لم يكن الصراع التركي اليوناني القبرصي وليد الخلاف على ترسيم الحدود البحرية الذي أجّجه اكتشاف الغاز في المياه الاقتصادية للدول في شرق البحر الأبيض المتوسط: قبرص، فلسطين، والكيان الصهيوني، وما زالت المياه الاقتصادية السورية واللبنانية غير مستكشفة، فالصراع قديم، وله أسباب مركبة، ترتبت على الالتزامات السياسية والاجتماعية والجغرافية التي حدّدها مؤتمر باريس للسلام عام 1919، وتوقيع معاهدة فرساي بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، في ضوء الهزيمة التي لحقت بالسلطنة العثمانية، وقيام تركيا الحديثة بحدودها الحالية.
ارتفعت حدة التوتر التركي اليوناني القبرصي، خصوصا مع قبرص التي تعاني من تقسيم البلاد إلى دولتين، جمهورية قبرص اليونانية 65% وجمهورية شمال قبرص التركية 35% التي أقامها الجيش التركي بعد غزوه الأراضي القبرصية عام 1974، وتداخل مع ملفات تركية عالقة مع دول في الإقليم والعالم. مع مصر والسعودية والإمارات والبحرين، على خلفية قضية الإخوان المسلمين، حيث تعمل هذه الدول على إنهاء ظاهرة الإسلام السياسي، في حين تحتضن تركيا الجماعة، وتستضيف قيادات منها، ومع إسرائيل، على خلفية دعم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) والتحرّك ضد تهويد مدينة القدس، ومع الأردن، على خلفية التدخل في مدينة القدس، ومع فرنسا، على خلفية تباين المواقف في سورية وليبيا، ومع الولايات المتحدة على خلفية دعمها قوات سورية الديمقراطية (قسد)، وما تعتبره تركيا مسعى أميركيا إلى إقامة كيان كردي شرق الفرات، ومع روسيا على خلفية التنافس في سورية وليبيا. وانعكست الخلافات السياسية والتنافس الجيوسياسي في المواقف والأدوار، وتجلى ذلك بوضوح في الاجتماع الذي استضافته القاهرة في يناير/ كانون الثاني 2019، وضم مصر وإسرائيل واليونان وقبرص، والأردن والسلطة الوطنية الفلسطينية مراقبتين، وتمخض عنه تشكيل “منتدى غاز شرق المتوسط”، مقرّه القاهرة، حظي بتشجيع “مكتب موارد الطاقة”، ركيزة الطاقة في “التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط” (ميسا)، مشروع تقوده الولايات المتحدة “لتعزيز الاستقرار الإقليمي”. وانطوى المنتدى على قرار ضمني باستبعاد تركيا وعزلها، وفي وقوف فرنسا والولايات المتحدة ضد تركيا وتلويح الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات عليها.
تسعى تركيا إلى منع فرض أمر واقع جديد عليها، بالتخلص التدريجي مما تبقى من معاهدتي سيفر ولوزان
لم تكتفِ الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى بالسيطرة على معظم الأراضي التي كانت تتبع السلطنة العثمانية في أوروبا والعالم العربي، بل وفرضت عليها شروطا سياسية وإدارية وجغرافية كذلك، فقد فرضت معاهدة سيفر 1920 إعطاء تراقيا الغربية والجزر التركية في بحر إيجة لليونان، والاعتراف بإخضاع سورية والعراق للانتدابين، الفرنسي والبريطاني، واستقلال شبه الجزيرة العربية وأرمينيا، ووضع مضيقي البوسفور والدردنيل تحت إدارة عصبة الأمم، كانت قد تشكلت للتو في مؤتمر باريس للسلام عام 1919، مع بقائهما منزوعي السلاح، وإعطاء جزر دوديكانيسيا لإيطاليا التي كانت احتلتها خلال الحرب العثمانية الإيطالية 1911-1912، تنازلت عنها لليونان بعد الحرب العالمية الثانية.
رفض الجنرال مصطفى كمال (أتاتورك) اتفاقية سيفر، وواصل القتال ضد القوات الأوروبية، الفرنسية والإنكليزية واليونانية
رفض الجنرال مصطفى كمال (أتاتورك) اتفاقية سيفر، وواصل القتال ضد القوات الأوروبية، الفرنسية والإنكليزية واليونانية. طردهم من الأناضول، واستعاد منطقة تراقيا الغربية من اليونان، وسيطر على مضيق الدردنيل، وألغى الامتيازات الأجنبية على الأراضي التركية، ما اضطر الدول الأوروبية لتعديل موقفها من شروط السلام مع تركيا، وعقد اتفاقية لوزان 1923 معها، اعترفت بموجبها بالدولة الجديدة، تركيا، بعد تنازلها عن جزر دوديكانيسيا وقبرص ومصر والسودان والعراق وسورية، وعن امتيازاتها في ليبيا التي حدّدت في البند العاشر من معاهدة أوشي بين الدولة العثمانية ومملكة إيطاليا في عام 1912، والقبول بإلغاء الخلافة الإسلامية التي كانت في حالة يرثى لها من الضعف والتفكّك. ومع ذلك، لم يفوّت الأوروبيون فرصة حلها لما تنطوي عليه من رمزية لمسلمي العالم، وخوفا من صحوتهم وتحرّكهم بدعوة من الخليفة، ضد هيمنة الغرب وسيطرته على العالم الإسلامي. كانت بريطانيا العظمى قد استعانت بالشيخ علي عبد الرازق، عضو حزب السعديين الموالي للإنكليز في مصر، لاحتواء تحرّك مسلمي الهند ضدها استجابة للنفير العام (سفر برلك) الذي أعلنه السلطان عبد الحميد؛ فكتب مقالاتٍ ضد نظام الخلافة، نشرتها بريطانيا في الهند، جمعها في ما بعد ونشرها في مصر عام 1925 تحت عنوان “الإسلام وأصول الحكم”، إلغاء استخدام اللغة العربية والحرف العربي في الكتابة، وجعل العطلة الأسبوعية يوم الأحد، وتطبيق التوجهات العلمانية داخل البلاد تحت شعار “تغيير في الداخل تغيير في الخارج”، في مقابل إعادة ترسيم الحدود مع سورية، بما يشمل ضم أراضٍ واسعة لتركيا، مدن ومناطق مرسين وطرسوس وكيليكية وأضنة وعنتاب وكلس ومرعش وأورفة وحران وديار بكر وماردين ونصيبين وجزيرة ابن عمر.
تحاول اليونان وقبرص وحلفاؤهما حصار تركيا في سواحلها، بتطبيق قانون أعالي البحار على الجزر
مع عودة الإسلام إلى الفضاء الاجتماعي والسياسي التركي، ونشوء أحزاب ذات توجهات إسلامية في ثمانينيات القرن الماضي، عاد الحديث عن الاستقلالية والتحرّر من هيمنة الغرب على القرار السياسي والعسكري التركي، فالإسلام، بما ينطوي عليه من قيم وحقوق، يتعارض مع الرضوخ للتبعية والاستغلال والقهر. وبرزت دعوات إلى التوجه شرقا، والتنسيق السياسي والاقتصادي مع دول العالم الإسلامي، بدأها حزب الرفاه (تأسس عام 1983 وحل عام 1998) وزعيمه نجم الدين أربكان (رئيس الوزارة من 28 يونيو/ حزيران 1996 – 30 يونيو/ حزيران 1997)، وتابعها حزب العدالة والتنمية (تأسس عام 2001) وزعيمه رجب طيب أردوغان (رئيس الوزراء من 2003 إلى 2014 والجمهورية منذ 2014) الذي أضاف إلى التوجه الاستقلالي أبعادا جديدة أساسها الدعوة إلى إعادة النظر في تاريخ الدولة التركية الحديثة، والنظر بالثمن الذي دفعته تركيا مقابل الاعتراف الأوروبي بها، في إشارة إلى التنازلات التي قدمتها في اتفاقية لوزان، والتخلص من قيودها، وتحدّث عن “لوزان جديدة” تحضَّر لتركيا، ركائزها محاصرة تركيا في حدودها البحرية عبر ترسيم الحدود الاقتصادية للدول المعادية؛ اليونان وقبرص، قبل أن تنضم إليهما إسرائيل ومصر، وحصرها في شريط مائي ضيق في سواحلها، وقعت اتفاقيات ترسيم حدود اقتصادية ثنائية بين مصر وقبرص عام 2003؛ وبين مصر وإسرائيل عام 2005، وبين قبرص ولبنان عام 2007، وبين قبرص وإسرائيل عام 2010، وبين مصر واليونان عام 2020، اعتبرت الأخيرة ردّا على الاتفاقية التركية الليبية 2019، بالإضافة إلى توقيع اليونان وقبرص وإسرائيل، في 2 يناير/ كانون الثاني 2020، في العاصمة اليونانية، على اتفاق مبدئي لمد خط أنابيب غاز من الحقول الإسرائيلية شرق المتوسط، مرورًا بقبرص وكريت، وصولًا إلى الأرض اليونانية الرئيسة، ومنها إلى إيطاليا، باسم “إيست ميد”. وبذلك لم يبق لتركيا من منطقة اقتصادية بحرية شرق المتوسط سوى الجرف القاري لخليج أنطاليا، والإبقاء على جمهورية قبرص الشمالية معلقة خارج الشرعية الدولية، والتخطيط لإقامة دولة كردية، مع احتمال تمكينها من الوصول إلى البحر، ودفع عام 2019 بفكرة السيطرة على المساحات البحرية التركية في البحار الثلاثة: الأسود والأبيض المتوسط وإيجة، تحت مسمى “الوطن الأزرق”، إلى الصدارة.
مع نشوء أحزاب ذات توجهات إسلامية في تركيا في ثمانينيات القرن الماضي، عاد الحديث عن الاستقلالية والتحرّر من هيمنة الغرب على القرار السياسي والعسكري التركي
ليست نظرية الوطن الأزرق من إبداع أردوغان، فأول من طرحها الأدميرال البحري، رمضان جيم غوردينيز، في ندوة مركز قيادة القوات البحرية التركية في يونيو/ حزيران عام 2006. وكان رئيس الوزراء الأسبق، أحمد داود أوغلو، قد طرح في كتابه “العمق الإستراتيجي” الصادر عام 2001، أهمية السيطرة على البحار بالنسبة لبلاده، مُذكِّرا بأن بداية النهاية للسلطنة العثمانية كانت بسبب فقدانها السيطرة على البحار، وهذا استدعى السعي إلى السيطرة على مساحات شاسعة في بحري المتوسط وإيجة، 462 ألف كيلومتر مربع من المياه الاقتصادية، والضغط لترسيم الحدود البحرية مع دول الجوار وفق المنظور التركي، حيث ترفض تركيا إعطاء مياه اقتصادية للجزر. وهذا قادها إلى الامتناع عن التوقيع على “قانون أعالي البحار” الذي أقرّته الأمم المتحدة عام 1982 (يحدد القانون 12 ميلا بحريا مياها إقليمية و200 ميل بحري مياها اقتصادية).
زادت في أهمية السيطرة على البحار، والمياه الاقتصادية، قيمة فاتورة الطاقة التي تدفعها تركيا سنويا
وقد زادت في أهمية السيطرة على البحار، والمياه الاقتصادية، قيمة فاتورة الطاقة التي تدفعها تركيا سنويا، بلغت عام 2018 حوالى 45 مليار دولار، في ظرف تراجع النمو الاقتصادي، وتراجع سعر صرف الليرة التركية، ودفعها إلى عقد اتفاقية عسكرية مع الحكومة الليبية المعترف بها دوليا، وأخرى لترسيم الحدود البحرية بينهما بحيث تجبّ حركة خصومها، وتحصل على مياه اقتصادية شاسعة، تتوقع أن تكون مصدرا لكمية كبيرة من النفط والغاز. وتقطع، في الوقت ذاته، الطريق على خط الغاز الإسرائيلي القبرصي اليوناني (إيست ميد)، وعزّزت موقفها بنشر سفنها الحربية من شرق المتوسط إلى السواحل الليبية، في استعراض للقوة، والبدء بالاستكشاف بمرافقة السفن الحربية.
ففي الوقت الذي تحاول فيه اليونان وقبرص وحلفاؤهما حصار تركيا في سواحلها، من خلال تطبيق قانون أعالي البحار على الجزر، تسعى تركيا إلى منع فرض أمر واقع جديد عليها، بالتخلص التدريجي مما تبقى من معاهدتي سيفر ولوزان.
علي العبدالله
العربي الجديد