غلاء المساكن يهدد المجتمعات العربية بأجيال من المشردين

غلاء المساكن يهدد المجتمعات العربية بأجيال من المشردين

أزمة السكن في المجتمعات العربية تسلط الضوء على الفجوة المتنامية بين الفقراء والأغنياء، بل وتهدد بظهور “أجيال من المشردين”. لكن الأخطر من هذا كله أن عدم القدرة على امتلاك منزل يعزز الإحساس بالتهميش والظلم الاجتماعي، ما يدفع إلى الانحراف والجريمة.

تشهد المجتمعات العربية ارتفاعا غير مسبوق في أسعار إيجارات المساكن بالمدن الكبرى، ولم يعد من السهل على الطبقات المتوسطة والفقيرة العثور على مسكن صغير بسعر معقول، فتدفق الطلاب من القرى والأرياف على الجامعات التي تتمركز في العواصم، والمهنيين من الشباب الذين تجذبهم فرص العمل المغرية بالمدن الكبرى، أسهم في الارتفاع المتزايد الذي تشهده إيجارات المنازل، وباتت هذه العوامل تمثل مشكلة شديدة التعقيد تحول دون توافر مساكن آمنة ومعقولة التكاليف.

أزمة سكن

مع أن الإيجارات تختلف بشكل كبير من حي إلى آخر، فإن الإحصائيات تشير إلى وجود أسعار تبلغ أحيانا ضعف الراتب الشهري للفرد متوسط الدخل في الأحياء العربية الراقية، كما ساهم انعدام التمويلات الحكومية لتوفير مساكن في متناول الفقراء، إلى تراجع القدرة على تملك المنازل بشكل كبير.

وتشترط بنوك الإسكان في بعض الدول العربية توفير حوالي 30 في المئة من سعر المسكن كتمويل ذاتي مع تحديد مدة سداد القروض بعشرين عاما على أقصى تقدير، وهو ما يجعل أقساط القروض السكنية مرتفعة جدا، وقد تأتي على جزء كبير من الراتب المتآكل بطبعه جراء ارتفاع تكلفة المعيشة.

ومن جهة أخرى، لا تستطيع غالبية الأسر ذات الدخل المتوسط تحمل تكاليف المساكن الملائمة بشكل أكبر لمعيشة الأسر كبيرة العدد، فالوحدات العقارية المتوفرة، تُقسّم غالبا إلى وحدات سكنية صغيرة جدا، تستوعب عددا محدودا من السكان، وتؤجر في الغالب للعُزاب ولمن ليس لديهم أطفال.

ويشكل ذلك أمرا مربحا للمقاولين ومُلّاك العقارات الذين يستطيعون جني أموال أكبر من تأجير وحدات سكنية صغيرة، دون أن يتطلب الأمر منهم البناء على مساحات إضافية، وذلك يعني استحالة أن تكون تلك المنازل ملائمة لحياة الأسر رغم إيجاراتها الباهظة.

ولا يعيش إلا الأثرياء وأسرهم بمنأى عن المشكلات التي تواجه الأسر متوسطة الدخل الراغبة في الحياة بالمدن. فالمناطق الواقعة في وسط الأحياء الراقية تعج بمستويات مختلفة من المرافق الخاصة بتلبية احتياجات الأسر والأطفال، لكن أسعار هذه المنازل لا تكون في متناول الجميع.

وتعكس شهادات الكثيرين ممن تحدثوا لـ”العرب” جزءا من أزمة السكن وارتفاع أسعار الإيجارات في العديد من المدن بالمجتمعات العربية عموما.

وبلهجة تنم عن خيبة أملها من الخيارات التي أُتيحت أمامها عندما شرعت في البحث عن مسكن يجمعها هي وأسرتها في بلد اللجوء، تقول سراب مرشد الناصر، الطالبة السورية المقيمة في العراق “قضينا عدة أيام في البحث المتواصل عن منزل لاستئجاره، يكون سعره معقولا ويكون مكانه ومساحته مناسبين لنا، وبعد جهد جهيد من تحضير الأوراق المطلوبة، تمكنا من العثور على مسكن متواضع يأوينا، لكن وباء كورونا والحظر الكامل أربكا الجميع وزادا في تعميق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في العراق، وجراء ذلك ارتفعت أسعار الإيجارات وتكاليف المعيشة بشكل صاروخي، خاصة في محافظة أربيل (شمال العراق)، وبات من الصعب على معظم المستأجرن هنا دفع الإيجار بشكل شهري”.

وأضافت الناصر “أحيانا تتراكم مستحقات الإيجار على الكثيرين لشهور عديدة، لكن البعض من ملاك المنازل لا يعجبهم هذا الوضع، فيطالبون بإخلاء مساكنهم حتى يتمكنوا من تأجيرها بمبالغ باهضة لمستأجرين آخرين، ومع كل شهر نعيش نفس السيناريو المكرر، وهو توفير مستحقات الإيجار المطلوبة مهما كانت مرهقة لنا ماديا ونفسيا ولا أحد يتفهم وضعنا أو يدرك حجم المعاناة المرهقة لنا ولأبنائنا”.

ومن جانبها ترى التونسية حنان بوبكر (معلمة وأم لطفلين) أن المشكلات المتعلقة بأسعار الإيجارات ألقى عليها الضوء فايروس كورونا وفترة الحجر الصحي، ولاسيما صعوبة العثور على مساكن منخفضة التكلفة وزيادة الفجوة بين الفقراء والأثرياء.

وقالت بوبكر لـ”العرب” لقد فاقم ارتفاع أسعار العقارات معاناة التونسيين الراغبين في الحصول على مسكن لائق، والذين يمثلون ثلث سكان البلاد تقريبا، وغالبيتهم يعانون من ضعف القدرة الشرائية المتدنية وغلاء المعيشة، ما يجعل شراء مسكن بالنسبة لمعظمهم حلما بعيد المنال أمام ضروريات الحياة الأخرى”.

وأضافت “المسكن حق مضمون في الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان، لكن لا يبدو أنّ كلّ الناس قادرون على التمتع بهذا الحق؛ فارتفاع أسعار المنازل وارتفاع الفوائد البنكية من سنة إلى أخرى يجعل هذا الحلم صعب التحقق في الواقع، خاصة أن القروض البنكية تلتهم ما يقارب 40 في المئة من الراتب الشهري على مدار أكثر من 20 سنة، إضافة إلى قيمة التمويل الذاتي التي يشترطها البنك قبل منح القرض وترتفع نسبتها بحسب سعر المسكن”.

وترى بوبكر أن ارتفاع تملّك المنازل رافقته أيضا قفزة جنونية في أسعار الإيجارات، منذ عام 2011 عندما اندلعت الانتفاضة في ليبيا، حيث استغل أصحاب العقارات والسماسرة إقبال الليبيين على تأجير المنازل في تونس هروبا من الحرب الدائرة في بلادهم، ليرفعوا الأسعار بشكل مشط ما أضر بشكل مباشر بالمواطن التونسي ذي الدخل المحدود أو المتوسط بشكل عام، وهو ما فرض عليه ضغوطا معيشية وحياتية صعبة، واضطرت بعض الأسر إلى تأجير مساكن ذات جودة منخفضة أو مساحتها أصغر مما يفي باحتياجاتها، وذلك مسايرة للأسعار المرتفعة.

وتابعت بوبكر حديثها موضحة “بعض رواتب الموظفين في تونس لا تتعدى 600 دينار (حوالي 220 دولارا) في حين أن إيجار منزل في حي شعبي متكون من غرفتين وصالون يصل في بعض الأحيان إلى 500 دينار (حوالي 180 دولارا)، أما شراء منزل فيحتاج إلى أموال طائلة والكثير من التضحية والمشقة، فيما يدفعنا الإيجار إلى مواجهة الحقيقة المرة للتقشف”.

وتشير الإحصائيات الرسمية إلى أن نحو 23 في المئة من التونسيين لا يملكون مساكن، ومن الصعب في ظل الظروف الاقتصادية المتدهورة بسبب وباء كورونا التفكير في شراء مسكن.

وفشلت الحكومات التونسية المتعاقبة في حلّ أزمة السكن وبقي سوق العقارات رهينا لمضاربات العقاريين والسماسرة، كما لم يتضمن قانون المالية لسنة 2020 الذي صادق عليه البرلمان في ديسمبر 2019، إجراءات محفزة لقطاع البعث العقاري أو استراتيجيات قادرة على تخفيف أعباء السكن على المواطنين، باستثناء فصل وحيد يقضي بطرح أعباء القروض السكنية على المنخرطين في مشروع السكن الأول الذي أقرته الدولة سنة 2016 والقاضي بتمكين المنتفعين به من قرض قيمته 200 ألف دينار (73328 دولارا).

وأمام تقلص مساحة العرض والطلب في سوق العقارات والمساكن الاجتماعية في تونس وغياب إرادة سياسة جدية تراعي مصلحة المواطن وضعف قدرته الشرائية، توسعت ظاهرة السكن العشوائي، وهي أحياء تم بناؤها من دون مخططات تنظيمية ومن قبل أشخاص غير محترفين، وتفتقر هذه الأحياء في معظمها إلى الشبكات النظامية للصرف الصحي والكهرباء والماء الصالح للشراب.

عائلات بلا مأوى

لا تقتصر ظاهرة العشوائيات على مجتمعات عربية بعينها، فالمدن الكبرى في مختلف أنحاء المنطقة تواجه ذات المشكلة وتكافح للتكيف معها. إضافة إلى أن معظم الساسة العرب لا يمتلكون استراتيجيات فعالة لمعالجة هذه الظاهرة أو يسنون تشريعات تضع سقفا محددا لإيجارات المساكن، وقد أدت هذه العوامل مجتمعة في العقود الأخيرة إلى ارتفاع قياسي في عدد الأشخاص المشردين قسرا.

وبات من الطبيعي أن ينام الكثرون على قارعة الطريق، جراء الوضع الاقتصادي المتردي الذي ترافق مع تفشي وباء كورونا الذي خلف الآلاف من العائلات بلا مأوى أو مصدر رزق.

وأكد تقرير للمركز الإعلامي للأمم المتحدة أن سوء إدارة المدن المركزية في التخطيط الإسكاني أدى إلى تعذر توفير المساكن المناسبة للفئات الفقيرة، ما أدى إلى انتشار الأحياء العشوائية، خاصة في المناطق المتأثرة بالهجرة الداخلية، مشددا على أن سكان هذه المناطق يواجهون عدة مشاكل منها عدم القدرة على حيازة مساكن آمنة، وغياب البنية التحتية ومياه الشرب والصرف الصحي.

وعرف المعهد العربي لإنماء المدن الأحياء العشوائية بأنها مناطق أقيمت مساكنها من دون تراخيص في أراض تملكها الدولة أو يملكها آخرون، وغالبا ما تقام هذه المساكن خارج نطاق الخدمات الحكومية ولا تتوفر فيها الخدمات والمرافق الحكومية لعدم اعتراف الدول بها.

وأوضحت دراسة سابقة أجراها المعهد أن نحو 60 في المئة من العشوائيات في المجتمعات العربية توجد على أطراف المدن و30 في المئة توجد خارج النطاق العمراني، وتوجد 8 في المئة فقط وسط العاصمة. كما كشفت تلك الدراسة عن أن 70 في المئة من تلك العشوائيات قد شيدت بطريقة فردية و22 في المئة شيدت بطريقة جماعية، ولا تزيد نسبة المباني المستأجرة في الأحياء العشوائية عن 70 في المئة.

كما أوضحت الدراسة أن معظم العشوائيات في الدول العربية تفتقر لخدمات الصرف الصحي ومياه الشرب النقية ونقص المواد الغذائية وتنتشر فيها البطالة والجريمة والمخدرات والاعتداء على الممتلكات كما أنها تشكل تحديا معوقا للتنمية، وبؤرا للمشاكل الاجتماعية والصحية والأمنية.

سكان المقابر

وليس التعايش بين الأحياء والأموات بالظاهرة الجديدة على المصريين الذين يوجد من بينهم حوالي 14 مليون نسمة -أي نحو ثلثيّ عدد سكّان القاهرة الكبرى- يسكنون العشوائيات، فيما يسكن 18 في المئة من أسر العشوائيات في غرفة واحدة، فيما يصل عدد سكان المقابر إلى خمسة ملايين مواطن مصري، وهي أعداد قابلة للزيادة في ظل الارتفاع المضطرد للأسعار المساكن في مصر.

ولا يكاد الوضع يختلف كثيرا في بلدان المغرب العربي التي تشهد تزايدا سكانيا سريعا، فقد كشفت الوكالة الفرنسية للتنمية عن تنامي عدد المنازل العشوائية في البلاد التونسية التي يقدر عدد سكانها بـ11 مليون نسمة، يعيش 70 في المئة منهم في المدن.

وارتفع عدد السكان في دول مجلس التعاون الخليجي، التي يشكل الجيل الشباب النسبة الأكبر من عدد سكانها، بأكثر من 50 في المئة خلال العقد الماضي بحسب الأرقام الواردة في مجلة ذي إيكونوميست البريطانية.

ويسلط النمو السكاني السريع في دول الخليج، الضوء على الطلب المتزايد على المساكن منخفضة التكلفة، لاسيما بالنسبة للفئات محدودة الدخل.

وتُضاعِف دول خليجية جهودها لمساعدة ذوي الدخل المنخفض والمتوسط في الحصول على المساكن مدعومة من قبل الحكومات، وذلك في إطار معالجة التبعات المترتبة على الزيادة السكانية والتوسع الحضري.

وكانت دراسة سابقة أعدّها الباحثان دافيد سميث وأنغوس فريمان، صدرت عن مركز الخليج للأبحاث (قسم جامعة كامبريدج)، أشارت إلى أن قضية السكن باتت موضوعا شديد الأهمية بالنسبة إلى منطقة الخليج التي تشهد تغييرات ديموغرافية واجتماعية وحضرية متواصلة.

وقدم الباحثان البريطانيان تعريفا مميزا للمسكن باعتباره التعبير المكاني لقيم مجتمع ما وأخلاقه والتزامه بتحقيق معادلة مجتمع يسع الجميع.

إلا أن هذا التعريف لا يوجد امتداد له في المجتمع العراقي الذي مزقته الحروب والأحزاب الطائفية والتنظيمات الإرهابية، حيث تم تشريد الآلاف من العائلات من منازلها، كما ساهم الفساد المالي والإداري في زيادة العشوائيات.

وقدرت مفوضية حقوق الإنسان العراقية (مستقلة) أن 3 ملايين مواطن يعيشون في الآلاف من مناطق العشوائيات داخل البلاد، مع تصدر العاصمة بغداد لعدد المناطق العشوائية.

وقال علي البياتي، عضو المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق “من خلال الأرقام الرسمية لوزارة التخطيط، فإن هناك أكثر من 3700 موقع للعشوائيات في العراق”.

وذكر البياتي أن بغداد وحدها “يوجد بها ألف موقع للعشوائيات، وبذلك تتصدر قائمة المحافظات.. تليها البصرة بـ700 موقع، فيما تتذيل محافظتا النجف وكربلاء القائمة بواقع 98 موقعا”.

وتضم المواقع 522 ألف وحدة سكنية يعيش فيها أكثر من 3 ملايين مواطن، أجبرهم العوز والفقر والظرف الأمني على العيش هناك.

تداعيات اقتصادية

ونبه علماء الاجتماع إلى أهمية المسكن الصحي في حياة الإنسان ودوره في تحقيق الاستقرار النفسي للأفراد وتماسك المجتمعات ورقيها.

وقال فؤاد بلمير الباحث المغربي في علم الاجتماع، إن موضوع السكن يثير الجدل في جل دول العالم، لكن حدته وتداعياته تختلف من بلد إلى آخر، معتبرا أن من بين الأسباب المشتركة بين دول العالم، هو انتقال البشرية إلى العيش داخل المدن بعد التطور الصناعي والتمدن.

واستدرك بلمير مضيفا لـ”العرب”، “لكن بالنسبة للدول العربية التي لم تعش الانتقال من مجتمع قروي ريفي إلى مجتمع حضري بشكل سلس ومدروس ومؤسس على استراتيجيات واضحة المعالم تستشرف المستقبل، فإن مدنها الكبرى تعرف نوعا من البناءات العشوائية التي لا تستجيب لأبسط الظروف الإنسانية، وتفتقر إلى أدنى عناصر السلامة الصحية والنفسية، ومع تزايد أزمة السكن، تفاقمت هذه الظاهرة وتأصلت في المدن، ما ساعد على ظهور سلوكيات اجتماعية عدوانية تتميز بطغيان العنف والجريمة وإدمان المخدرات والسرقة..”.

واعتبر الباحث المغربي أن المساكن العشوائية تهدد المجتمعات العربية بتداعيات اقتصادية واجتماعية جسيمة، ومن الأفضل التفكير في وضع استراتيجيات وبرامج للتخطيط العمراني، تهدف إلى تطوير المناطق العشوائية، وتحل أزمة السكن غير اللائق وتحقق الصالح العام لجميع فئات المجتمع.

ودعا بلمير إلى الاستفادة من التجربة المغربية الرائدة والهادفة إلى إنجاز عدد من المشاريع المندرجة، في إطار برنامج “مدن دون صفيح”، بهدف التخفيف من مظاهر التهميش والهشاشة الاجتماعية وتوفير سكن لائق في متناول الفئات ذات الدخل المحدود، وسد العجز المُلحّ في المساكن، مشددا على ضرورة وضع سقف زمني للقضاء نهائيا على الأحزمة السكنية العشوائية وغير الصالحة للسكن التي تطوق المدن العربية.

ويخشى بعض خبراء الاقتصاد من أن تؤدي أزمة السكن إلى اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، والأسوأ ظهور “أجيال من المشردين” العاجزين عن شراء مسكن، ما يعزز الإحساس بالتهميش الاجتماعي، وقد يدفع إلى الانحراف والجريمة.

العرب