في زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبغداد قبل أيام، كشف رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، في المؤتمر الصحافي المشترك مع الرئيس الضيف، عن مساعٍ لتعاون فرنسي عراقي لإحياء المشروع النووي العراقي، لكن بعض التسريبات الصحافية نقلت عن مصدر في الأمانة العامة لرئاسة الوزراء تفاصيل أكثر عن الموضوع، فقد ذكر المصدر، أن «المباحثات بين الكاظمي وماكرون كانت أكثر تحديدًا من الإطار العام الذي طرح في المؤتمر الصحافي، إذ تطرقا لإعادة الحياة إلى مفاعل تموز النووي» وأضاف المصدر، «تبادل الكاظمي وماكرون تصوراتهما حول المشروع، واستعرضا جانبًا من المعلومات التي تمت تهيئتها عن الوضع الحالي للمنشأة المُدمّرة، فيما أظهر ماكرون حماسًا للفكرة التي قال إنها ربما تنقل العلاقة بين البلدين إلى مستوى استراتيجي».
هذه المعلومات أعادت إلى الأذهان كارثة ما حصل للمشروع النووي العراقي، كما أعادت طرح الكثير من الأسئلة القديمة والجديدة، التي لم نعثر لها على إجابات حتى الآن، ومن الأسئلة الجديدة، هل لطرح موضوع البرنامج النووي العراقي السلمي الآن علاقة بالاتفاق الثلاثي الذي جرى الحديث عنه بين العراق ومصر والاردن؟ علما أن الدولتين (مصر والأردن) لهما علاقات رسمية مع إسرائيل، فهل تم تسريب رسائل إسرائيلية للكاظمي، حملها ملك الأردن، أو الرئيس المصري، تضمنت وعودا بعدم التعرض للبرنامج النووي العراقي الآن؟ علما أن مصر من جانبها تعمل على برنامجها النووي، عبر نصب محطة كهرونووية بدعم روسي في منطقة الضبعة قرب القاهرة، كما أن دولة الإمارات، التي طبعت علاقاتها مع إسرائيل مؤخرا، قد دشنت أولى محطاتها النووية لإنتاج الكهرباء قبل مدة قصيرة، فهل تعني هذه المعطيات أن الموقف الإسرائيلي تغير تجاه هذا الأمر.
أما السؤال القديم المتجدد الذي ليس له جواب حتى الآن فهو، لماذا لم يفعل العراق دعوى قانونية ضد إسرائيل، التي دمّرت مفاعله النووي السلمي في 7 يونيو 1981؟ وكل العالم يعرف وبشهادة فرنسا، الدولة التي باعت المفاعل للعراق، إنه كان جزءا من برنامج نووي سلمي لإنتاج الطاقة، وتطوير التقنيات النووية الخاصة بالأبحاث الطبية والبيولوجية، ولا يمكنه بأي حال من الأحوال إنتاج أسلحة نووية، أو تطوير قدرات عسكرية، كما ادعى الإسرائيليون، وكما سوقوا من إشاعات، لأن المفاعل الفرنسي أصلا بيع للعراق تحت شروط الالتزام بحظر انتشار السلاح النووي، الذي تشرف عليه المنظمة الدولية للطاقة الذرية.
ولنعد إلى ما حدث، ولنحاول أن نناقش التفاصيل، ففي 7 يونيو 1981، قام سرب من الطائرات المقتالة الإسرائيلية من طراز إف- 16، بقصف مفاعل «تموز» المعروف فرنسيا باسم «أوزيراك» وإلحاق أضرار فادحة بقلب المفاعل، أخرجته من الخدمة بسبب استحالة إصلاحه، وعرفت العملية الاسرائيلية باسم «أوبرا» وقد احتفلت اسرائيل حينذاك بالانتصار، الذي حققته بضربتها المميزة عسكريا. كان العراق غارقا في تلك الأيام بخوض حرب شاملة مع إيران، وقد حاولت إيران قبل ذلك توجيه ضربة جوية للمفاعل النووي العراقي، ففي فجر يوم 30 سبتمبر 1980، حلّقت أربع طائرات أمريكية من طراز «إف- 4 إي فانتوم» في الاجواء العراقية، ويبدو أن الدفاعات العراقية أخذت على حين غرة، حيث أسقطت المقاتلات الايرانية قنابلها على محطة كهرباء عراقية قريبة من موقع المفاعل النووي جنوب بغداد، ما أدى إلى انقطاع الكهرباء في بغداد لمدة يومين، والنتيجة فشل إيران في إصابة هدفها الاستراتيجي، وقد وثّق كل من توم كوبر وفارزاد بيشوب، بشكل معمق هذه الغارة الغامضة، والسياق الذي حدثت فيه في تقرير نشرته مجلة «أير إنثوسياست» سنة 2004.
السؤال المتجدد الذي ليس له جواب، لماذا لم يرفع العراق دعوى قانونية ضد إسرائيل، التي دمّرت مفاعله النووي السلمي عام 1981؟
لذلك كان الانطباع العراقي الأولي عندما حدثت الغارة في يونيو 1981، أن طائرات إيرانية قامت بتنفيذ ضربة جديدة، إلا أن المعلومات كشفت سريعا دخول طائرات إسرائيلية من الحدود الغربية للعراق بعد أن عبرت الاراضي السعودية وهي تطير بارتفاعات منخفضة جدا، تجنبا لكشفها من طائرات أواكس الحديثة التي كانت السعودية قد اشترتها في تلك الأيام، وقد نفذت المقاتلات الإسرائيلية مهمتها، وعادت سالمة بعد تدمير المفاعل العراقي.
في غضون أيام معدودة عقد مجلس الأمن الدولي عشرة اجتماعات بشأن قصف اسرائيل المفاعل النووي العراقي، ومناقشة سياسة التسلح النووي الإسرائيلي، ودعا المجلس إسرائيل على وجه التحديد إلى وضع مؤسساتها النووية تحت طائلة تفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كما أصدر مجلس الأمن قراره رقم (487) بالإجماع في 19 يونيو 1981، أي بعد أقل من أسبوعين من الضربة، وبعد أن أحيط المجلس علمًا بالبيانات المقدمة من العراق والوكالة الدولية للطاقة الذرية، أدان الهجوم الذي شنته إسرائيل على موقع نووي عراقي كانت قد وافقت عليه الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتم تنفيذه تحت إشرافها. ومضى القرار داعيًا إلى وقف الأنشطة الإسرائيلية العدائية، وأجاز للعراق المطالبة بالتعويض، لكن المفارقة كانت عدم مطالبة العراق بتعويضات عما لحقه من دمار، ولا أحد يعرف السبب.
بعد ذلك دخل نظام صدام سباق تسلح نووي سري، وابتدأ المشروع النووي العراقي العسكري، وقطع فيه العراق شوطا مهما، إلا أن الضربات التي وجهتها قوات التحالف، الذي قادته الولايات المتحدة عام 1991 دمّرت الجزء الأكبر من المشروع، وأكملت لجان التفتيش التابعة للأمم المتحدة تدمير ما تبقى من معدات ومواقع البرنامج النووي العراقي، وبقيت تطالب العراق بالكشف عن إمكاناته المخفية في امتلاك أسلحة دمار شامل، التي استخدمت لاحقا كحجة في غزو العراق وإطاحة النظام عام 2003. في عام 1991، تشكلت لجنة أممية لتحديد التعويضات التي ألزمت بغداد بدفعها، وفي مقدمتها دفع مبلغ 52.4 مليار دولار تعويضا لدولة الكويت، شملت الأفراد والشركات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية، ممن تكبد خسائر ناجمة عن غزو واحتلال الكويت. وبناء على قرار مجلس الأمن الدولي رقم (687) الذي أعلن المسؤولية المالية للعراق عن الأضرار التي وقعت جراء غزوه الكويت، تأسست لجنة تعويضات تابعة للأمم المتحدة، وحددت التعويضات بمبلغ مقداره 350 مليار دولار، يتوجب على العراق دفعه للحكومات والمؤسسات والأفراد، في مختلف الدول وبضمنها إسرائيل. وأقرت اللجنة آلية تمويل هذه الدفعات عبر الاستحواذ على حصة 30% من عائدات النفط العراقي، الذي وضعت المؤسسة الأممية يدها عليه نتيجة خضوع العراق للبند السابع، ثم أقرت لاحقا برنامج النفط مقابل الغذاء، لأسباب إنسانية، وقللت نسبة الاستقطاع من أموال النفط العراقي حتى وصلت النسبة إلى استقطاع 5%.
المفارقة أن العراق دفع مليارات الدولارات تعويضا لإسرائيل عن الأضرار التي ألحقتها رشقات (39) صاروخ سكود أطلقها نظام صدام على إسرائيل، إبان حرب الخليج عام 1991، ولا أحد يعرف بدقة المبلغ الذي دفعه العراق تعويضا لإسرائيل عن الدمار المحدود الذي تسببت به الصواريخ التي لم تصب أهدافها، ولم يطالب نظام صدام حينذاك أن تتم تسوية التعويضات عن هذه الأضرار بتلك التي أقرها قرار مجلس الأمن عن تدمير إسرائيل للمفاعل النووي العراقي، وأيضا لا يعلم أحد حتى الآن لماذا لم تثر الخارجية العراقية هذه النقطة في المحفل الدولي.
بقيت مسألة مطالبة العراق بتعويضات عن تدمير مشروعه النووي السلمي مهملة ولا أحد يثيرها، حتى بعد إطاحة نظام صدام، وكان أول رد فعل عراقي رسمي بعد (35) عاما على الحدث، عندما أعلن مجلس النواب العراقي عام 2016 نيته مقاضاة إسرائيل، وإلزامها بدفع تعويضات مالية لقصفها مفاعل «تموز» عام 1981، وقد طالب عدد من النواب بمفاتحة الأمم المتحدة، ومطالبتها بتفعيل قرار مجلس الأمن (487) الصادر في 19 يونيو 1981 الخاص بذلك. وقال النائب الأول لرئيس مجلس النواب وقتذاك همام حمودي، «إن العراق عازم على مقاضاة إسرائيل جراء قصفها مفاعل تموز، وإلزامها بدفع تعويضات مالية إزاء هذا الاعتداء» بدون أن يحدد موعدا لذلك، أو يبين طبيعة الآليات التي ستتخذ بهذا الشأن، إلا أن حمودي أضاف، في بيان رسمي أن «على وزارة الخارجية العراقية ولجنة العلاقات الخارجية النيابية، تفعيل الموضوع دولياً، وإيلاءه اهتماماً خاصاً، تزامناً مع الذكرى الـ(35) للاعتداء الإسرائيلي على المفاعل النووي العراقي». أهمل الموضوع لاحقا، واختفى ملفه في مجلس النواب، من دون أن يوليه أحد أي متابعة أو اهتمام. فهل آن الأوان لنشهد حلا لهذا الملف الشائك في ظل ما ناقشه ماكرون والكاظمي قبل أيام؟ لا أحد يعلم فالمخفي في هذا الملف مازال كبيرا جدا.
صادق الطائي
القدس العربي