أطل شبح العنف برأسه من جديد على الولايات المتحدة بعد فترة من الهدوء النسبي، فقد تفجرت مشاعر القلق بعد مشاهد التظاهرات التي طالت مدناً أميركية عدة عقب إطلاق النار على شرطيين في مدينة لويفيل على خلفية قرار قضائي اعتبره المتظاهرون متساهلاً بشأن مقتل الأميركية السوداء بريونا تايلور على يد الشرطة، وازدادت وتيرة الخوف من عودة موجة الاحتجاجات العنصرية التي ضربت أميركا قبل أشهر، في وقت تتصاعد موجات العداء والتحريض المتبادل بين الجمهوريين والديمقراطيين، ما حولها إلى مركز رئيسي للصراع بين رئيس جمهوري يؤكد على الدوام أنه رجل القانون والنظام الذي سيحافظ على أمن البلاد من هجمات الغوغاء واليسار المتطرف، ومرشح ديمقراطي يراهن على أصوات السود والليبراليين الذين يرون في الاحتجاجات وسيلة فعالة للتصدي لعنصرية بغيضة تتزايد بشكل متسارع في البلاد منذ تولي ترمب السلطة بحسب اعتقادهم. فهل أصبحت أميركا رهينة عنف محتوم سوف يتصاعد حتى موعد الانتخابات وربما بعدها، أم أن قيادات الحزبين سوف تنجح وقت الخطر في نزع فتيل صراع مميت لم تشهد له الولايات المتحدة مثيلاً من قبل؟
عنف متواصل
لم تكن تطورات الأربعاء الماضي من عنف واشتباكات واحتجاجات في مدينة لويفيل بولاية كينتاكي وما تبعها من تظاهرات في مدن أميركية أخرى، سوى حلقة من سلسلة متصلة تؤكد أن العنف الذي استمر طوال العام في أرجاء الولايات المتحدة سوف يستمر وقد يبلغ ذروته قبل وأثناء وبعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقررة في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
ولا تتعلق الاحتجاجات فقط بعنف الشرطة وإن كانت تعد محوراً رئيسياً فيها، وإنما بمجموعة من العناصر والمعطيات يغذيها مناخ من الاستقطاب الحزبي والسياسي وتشعل لهيبها نار الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة وخطابات تحريضية يتقاسمها الجمهوريون والديمقراطيون على حد سواء بحسب ما تشير دراسات صدرت مؤخراً في واشنطن.
تدقيق أوسع للشرطة
ولأن تصرفات الشرطة غالباً ما تكون سبباً في موجات العنف، فقد أدى قرار عدم توجيه الاتهام إلى ضباط شرطة مدينة لويفيل بقتل بريونا تايلور إلى فتح الباب أمام تدقيق أوسع في التحقيقات المتعلقة بإطلاق الشرطة النار خلال عملها، حيث كشفت مراجعة أكاديمية أجراها فيليب ستينسون، المتخصص في علم الجريمة بجامعة بولينغ غرين ستيت، أن ثمانية ضباط شرطة فقط في المتوسط يواجهون اتهامات بالقتل أو القتل الخطأ كل عام منذ 2005 بسبب إطلاق النار أثناء العمل، في حين أن هناك حوالى 1000 حادث إطلاق نار من قبل الشرطة يُفضي إلى القتل كل عام في الولايات المتحدة.
غير أن ستينسون أشار في دراسته إلى أن السلطات المحلية التي تضطلع بالتحقيقات في معظم حوادث إطلاق النار المميتة من قبل الشرطة، تنتهي بأن إطلاق النار كان مبرراً، وهو ما كان يفجر احتجاجات غاضبة وأعمال عنف بخاصة إذا كان الضحايا من السود.
معيار مقاضاة الشرطة
ووفقاً لتلك الدراسة، فقد دين 44 ضابط شرطة فقط بارتكاب بعض الجرائم من بين 121 اتهموا في عمليات إطلاق نار مميتة على مدى 15 عاماً أي منذ عام 2005، وهذا أقل من معدل الإدانة الذي يصل إلى 70 في المئة في القضايا التي يُتهم فيها أميركيون ليسوا ضباط شرطة بالقتل، بحسب بيانات مكتب إحصاءات العدل التابع للحكومة الفيدرالية.
ويرجع السبب وراء ذلك إلى وجود معيار قانوني لمقاضاة ضباط الشرطة يستند في الأساس إلى ما منحته المحكمة العليا الأميركية للشرطة من فترة زمنية تصل إلى أجزاء من الثانية لاتخاذ قرارات تتعلق بالحياة أو الموت بناءً على مدى تصورهم للخطر، إذ يمكن لضباط الشرطة من الناحية القانونية استخدام القوة المميتة إذا اعتقدوا أن حياتهم أو حياة الآخرين مهددة.
ولعل هذا ما يخلق فجوة حقيقية بين الفطرة السليمة وتوقعات عامة الناس، وبين المعيار القانوني الذي يتمتع به ضباط الشرطة بغرض حمايتهم من الخطر في بلد يعتبر امتلاك المواطنين السلاح حقاً دستورياً.
من مدينة إلى أخرى
لكن العنف الذي تكون الشرطة في كثير من الأحيان سبباً مباشراً في تفجره، تحول بشكل غير مسبوق في عام الانتخابات الرئاسية الأميركية إلى لبّ صراع محموم يتمدد من مدينة إلى مدينة ومن ولاية إلى أخرى لترتفع حدة الاستقطاب السياسي بين اليمين واليسار، وتتصاعد لغة الاتهامات والتحريض بين المرشحين الجمهوريين والديمقراطيين، وبين الرئيس دونالد ترمب وخصمه جو بايدن.
ووسط هذا الخطاب، حاول كل طرف الاستفادة مما يجري، فقدم الرئيس ترمب نفسه على أنه مرشح “القانون والنظام” وأيده في ذلك ملايين الأميركيين، وهو يسعى بقوة لجذب عدد لا يحصى من الناخبين غير الحزبيين للتصويت لصالحه إذا استمرت الاحتجاجات العنيفة وأعمال الشغب والنهب حتى موعد الانتخابات.
مرشح القانون والنظام
وليس من المستغرب أن يفكر العديد من الأميركيين وخصوصاً أولئك الذين يقطنون في المناطق المتضررة من اندلاع أعمال العنف الأخيرة، في التصويت لصالح ترمب في الانتخابات بسبب رسالته المباشرة حول “القانون والنظام” بحسب سلسلة تحقيقات أجرتها صحيفة نيويورك تايمز.
وفي انتخابات لا يوجد فيها مجال للخطأ، قد يكون وقوع الكثير من العنف في الولايات المتأرجحة الحرجة مثل ويسكونسن ومينيسوتا أمراً سيئاً بالنسبة لبايدن والديمقراطيين ولا سيما عندما تعمل وسائل التواصل الاجتماعي، جنباً إلى جنب مع انتشار كاميرات الهواتف المحمولة في كل مكان، فضلاً عن وسائل الإعلام اليمينية، على كشف ما يجري وغرس الخوف الجماعي في أميركا، ما يفيد مرشحاً واحداً فقط للرئاسة هو الرئيس ترمب.
وكما قالت كيليان كونواي مستشارة البيت الأبيض قبل أيام “كلما سادت الفوضى والتخريب والعنف، كان ذلك أفضل بالنسبة للرئيس ترمب”. ودلت مقاطع فيديو قصيرة عن مشاهد العنف في لويفيل أو سياتل أو بورتلاند، كيف يدفع ذلك الآلاف من الناخبين في ميتشيغان وويسكونسن وأوهايو وبنسلفانيا إلى الاصطفاف إلى جانب من يتخذ مواقف أكثر حسماً لحماية “القانون والنظام”.
مأزق بايدن
ومع تفكك الأجزاء القليلة المتبقية من الكياسة والاعتدال في الخطاب السياسي الأميركي، يجد بايدن نفسه في موقف صعب إذ لا يستطيع سوى إصدار بيان يدين فيه العنف ضد ضباط الشرطة في كل حادث من دون أن يغضب المتظاهرين الليبراليين والسود الذين يشكلون كتلة حيوية من مؤيديه في الانتخابات لا يستطيع خذلانها.
ومن المؤكد أن السبب في إحجامه عن توجيه انتقادات مباشرة وقوية ضد المحتجين، أن اليمين السياسي الأميركي أمضى عقوداً في شيطنة الليبراليين والتقدميين وتصويرهم على أنهم أعداء “خائنون” و”أشرار” خصوصاً خلال الأشهر الأخيرة، ما يجعل أي انتقاد من بايدن ضد الليبراليين واليسار يضعه في خانة اليمين المؤيد لترمب.
منحدر زلق
لكن غياب صوت العقل وتغذية خطاب التحريض وكراهية الطرف الآخر تمثل منحدراً زلقاً إلى العنف ينذر بما لا تحمد عقباه في الأسابيع الخمسة المتبقية على موعد الانتخابات، وهو ما جعل بعض المسؤولين يتخذون إجراءات احتياطية لمنع العنف واحتوائه، مثلما فعل مجلس مدينة ريتشموند عاصمة ولاية فرجينيا بتصويته على حظر الأسلحة النارية أثناء الاحتجاجات في الأماكن العامة وغيرها من الأحداث في مؤشر واضح إلى قلق المسؤولين الحكوميين بشأن تصاعد المواجهات السياسية والعنف هذا العام.
ولم يكن هذا الإجراء مبالغاً فيه، ففي جميع أنحاء البلاد، شهدت مدن أميركية اشتباكات بين متظاهرين ومعارضيهم بشكل متكرر هذا العام بشكل عنيف ومميت، وعلى سبيل المثال احتُجز مراهق يُدعى كايل ريتنهاوس بتهمة إطلاق النار على ثلاثة متظاهرين، ما أسفر عن مقتل اثنين منهم في مدينة كينوشا بولاية ويسكونسن قبل أسابيع. ومنذ أيام، أطلق حراس النار على مايكل فورست رينوه، المشتبه فيه في حادث إطلاق نار أدى إلى مقتل متظاهر من اليمين المتطرف في مدينة بورتلاند بولاية أوريغون.
المزيد من العنف
وطوال فترة الاحتجاجات المناهضة للعنصرية هذا العام، ظهر أفراد مسلحون من الميليشيات اليمينية في تظاهرات، قائلين إنهم يحمون الممتلكات ويمارسون حقوق التعديل الثاني التي تنص على حق حمل السلاح، وكثيراً ما تحولت الاحتجاجات المناهضة للشرطة بعد حلول الظلام إلى أعمال شغب ونهب.
ويقول ستيفن ليفيتسكي أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد إن هناك الآن إمكانية في البلدات والمدن الأميركية لحدوث أعمال عنف واسعة، مع احتمال سقوط عدد كبير من الوفيات لأسباب سياسية، وهو أمر لا ينبغي أن يحدث في ديمقراطية ناضجة مثل الولايات المتحدة.
الموت للخصوم
وأظهرت دراسة جديدة أجراها ناثان كالموي وليليانا ميسون وهما باحثان سياسيان في جامعة ميريلاند، أن الأميركيين أصبحوا أكثر تسامحاً مع العنف السياسي، فعلى الرغم من أن معظمهم ما زالوا يعارضون الفكرة، إلا أن هناك تحزباً شديداً بين عشرات الملايين من الأميركيين.
وكشفت الدراسة عن مفاجأة تعكس شعوراً وحشياً صادماً بالنسبة إلى عامة الأميركيين، إذ يتفق 15 في المئة من الجمهوريين و20 في المئة من الديمقراطيين على أن الولايات المتحدة ستكون أفضل حالاً إذا ماتت أعداد كبيرة من معارضيهم على الطرف الآخر.
مشكلة تتفاقم
ويبدو أن استعداد الأحزاب السياسية لانتقاد الطرف الآخر بالعنف والمواجهة الجسدية جعل الكثيرين من الناس قلقين من أن المشكلة ستتفاقم مع اقتراب الانتخابات وربما كذلك في أعقابها، وحذّر مات غروسمان مدير معهد السياسات العامة في جامعة ميتشيغان من أن هناك العديد من الأسباب لتوقع المزيد من تصعيد العنف السياسي قبل يوم الانتخابات في الـ 13 من نوفمبر المقبل، ولا يوجد سبب يدفع إلى التفكير بإمكانية وقف التصعيد.
وبينما تحفل السياسة الحالية في الداخل الأميركي بالاستعارات العسكرية، فيدعي المرشحون أنهم يتعرضون للهجوم، ويعمدون إلى تجريد خصومهم من إنسانيتهم فيصفونهم بأنهم خطر محدق على المجتمع وعلى أميركا، فإنهم يحاولون الظهور بأنهم أشداء وأقوياء، ولهذا يتعهدون بالدفاع عن مؤيديهم المتوترين، ويستفزون الطرف الآخر ولا يترددون في التقاط صور مع أنصارهم بصحبة الأسلحة النارية في مشهد أصبح روتينياً بشكل مقلق.
هجمات مضادة
وفي مناخ كهذا تتزايد احتمالات مواجهة المواطنين العاديين بعضهم لبعض في الأماكن العامة مثلما حدث بين أنصار ترمب والمتظاهرين اليساريين في مدينة بورتلاند بولاية أوريغون، فضلاً عما قاله جان إيفانز المدير في الحزب الجمهوري عن إطلاق النار على قافلة مؤيدة للرئيس ترمب في ولاية ميسوري.
وفي حين ينتقد المرشح الديمقراطي جو بايدن إطلاق النار على الشرطة في لويفيل، واعتراضه قبل أيام على النهب وأعمال الشغب، مشيراً إلى أن العنف لن يأتي بالتغيير بل سيؤدي فقط إلى الدمار، يعتبر الجمهوريون أن بايدن لم يفعل ما يكفي، ويحمّلون الديمقراطيين المسؤولية عن انتشار العنف في جميع أنحاء البلاد، فقد غرد تيم مورتو مدير الاتصالات في حملة ترمب على تويتر مؤكداً أن المتظاهرين اليساريين إرهابيون، وأنهم ناخبو بايدن إذ لا يمكن التفريق بين حملة المرشح الديمقراطي وبين حركة أنتيفا اليسارية المتطرفة.
وتشكو الدوائر المحافظة والجمهورية من أن وسائل الإعلام الرئيسة تقلل من أهمية أعمال الشغب، وتصفها بأنها احتجاجات سلمية حتى عندما يكون هناك دليل على حدوث أضرار مثل المباني المحترقة، وحذّر ترمب في خطاب عقب قبوله ترشيح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية، من أن التصويت في الانتخابات سيقرر ما إذا كنا سنحمي الأميركيين الملتزمين بالقانون، أو ما إذا كنا نطلق العنان للأناركيين الفوضويين العنيفين والمحرضين والمجرمين الذين يهددون الأميركيين.
لعبة الضحية المخيفة
ويرى مراقبون أن ما نراه الآن من الحزبين الجمهوري والديمقراطي هو ما يسمى العنف الأدائي، في إطار لعبة تعمل على أن تجعل نفسك تبدو مثل الضحية، لكن لا تزال تخيف.
وفي حين أريقت دماء بالفعل خلال الفترات الماضية، يخشى كثيرون من أن الأمور ستزداد سوءاً أثناء يوم الانتخابات وبعد ذلك، إذا لم يكن هناك نصر واضح في السباق الرئاسي.
وعلى الرغم من أن دراسة كالموي وميسون خلصت إلى أنه من المرجح أن يتوقف مثيرو الشغب عن العنف إذا استنكره القادة الحزبيون، إلا أن هؤلاء القادة الحزبيين يواصلون بذل جهد أكبر في توجيه انتقادات إلى الجانب الآخر بدلاً من التهدئة.
كما تشير دراستهما إلى احتمال أن ينخرط حتى الجانب المنتصر في الانتخابات في العنف إذ وافق 13 في المئة من الجمهوريين و18 في المئة من الديمقراطيين على استخدام العنف حال تحقق خسارة انتخابية لحزبهم في نوفمبر المقبل، ولهذا فإن الانزلاق إلى عنف أكبر يخيم بقوة على المشهد الانتخابي الأميركي وسط مخاوف غير مسبوقة على مستقبل البلاد.
طارق الشامي
اندبندت عربي