بعد خمس سنوات، نكتشف نحن العرب أننا أمام حالة حمل وإنجاب ثورية عجيبة. تمت الولادة بعمليات قيصرية دموية مفجعة، أوحت كلها بأمل كبير. فقد استطاع شاب تونسي شبه متعطل عن العمل، أن يفجر معظم المجتمعات العربية، موحيًا من حيث لا يدري بأن هناك أمة تجمعها آمال. وآلام. وأوهام مشتركة ومتشابهة تحمل جنسيات 28 دولة.
نحن اليوم في حالة خيبة وإحباط. لقد عرفنا الآن أن ما آلت إليه هذه الثورات ناءٍ تمامًا عن تصورنا وحلمنا. فلم تكن هي الانتفاضة المنشودة. السبب كونها بلا مضمون اجتماعي. وثقافي. وإنمائي، يستوعب معنى التغيير. ويقدر على إنجازه.
نالت عدة هيئات تونسية اجتماعية. وثقافية. ونقابية جائزة نوبل. فقد تمكنت من فرض سلم مدني، على النخب السياسية المدنية والمتأسلمة. بيد أن هذه النخب لم تستطع أن تضع برنامجًا اجتماعيًا، يعالج مشكلة البطالة التي هي مشكلة عربية وعالمية. وليست مشكلة تونس وحدها.
لا أتناول مسؤولية الطبقة السياسية التونسية للتعريض بها. ولنشر غسيلها. فقد كانت من الوعي، بحيث تجنبت أزمة النخب السياسية العربية الحاكمة. والمعارضة، في بلدان كليبيا. وسوريا. وفلسطين. واليمن التي كنا نظن أنها قادرة على تجنيب مجتمعاتها الانقسام السياسي الذي يهدد الكيان. والمصير.
نعم، حال التعثر الأمني دون استيعاب وفهم خطر البطالة. غير أنه كان بالإمكان عدم حشر ثُلَّة من الحرس الجمهوري، في باص معرض للعنف الديني بسهولة. بل كان بالإمكان تجنيب هذا المجتمع المسالم تصدير أكثر من ثلاثة آلاف «داعشي» أو «قاعدي» للقتال في ليبيا. أو سوريا. أو دول الصحراء الأفريقية.
أقدر أهمية رجل في عمر السياسي المخضرم الباجي قايد السبسي (88 سنة) الذي يتحمل المسؤولية الرئاسية، فيما حزبه (نداء تونس) يواجه انقسامًا كبيرًا يفقده أغلبيته النيابية. ويضعه تحت رحمة حركة «النهضة» المتأسلمة التي أظهرت إلى الآن بفضل حكمة مرشدها راشد الغنوشي، عدم رغبتها في اهتبال الفرصة السانحة، للانفراد بالتربع على بساط السلطة. والحكومة.
الأهم من ذلك كله، الشعور بأن الطبقة السياسية والمثقفة في تونس، ومنها شرائح «نداء تونس»، ما زالت تنظر إليه كبلد متوسطي يستلهم أوروبا، فيما كانت قادرة على تفهم وإدراك عمق الأزمة الاقتصادية والمالية التي تحرم أوروبا من تقديم محفظة مالية استثمارية بلا شروط تقشفية مرهقة تفرضها المصارف الدولية على بلد فقير.
لماذا لم تفعل تونس، كما فعلت مصر؟! فقد توجه أكبر بلد عربي، في عهده الجديد، إلى تمويل برنامج التنمية بالمال الخليجي. في قدرة تونس التوجه إلى رجال الاستثمار الخليجيين في القطاع الخاص. وأعتقد أن بلدين مغربيين كبيرين (المغرب والجزائر) يستفيدان من الاستثمار الخليجي العام والخاص.
التنمية هم كبير في عالم اليوم. صمد النظام الخليجي أمام فوضى الانتفاضات، بسبب وعيه المبكر لمقتضيات التنمية. نعم، ما زال المال العام والخاص متداخلين. لكن هذا النظام حقق نجاحًا كبيرًا في التنمية الاقتصادية والخدمات الاجتماعية والصحية، جنبه الهزات الاجتماعية.
حبست الصين أفكار ماو الثورية معه في تابوته الزجاجي. تحررت الصين اقتصاديًا. حزب شيوعي واقتصاد إلى حد كبير رأسمالي! بحيث باتت سلعها الرخيصة غير المهندمة جيدًا، متداولة في بلدان فقيرة. فقد أنقذت دولاً كثيرة من الشروط التقشفية الجائرة لقروض المصارف الدولية الموجهة أميركيًا.
حتى إيران المفلسة أدركت الآن أهمية التنمية التي تجنبتها الثورة المضادة. المتخلفة. الخارجة من تابوت التاريخ. ها هو رجل الدين حسن فريدون روحاني يطوف أوروبا مستجديًا الاستثمارات، متأبطًا معه رجال البزنس والبازار المؤيدين والمستثمرين في النظام.
لكن البابا فرانسيس كان من الجرأة الأدبية، بحيث وبَّخه عندما التقاه. ووجه صفعة مدوية لنظام يخلط بين الاستثمار وتصدير الثورة إلى بلدان في الشرق الأوسط تعاني من تصدير التشييع. وتوريط ميليشيات المرتزقة، في ذبح ومحاصرة ملايين السوريين.
ولعل المعارضات السياسية السورية التي قبلت بمفاوضة النظام بالمراسلة من الشبَّاك، تبدي تفهمًا كبيرًا لحرج التفاوض مع نظام فقد شرعيته، تحت القصف الجوي الروسي وبراميل النظام المدمرة للحياة والعمران.
وها نحن نكتشف ونعرف اليوم أن «حزب الله» ومعه الميليشيات الإيرانية يمارسون عمليات توطين غامضة. فبسبب حرمان الحزب من العمق الاستراتيجي في لبنان، فقد عمد إلى الاستيلاء على بقاع واسعة من منطقة القلمون الممتدة من الزبداني جنوبًا إلى دمشق وحمص شمالاً، وإحاطة بطنه اللين بشرائح سكانية غريبة لا تمت إلى السكان التاريخيين بصلة.
امتد التهجير تحت سمع وبصر النظام الذي يدعي العروبة إلى سكان سهل حوران التاريخيين. يجري تهجير هؤلاء تحت القصف الجوي. هناك الآن نحو عشرين ألف سوري محاصرين بلا مأوى على الحدود السورية، في انتظار ترخيص بالدخول والالتحاق بأقاربهم، بحجة أنهم يشكلون خطرًا على الدول الشقيقة المضيفة. وها هم أكراد الشمال الذين منحهم بشار الجنسية السورية يمارسون طرد السكان العرب من أراضي الآباء والأجداد، تحت غطاء الاستعداد الأميركي والروسي لغزو دولة «الخلافة الداعشية».
كانت أوروبا تفاخر بقوانينها المتسامحة مع اللجوء السياسي الفردي. لكن عندما صارت الهجرة السورية بالجملة، فقد راجعت دول أوروبا قوانينها، لتطرد اللاجئين. فعلت ذلك أوروبا الشرقية (باستثناء اليونان). وها هي السويد تتهيأ لطرد ألف لاجئ.
على الرغم من ذلك، هناك تقرير فرنسي يعالج بصراحة عادلة مشكلة عرب الضواحي الذين يعانون من البطالة. والتهميش. يقول التقرير الذي أعده «المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية» إن الجيل العربي الجديد بات يؤمن بأنه فرنسي، وذلك خلافًا للاعتقاد الفرنسي السائد. المشكلة في ضعف الصلة مع الأبناء في البيت. ومن الرفض الاجتماعي. فباتت الإقامة نوعًا من الاحتجاز في «غيتو».
إقامتي الطويلة في فرنسا تجعلني أعتقد أن المرجعية الدينية الإسلامية التي أسسها الرئيس السابق نيكولا ساركوزي أخفقت في غسل أدمغة الشباب «الداعشيين» المتزمتين الذين يظنون أنهم قادرون على أسلمة أوروبا بالعنف الديني، كما أوصاهم أئمتهم الذين يجري إبعادهم من فرنسا.
هل كان الحزب الشيوعي الصيني عادلاً في التقنين الديموغرافي على أكثر من مليار إنسان صيني. طفل واحد يكفي. أنديرا غاندي ألغت الديمقراطية، وابتكرت طرقًا للحد من الكثافة وفقر الهند المزمن. لو أن العرب قبلوا بإنجاب طفل واحد، لما أنتجوا كل سنة خمسة ملايين طفل يزيدون من أعباء التنمية.
هل تجرؤ على سؤال أب سوري مهاجر ولاجئ ينوء بجرِّ وحمل ثلاثة أطفال أنجبهم في سني الانتفاضة؟ إن فعلت فسيقول لك إن متعة الإنجاب كانت الحرية الوحيدة التي يسمح بها النظام. لا عجب، إذن، في أن عدد العرب والسوريين سيفوق عدد أهل الصين قبل نهاية الألفية الميلادية الجديدة.
أعتقد أن هناك سببًا آخر للإحباط وفشل الثورات. إنه هذا التردي الثقافي لدى الأجيال الجديدة. أنتج «الإخوان» مهندسين. وأطباء. وعلماء. لكن لم ينتجوا مثقفين. ومفكرين. وكتابًا. مثقفهم الوحيد سيد قطب كفّر المجتمع. وها هي الانتفاضات والثورات عقيمة. لم تنجب روائيًا واحدًا يخلدها. فقد تحول الإحباط إلى انحطاط أخلاقي. وثقافي يعبر عن ذاته في مذابح النظام. وتزمت التنظيم.