون في تركيا وتتولّى الحكومة التركية دفع رواتبهم كما أنّ رئيسه يتمتع بصفة دبلوماسية في ألمانيا.
وتقول إن رئيس الاتحاد الإسلامي هو “ممثل جمهورية تركيا وليس ممثلا للديانة”. وتضيف في هذا السياق، إن حكومة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أساءت التعامل مع القضية. فحسب رأيها، يشبه إجبار هذه الذراع على الانفصال عن تركيا قرارا يقضي بفصل السفارة الألمانية في تركيا عن ألمانيا.
ويُعرف أن شخصيات من جماعة الإخوان المسلمين تشارك في أنشطة ينظّمها الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية. ومع ذلك، تعمل بعض البلديات الألمانية معه بشكل وثيق.
وتقول رئيسة المجموعة البرلمانية الألمانية التركية في ألمانيا إنه بعد الكشف عن عمل أئمة الاتحاد مخبرين لأردوغان أصدرت الحكومة الفيدرالية مئات تأشيرات العمل للأئمة الجدد القادمين من تركيا.
وتضيف أن سبب ذلك يكمن في الرغبة الألمانية في الحفاظ على العلاقات التجارية التي تشمل تصدير ألمانيا لأسلحة بقيمة 345 مليون يورو إلى تركيا العام الماضي.
وتحث داغديلين على وقف التعاون مع الاتحاد الإسلامي للشؤون الدينية، داعية في الوقت نفسه إلى العمل على “تقوية العلمانيين المسلمين والديمقراطيين والليبراليين عوضا عن هذه القوات الرجعية التابعة للإخوان المسلمين مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان”.
نفوذ واسع
تتوقع سيفيم داغديلين تضاعف التهديدات التي يواجهها منتقدو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في حال لم تتحرك الحكومة الألمانية لعرقلة النفوذ التركي بما في ذلك وقف تمويل المدارس التركية وكبح الجماعات الإسلامية والقومية التركية وإنهاء التعاون مع الاتحاد الإسلامي للشؤون الدينية “ديتيب”.
وفي ديسمبر الماضي كتب الصحافي التركي المنفي جان دوندار، الذي يعيش في العاصمة الألمانية برلين، مقال رأي في صحيفة واشنطن بوست شرح فيه بالتفصيل كيف نظمت تركيا هجمات على المعارضين في الخارج وخاصة على شخصيات كردية في ثمانينات القرن الماضي ومؤخرا في العام 2013.
وفر حوالي 15 ألف مواطن تركي إلى ألمانيا منذ الانقلاب الفاشل في العام 2016. وقال أردوغان إن ألمانيا تستضيف الآلاف من الإرهابيين وأعرب عن إعجابه بالمهمة الأميركية التي أنهت حياة زعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبوبكر البغدادي.
وقال الرئيس التركي في أكتوبر الماضي “تقضي بعض الدول على الإرهابيين الذين تعتبرهم خطرا على أمنها القومي، أينما كانوا. وهذا يعني قبولهم أن لتركيا نفس الحق”.
وجادل دوندار في مقالته الصحافية بأن تركيا كانت تخطط لاغتيال المعارضين الأتراك في الخارج، مشيرا إلى هجوم محتمل على أتباع غولن المزعومين أو النشطاء الأكراد في ألمانيا.
وتقول داغديلين، التي وضعت علم وحدات حماية الشعب التي يقودها الأكراد السوريون في البرلمان الألماني في العام 2017، إن “هذا محتمل للغاية”.
وتضيف “نحن نعلم أن هناك الكثير من التهديدات الحقيقية والخطر على المعارضين البارزين الذين يعيشون في ألمانيا”. وتؤكد أن الخطر موجود بالفعل في ألمانيا والاتحاد الأوروبي.
العرب