الطائفية السياسية ومحنة الحداثة المنقوصة

الطائفية السياسية ومحنة الحداثة المنقوصة

21

لا تزال الديموقراطية عصية على المجتمعات العربية حتى فى مرحلة الربيع العربي، فهو إن أسقط بعض الأنظمة إلا أنه عبّر فى شكل ما عن إشكاليات الديموقراطية المتعلقة ببنية المجتمع الداخلية نتيجة ظهور إعاقات اجتماعية وثقافية مستوطنة فى الواقع. فما إن انهارت الأنظمة السلطوية، إما بالثورة السلمية أو المسلحة، حتى برزت هذه التحديات فى الصراعات الداخلية أو التدخلات الخارجية.

وتبدو الصراعات المسلحة  فى بعض البلدان العربية مثل سوريا والعراق واليمن   تجسيدا  لغياب الديمقراطية، وتكريسا  للطائفية  التى تمددت فى الفضاء العربى بعد  سقوط بعض النظم القومية العربية  نتيجة  الحداثة المنقوصة التى تبنتها تلك النظم  وغياب المشاريع البديلة لها.

وتعطل مشروع الديموقراطية فى العالم العربى يعود إلى حقب عدة اختلفت فيما بينها باختلاف المبررات التى حالت دون حدوث التحول الديموقراطي، بداية من الاستعمار الذى ورث من الدولة العثمانية بعض البلاد العربية فى حال تراجع حضارى وبسط هيمنته على مصر بعد أن ضرب مشروع التحرر الوطنى الذى قاده أحمد عرابى عام 1882 لوقف الزحف البريطاني. وفى أعقاب تلك الفترة بدأت مشاريع إصلاحية تأسست على الدعوة للنهوض بالمجتمع وتأسيس الديموقراطية، إلا أن انتهاء مرحلة الاستعمار الغربى لم يفتح آفاق التقدم الحضارى والتحول الديموقراطي.

فالاستعمار أعقبته حقبة المشروع القومى الذى عطل التحول الديموقراطى أيضاً. والحراك الفكرى بين مسارات الإصلاح الواقعى حسمه بعض الأنظمة العربية وعلى رأسها مصر بتبنى مشروع القومية العربية والذى لم يكن بطابع ما نادى به بعض المصلحين أمثال عبدالرحمن الكواكبى الذى زاوج بين القومية والحرية. فلم تكن الديموقراطية ضمن مفرداته السياسية ولم يبن على مشروع الإصلاح الذى نظر إليه بعض رواد الإصلاح أمثال الإمام محمد عبده بتحرير العقل وتعميق ثقافة الديموقراطية من طريق التربية والتعليم، بل اتخذ مساراً مغايراً بدعوى استكمال مرحلة تحرر الأوطان، فتبنى سياسة شمولية أمَّمت الصناعة والتنوع السياسى والاجتماعي، فألغيت الأحزاب السياسية عام 1953 وجففت منابع التعددية الفكرية وتمت الاستعاضة عن ذلك بتنظيم أحادى للممارسة السياسية هو الاتحاد الاشتراكي. فحلت الأيديولوجية مكان الثقافة، والصراع مكان التنوع والطبقية مكان الفردية والتحرر الوطنى فى مقابل الحرية السياسية.

هذا الطابع المركزى أدى إلى ضعف الوعى بمفهوم الدولة التى اختزلت فى التنظيم الذى أصبح له حقوق الدولة. ونتج من هذا النهج عزوف بعض التيارات السياسية عن المشاركة، الأمر الذى رسَّخ فكرة الطائفية السياسية بين التنظيم الذى يحتكر السلطة فى  الدولة  والآخرين الذين مورس عليهم الاضطهاد السياسي.

لذلك  يمكن القول أن  الطائفية العربية  انفجرت من واقع الحداثة المنقوصة  أو المشوهة,  التى لم تكن  تعبيرا عن حاجات المجتمع  بقدر ما كانت  خيارا للسلطة الحاكمة,  فقد حطمت أنماط من  العلاقات الاقتصادية  والاجتماعية  بقرارات سلطوية, دون  أن تتطور طبيعيا فى سياقها الاجتماعى ولم تستبدل  بنظام  اقتصادى صناعى  فاستمر نمط العلاقات الريفية  فى  الشكل الجديد  للمجتمع مع  هجرة من الريف  إلى المدينة  لا يستوعبها  النظام الاقتصادى القائم .

فلم تتطور الحداثة العربية  عضويا من خلال  علاقات مع القوى المحلية كالمجتمع المدنى ورأس المال, كما لم تقم   بصناعة بيئة للتعايش الإيجابى للاختلافات  المذهبية والعرقية,  بل مثلت وعاءا خارجيا يحمل هذه النزاعات فأصبح مركزه طاردا لأطرافه, فسياسة تجميع الأرض  ليست مفيدة فى حد ذاتها  وليست ذات قيمة, إلا إذا اقترنت  الوحدة الفيزيائية  بالوحدة الروحية للجماعة  التى تعيش على هذه الأرض .

وبالطبع لم يفلح هذا النهج  فى إنهاء النزاعات الإثنية والعرقية بل ساعد على تكريسها فى البيئة الاجتماعية، فكل ما هو خارج حدود تنظيم الدولة راح يتوقع أكثر حول الذات، بل وتولد الشعور بالاغتراب عن الدولة الذى أدى إلى تعميق النزعة الطائفية على حساب المواطنة، إلى جانب توظيف الطائفية الدينية فى بعض الأوقات لصالح الأنظمة السلطوية الحاكمة مثلما فعل النظام البعثى السورى فى الدمج بين الطائفية المذهبية والتوجه القومي.

وقد فرضت  الحداثة العربية المنقوصة  شكلا  من فوضى الهويات أى أن الشرائح الاجتماعية تميل إلى إنشاء هوية  داخل الهوية  وفى بعض الأحيان تصبح الهوية  الجزئية طاغية على الهوية الجامعة

ومع طغيان  الثقافة الريفية  التى حافظت عليها الحداثة المنقوصة تعززت  مكانة الرمز  الدينى  الشعبى داخل الثقافة, فأصبح الرمز ليس فقط مرجعا دينيا بل  تجسيديا  للانتماء الطائفى  وملهما  يضع  السياسات ويقود الحروب .

وتزامن هذا مع ضعف الثقافة الدينية التى لم تساهم فى شكل فعال فى حل الإشكالية الطائفية, ولعل هذا يعود إلى تأثرها بالبيئة الفكرية فى حقبة القومية العربية، فسعى بعض الخطابات إلى تحويلها إلى أيديولوجية تواجه المشروع القومى والعلمانى الذى اتبع أحياناً سياسة اقصائية على مستوى بعض مظاهر التدين، كما حدث فى تونس مثلاً.

وواكب سقوط أو تصدع بعض الأنظمة العربية مع الربيع العربى ظهور طائفية سياسية مسكونة  بعقيدة مذهبية كتحدٍ جديد للمشروع الديمقراطى أفرزته حالة الندرة فى المشاريع البديلة، فانحياز العقل السياسى للطائفية الدينية كخلفية فكرية تبرر خياراته يعود إلى حال الفراغ التى يعيشها بغياب مشروع وطنى بديل ويسعى إلى ملئها لتبرير سلوكه السياسي.

وترتكز الطائفية السياسية على رغبة الفرد صاحب العقيدة فى الخلاص والذى يتحقق بالتسامى من طريق جهاد العدو، وهو ما يمكن أن يسمى “التسامى الانفعالي” الذى يختزل الجهاد فى جهاد العدو، وهو مخالف لقول الراغب فى مفرداته الذى هو على ثلاثة أضراب، حسب عبارته: مجاهدة العدو الظاهر، مجاهدة الشيطان، مجاهدة النفس، وهى محاولة لاختزال مراحل التسامى التى حددها الدين وصولاً إلى منتهاه وهى تبدو لا واعية للهروب من تبعات التسامى التصاعدى المستمر، والذى يبدأ بجهاد النفس أولاً.

هذا التسامى الاختزالى هو ما ترتكز عليه التنظيمات الجهادية كتنظيم داعش فى تصديره للشباب كحل للخروج من خواء الحياة لأصحاب الرفاهية أو خروجاً من معاناة الحياة وبؤسها لأصحاب العوز للوصول سريعاً للوعد الحق المنشود هو المنشود.

ولعل أخطر ما فى الطائفية السياسية أنها تستند إلى خلفية دينية مذهبية أنها توظف الدين لتحقيق أغراض سياسية ليست من مقاصد الدين. كنموذج النظام السورى الذى يمارس على شعبه انتهاكات مجردة من أدنى درجات الإنسانية فى القتل تجاه الأطفال والنساء والشيوخ من دون تمييز بين مسلح ومدنى حفاظا على نظامه الطائفي.

هذه الطائفية قدمت الفرع على الأصل، فجعلت من المذهب أعلى قيمة من الدين، فحفظ النفس كمقصد من مقاصد الدين أصبح يستباح أمام أغراض المذهب والحفاظ عليه، فى حين أن المذهب ما هو إلا محاولة لقراءة الدين فى سياقه الاجتماعى والذى يسعى إلى الحفاظ على حيوية الدين فى المجال العام من خلال التجدد المذهبي.

ويشكل النموذج الإيرانى وذراعه اللبنانى حزب الله أكبر داعم للطائفية السياسية، فهو رأس الحربة لدعم الصراع الطائفى فى المنطقة العربية والذى جعل الانتماء إلى المذهب متجاوزاً لحدود الأوطان، متجهاً نحو دولة ولاية الفقيه الفارسية التى تدير صراعات أخرى فى سورية بتوفير الدعم العسكرى واللوجستي، إما من طريق الحرس الثورى الإيرانى أو حزب الله اللبناني. وفى مجريات الأحداث فى اليمن عملت تلك الدولة الصفوية على تحويل الحوثيين وهم شيعة زيدية، إلى شوكة لها فى الجنوب.

ستظل الديموقراطية عصية على المجتمع فى ظل توظيف الطائفية فى التفاعلات السياسية، وهو أمر يحتاج لتجاوزه إلى إدراك أخطاره على الأطراف كافة، ومن ثم عقد اجتماعى مدنى يستند إلى قيمة المواطنة. وبالطبع تشكل عودة الدين من حيز التوظيف السياسى إلى حيز الترشيد القيمى أحد أبرز عناصر مواجهة الطائفية السياسية، فالدين أقوى إصلاحاً من السياسة، إلا أن التوظيف السياسى للدين يعد أكثر ضرراً من فساد السياسة.

حسن محمد الشافعي

مجلة الديمقراطية