محاسبة قتلة المتظاهرين في العراق تلاحق موظفي الدولة وتتحاشى الميليشيات

محاسبة قتلة المتظاهرين في العراق تلاحق موظفي الدولة وتتحاشى الميليشيات

محاسبة الفاسدين والضالعين في جرائم القتل والاختطاف، ذات الخلفية السياسية، في العراق لا تزال إلى حدّ الآن تدور حول الملف الشائك وتهاب الغوص فيه، كاشفة عن حجم العوائق التي تحول دون تحقيق العدالة وفرض القانون وإجرائه على الجميع، وذلك بسبب اختلاط نفوذ لوبيات الفساد والجريمة بسلطة الأحزاب والميليشيات مشكّليْن جدارا سميكا حاميا لكبار الفاسدين والمجرمين.

بغداد – أعلن القضاء العراقي، الخميس، عن استدعاء وزيري الداخلية والدفاع السابقين للتحقيق في مقتل متظاهرين خلال الاحتجاجات الشعبية المتواصلة منذ شهور، وذلك في أبرز تطوّر في هذه القضية المحرجة للسلطات العراقية، والتي يُنظر إليها كمقياس لمدى جدية الدولة وقدرتها على الحدّ من ظاهرة الإفلات من المحاسبة والعقاب والتي لطالما مثّلت مظهرا لضعفها وتراجع هيبتها.

وتقول حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، إنّها جادّة في فرض القانون ومحاربة الفساد وإنهاء فوضى السلاح، لكنّ كثيرين يشكّكون في قدرتها على ذلك، نظرا لوجود قوى ذات نفوذ كبير من أحزاب وميليشيات مسلّحة تنازع الدولة سلطاتها، وتوجّه سياساتها بعيدا عن المساس بمصالح قادة وزعماء تلك القوى الضالعين في الفساد والمورّطين في جرائم كبيرة من بينها قتل المتظاهرين واغتيال قيادات الحراك الشعبي المتواصل منذ خريف العام الماضي والتنكيل بهم.

وكثيرا ما شكّك نشطاء عراقيون في إمكانية أن تطال المحاسبة على قتل المتظاهرين الميليشيات وقادتها، مرجّحين أن تقتصر فقط على المسؤولين بالدولة وبعض القادة الأمنيين.

وقبل أيّام أصدرت حكومة الكاظمي إشارة إلى إمكانية وصول عملية المحاسبة إلى دوائر قريبة من شخصيات نافذة، وذلك لدى الإعلان عن قرار البنك المركزي العراقي تجميد أرصدة تسعة مسؤولين سابقين وحاليين وحجز ممتلكاتهم، بينهم صهر رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، ياسر صخيل وشقيقه لقمان صخيل، على خلفية عدم تسديد ديون مستحقة للدولة.

وعُدّ الاقتراب من الدائرة القريبة من المالكي حدثا بحدّ ذاته، ذلك أن الرجل الذي ترأس الحكومة العراقية طيلة ثماني سنوات بين 2006 و2014 تمكّن عبر زرع أتباعه في مختلف مفاصل الدولة من تكوين حصانة له ضدّ المحاسبة على الرغم من أنّه متهّم بنشر الفساد على أوسع نطاق وإهدار مئات المليارات من الدولارات من أموال النفط، وإضعاف المؤسسة الأمنية والعسكرية متسببا بذلك في دخول داعش إلى العراق بكل ما تبع ذلك من كوارث ومآس.

وجاء الإعلان عن إخضاع وزيري الدفاع والداخلية السابقين للتحقيق، في بيان لمجلس القضاء الأعلى، الهيكل الذي يدير شؤون القضاء، أصدره عقب اجتماع رئيس المجلس فائق زيدان، ومستشار الأمن الوطني قاسم الأعرجي، ورئيس جهاز الأمن الوطني عبدالغني الأسدي، ورئيس جهاز مكافحة الإرهاب عبدالوهاب الساعدي.

وذكر البيان أنّه جرت في الاجتماع مناقشة الإجراءات القضائية بخصوص حوادث قتل وإصابة المتظاهرين ومنتسبي القوات الأمنية خلال الاحتجاجات.

وأوضح أنّ الهيئة التحقيقية القضائية في الرصافة ببغداد استدعت كلا من وزيري الدفاع نجاح الشمري والداخلية ياسين الياسري في الحكومة السابقة للاستيضاح منهما عن معلومات تتعلق بالتحقيق في تلك القضايا.

وتابع أن الهيئة أصدرت أيضا عددا من مذكرات القبض بحق عدد من منتسبي وزارتي الدفاع والداخلية، إضافة إلى توقيف ضباط على ذمة التحقيقات وصدور أحكام بحق آخرين.

استثناء الميليشيات وقادتها من التحقيقات يثير الشكوك في أن الهدف منها هو مجرّد استرضاء الشارع وتهدئته

ووزيرا الدفاع والداخلية في حكومة رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي، هما أرفع مسؤولين يتم استدعاؤهما للتحقيق في أعمال العنف التي رافقت الاحتجاجات.

وفي مايو الماضي، أعلنت حكومة مصطفى الكاظمي عن تشكيل لجان للتحقيق في أعمال العنف التي خلفت 565 قتيلا بين المتظاهرين وقوات الأمن خلال الاحتجاجات، وفق إحصاء رسمي.

وتعهّد الكاظمي مرارا بمحاكمة المتورطين في أعمال العنف، لكن لم تتم إدانة أي متهم حتى الآن، إضافة إلى وعوده بالتصدي للفساد وحماية موارد الدولة.

وتم خلال الأيام الماضية فتح أحد ملفات الفساد المورّط فيها عدد من المقربين من رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، حيث قرّر البنك المركزي “حجز الأموال المنقولة وغير المنقولة لكل من ياسر صخيل وشقيقه لقمان صخيل، ومحافظ كربلاء السابق عقيل الطريحي، وزهير الأعرجي النائب بالبرلمان، وحاجم الحسني الرئيس الأسبق لمجلس النواب.

وشملت قائمة الأسماء أيضا علي القريشي المسؤول بوزارة الخارجية، ووليد رضا المسؤول بمكتب رئيس الوزراء، وسعيد خضر وعبدالله محمد عبدالله الموظفين الحكوميين.

وتعهّد الكاظمي بإحالة جميع الفاسدين إلى القضاء بغض النظر عن مواقعهم في الدولة، لكنّ مراقبين عراقيين يستبعدون أن تتوسع هذه الحملة أو تأخذ طابع الصدام مع المالكي في وقت يسعى فيه رئيس الوزراء العراقي الحالي إلى التهدئة مع الأحزاب والميليشيات المقربة من إيران والتي تتحرك على أكثر من جبهة لإضعافه بعد زيارته للولايات المتحدة، وما صدر عنها من مواقف وتصريحات تجعله أقرب إلى صف واشنطن منه إلى صف طهران.

وأشار المراقبون إلى أن خطوة الكاظمي هي أقرب إلى طمأنة المحتجين وتحقيق مطالبهم أكثر من كونها إعلان حرب على شخصيات نافذة، خاصة أن محاربة الفساد على رأس مطالب الاحتجاجات العارمة التي يشهدها العراق منذ أكتوبر الماضي.

وذكرت مصادر عراقية واسعة الاطلاع أن المالكي سبق له أن وزع ثروته بين أقربائه تحسبا لما يمكن أن يحدث في المستقبل.

واعتبرت المصادر في تصريح سابق لـ”العرب” أن ضربة الكاظمي لم تخطئ هدفها وإن لم تمض مباشرة في اتجاه المالكي، وأنها وجهت له رسالة مفادها أن وضعه غير آمن تماما مثلما يعتقد.

وكثيرا ما تنظر شرائح واسعة من العراقيين بعدم اكتراث للإجراءات التي تتخذها سلطات بلادهم في مواجهة ظاهرة الفساد ومحاربة الجريمة المنتشرة على نطاق واسع، وما يرافق تلك الإجراءات من ضجيج إعلامي.

ويصف بعضهم تلك الإجراءات بالسطحية والشكلية والظرفية وبأن الغاية من ورائها تحصيل عائد دعائي وإعلامي، وإن تطلّب الأمر التضحية ببعض المسؤولين.

ويخشى ذوو المحتجين القتلى والمغتالين والمختطفين والمخفيين قسرا، أن تتم التضحية ببعض الموظفين وحتى الوزراء استرضاء للشارع المطالب بالمحاسبة وتحقيق العدالة للضحايا.

ويرى أكثر العراقيين تشاؤما بشأن مواجهة الفساد أن تحقيق نتائج ملموسة في ذلك أمر مستحيل نظرا لأن الظاهرة تحارب بأيدي أشخاص هم أصلا فاسدون ويديرون مؤسسات فاسدة من ضمنها مؤسسة القضاء بحدّ ذاتها.

ويصف نشطاء سياسيون وقادة رأي إجراءات محاربة الفساد بالانتقائية متحدّين السلطات بأن تتجرّأ على محاسبة مسؤول واحد كبير من هؤلاء المتهمين على أوسع نطاق بالفساد على غرار المالكي زعيم حزب الدعوة. ذلك أنّ غالبية القضايا التي يَبُت فيها القضاء تتعلّق بمسؤولين من درجات دنيا دون الاقتراب ممن يسميهم العراقيون حيتان الفساد الكبيرة في إشارة إلى كبار المسؤولين السياسيين وقادة الأحزاب والميليشيات الذين تحوم حولهم الشبهات منذ سنوات طويلة دون أن يجرؤ أحد على فتح ملفاتهم. كما أن الكثيرين ممن يحاكمون بتهم الفساد هم مسؤولون سابقون وليسوا حاليين، وجرت العادة أن تمنح للبعض منهم فرصة الفرار خارج البلاد وتحويل الأموال التي نهبوها إلى الخارج، قبل أن تفتح ملفّاتهم وتصدر ضدّهم الأحكام.

العرب