محنة «القرار الفرنسي المستقل» في لبنان

محنة «القرار الفرنسي المستقل» في لبنان

رسمت فرنسا من خلال همّة رئيسها إيمانويل ماكرون، وعلى وقع زيارتيه المتعاقبتين إلى بيروت في إثر انفلات ما يعادل سلاح الدمار الشامل على المرفأ والمدينة، ما من شأنه أن يحاكي شعار «القرار الفلسطيني المستقل». شيء من قبيل البحث عن «الدور الفرنسي المستقل».
وهذا الدور راح ينقّب ـ بداعي بلورة نفسه ومنحها دفعاً وزخماً ـ عن ثغرة يلج من خلالها إلى منطقة باتت محكومة أكثر فأكثر بارتفاع حدة التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الإقليميين من جهة، وبين إيران والجماعات المناصرة لها في الجهة المقابلة.
فالدولة التي كانت في أصل انشاء الكيان اللبناني الموسّع الحديث، من بعد إطاحتها بالمملكة الفيصلية في سوريا قبل مئة عام، أقصى ما طمحت اليه عندما سمح الظرف المأسوي لها بأن يشرف رئيسها على احتفالية مئوية الكيان في البلد المنكوب هو إظهار «دورها المستقل» وإظهار قدرة هذا الدور على إدارة عملية «تدويل حوكمي» للوضع اللبناني يتأمن له ما يلزم من مقبولية محلية، وحسبتها فرنسا بأن عرضها الاستيعابي لـ«حزب الله» في اختلاف عن النهج الاقصائي العقابي الأمريكي تجاهه، بما يعطيها قدرة على التحرك وكيل النصائح الأبوية بل الزجرية لأركان الأوليغارشية المحلية، والتمايز عن واشنطن في نفس الوقت، مع الطمع في تفهم وتسامح واشنطن مع هذا التمايز، ما دام «الأخذ والعطاء» من طرف» حزب الله» يسهّلان المرور الفرنسي.
وجد الدور الفرنسي المستقل صورته تنشطر سريعاً في المرآة: بين كونه «القوة الناعمة» المناددة لـ«قوة الإيلام» الأمريكية، وبين كونه الترجمة الناعمة لقوة الإيلام هذه، وما تمطره من عقوبات على شخصيات وأصول من لبنان، فما عادت تقتصر على المرتبطين مباشرة بـ«حزب الله» بل تعدّتهم الى وزير المالية السابق علي حسن خليل، أي استهدفت بمعنى آخر الرئيس الدائم للبرلمان نبيه بري.
فرضت عقوبة الخزانة الأمريكية على خليل ضغطاً مزدوجاً على كل من المبادرة الفرنسية وعلى قدرة ثنائي حزب الله وحركة نبيه بري على التجاوب مع هذه المبادرة. فاختزل من الجانبين كل النقاش المتصل بإتاحة السبيل لقيام حكومة مرضي عنها من الجهات المُقرِضة في اتفاق سيدر وفي صندوق النقد، بمعرفة من سيتولى وزارة المالية، ومن أي طائفة يأتي وأين مربط خيله.
وفي أول وآخر الامر، فرنسا هي الدولة التي كفلت كل مؤتمرات إقراض لبنان بداعي التحديث والإصلاح، أي عموماً المساهمة في مفاقمة مشكلات النموذج الاقتصادي والمالي، من باريس 1 الى سيدر، وهي اذا بمثابة «مرجعية الكفالة المالية» للبلد. لكنها ليست بأية حال، المانح الأول له للقروض والتسهيلات. وفي عمقها حركة المنح هذه سعودية وخليجية تكون أو لا تكون.
يمكن أن تتميز فرنسا أسلوباً، وتحاور وتناور، لكن دورها ككفيل له إطاره لا يتعداه بسهولة، ويبدو أنه دور وصل إلى آخر الطريق، وليس العكس، لا لم يولد من جديد.
وفي عز احتدام المشهد تطوع الرئيس الأسبق للحكومة سعد الحريري لـ«شرب السم» كما سماه، أي قبول ان تذهب حقيبة المالية الى شخص من الطائفة الشيعية مرة جديدة، من دون الموافقة على اعتبار هذا التثبيت المذهبي عرفاً دستورياً، وقوبل موقفه هذا بعاصفة استهجان بالنسبة لكل من اعتبر أن ابعاد ثنائي حزب الله – أمل عن المالية هو محك أساسي لأي تنفس سياسي أو اقتصادي لاحق.

من العبث أن يكون هناك نظام دستوري غير قادر أساسا على تحديد مقام الأعراف الدستورية فيه، وأن تكون أعرافه إما ميثاقية فوق دستورية، وإما اعتباطية لا هي مجازة لا بميثاق ولا بدستور

بدوره أخذ الثنائي الشيعي على خاطره بأن الحريري في «تنازله» هذا يتصرّف كما لو أنه هو من يقرّر، وهو من يفرض نفسه كمرجع فوق الرئيس المكلف مصطفى أديب. في الواقع، ما كان الحريري يقرّر، ولا أديب، ولا حتى ماكرون. فالكفيل المالي الفرنسي ليس الجهة الرئيسية المقرضة والمانحة كي يقرر، والحريري لم يعد منذ سنوات قادراً على التواصل الفعلي مع الأطراف المانحة والمقرضة هذه. وفوق هذه الأطراف ثمة سياسة أمريكية تصعيدية متواصلة تجاه لبنان في وضعه الحالي، وبشكل مركزي تجاه حزب الله، وهذه السياسة باتت في الآونة الأخيرة تتخطى المحددات المزمنة أو «التقليدية» لعدائية واشنطن تجاه «حزب الله» أو المحددات المرتبطة بمسار التوتر مع منظومة إيران وحلفائها في المنطقة مأخوذين ككتلة، إذ يرتبط الامر أيضا برغبة أمريكية نافرة في أن ينخرط لبنان هو أيضاً في عقد صفقة القرن، بدءا من ترسيم حدوده البرية والبحرية مع إسرائيل. بدلا من منطق «لنحل مشكلة سلاح حزب الله أولا، ثم نبحث في أمر التسوية الاقليمية، والملف اللبناني منها، جنح الأمريكيون الى العكس: الضغط أكثر فأكثر لينخرط لبنان في المسار نفسه الذي مضت اليه الإمارات والبحرين. تطلب أمريكي خيالي بالنسبة إلى بلد فيه حزب الله المسلح، وحزب الله فيه هو الجماعة الأقوى. لكن ما هو غير واقعي أيضاً هو افتراض ان الضغط الأمريكي سيتراجع، او انه سيكتفي بأهداف واقعية، على الطريقة الفرنسية. لا، الأمريكيون ليسوا بمضطرين لأن يكونوا واقعيين بالنسبة إلى الوضع اللبناني. يطلبون من هذا الوضع ما لا يمكن أن يعطيه، ويحكمون الطوق أكثر فأكثر في المقابل كي يبقى هذا الوضع محتضراً من دون أن يلفظ أنفاسه الأخيرة تماماً. أقله حتى الآن.
ليس هناك إذا، تبعا لهذه المرامي الأمريكية، مكان يمارس فيه أو يتجلى الدور الفرنسي المستقل، حتى على أرض الكيان الذي ألّفته فرنسا قبل مئة عام. أيا يكن الموقف من ثنائي حزب الله – حركة أمل، فقد فهم هذا الثنائي ذلك سياسيا أكثر من سواه. عندما تواجهك قوتان، واحدة خشنة والثانية ناعمة، المستحسن ان تتمكن من لجم تلك الخشنة أو جعلها تسهو عنك، لكن إذا لم يكن ذلك ممكناً فالأولى استبعاد ضغط إحدى القوتين، حتى لو كانت القوة الأنعم. من هذه الناحية يمكن وصف جذر تصرف حزب الله وأمل مع المبادرة الفرنسية، بخاصة بعد فرض العقوبة الأمريكية على علي حسن خليل بأنه تصرّف عقلاني.
ما هو غير عقلاني كانت الحجة التي سوّغ بها هذا التصرف، وهي حجة ان وزارة المالية للشيعة بموجب عرف دستوري. لأنه، وأيا تكن صحة ما جرى الاتفاق عليه في كواليس مؤتمر الطائف قبل ثلاثة عقود ونيف، فإن العرف الدستوري في تعريفه لا يمكن ان يكون موضع خلاف في دولة، رهط يراه عرفاً وآخر يحسبه بدعة. للعرف الدستوري عنصران، مادي ومعنوي، المادي يظهر باستخدامه، وفي التطبيق ذهبت المالية أكثر من مرة بعد الطائف لغير الشيعة، وعلى حسن خليل بحد ذاته لا يكفي لصيرورته عرفا. والعنصر المعنوي للعرف الدستوري هو اسباغه بطابع الشرعية، وليست هناك هنا لا شرعية إجماع، ولا شرعية لها موقع من الإعراب في الهرم القانوني الهرمي العام الذي يقوم عليه البنيان.
بيد ان هذا التلبيس غير المعقول لمفهوم العرف الدستوري نقيض ما هو، وبقدر محموله اللاعقلاني، بقدر ما يكشف تهافت اتفاق الطائف كله، والدستور الناتج عن إدخال معظم إصلاحات الطائف على مسودته السابقة. فالدستور ينص في المادة 95 منه على أن «تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة». والعدل هنا ملتبس، هل يقصد به وجود «متعادل» من الناحية الطائفية بين الوزراء، أيا تكن نسبة تمثيليتهم وحيثيتهم داخل طوائفهم، أو العكس، أو حظ متعادل بين كبرى الطوائف على مستوى الحقائب القوية، أو السيادية؟ أو أن المادة تعني كل هذا في آن، هذا في حين تفتتح فيه المادة نفسها بطلب شروع اول برلمان منتخب مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، بالتهيئة لمرحلة انتقالية هدفها «الغاء الطائفية السياسية». نفس المادة تلغي طائفية الوظائف ما دون الفئة الاولى، وتطلب في نفس الوقت اعتماد قاعدة المناصفة الإسلامية المسيحية على صعيد وظائف الفئة الاولى، «دون تخصيص اية وظيفة لأية طائفة مع التقيد بمبدأي الاختصاص والكفاءة». وربما، «شيعية» وزارة المالية كعرف افتراضي مستقاة من هنا. من واقعة انه، وبخلاف مقتضى هذه المادة، فإن قيادة الجيش وحاكمية المصرف المركزي اعتبرتا في مقام أن يثبتا للموارنة في عرف. أسوة بعرف التوزيع الطوائفي بين الموارنة والشيعة والسنة للرئاسات الثلاث.
بيد أنها ليست المرة الأولى التي يمكن القول فيها ان الطائف انتهى او ينتهي. منذ سنوات باتت طويلة، يردد وفي كل مرة بحيثية فعلية هذا الكلام. سوى ان الطائف الفعلي هو تاريخ انتهاء متمدد. ينتهي بدل المرة عشرين. قوته في كثرة انتهاءاته وتشعب نهاياته. في الإدراك الجوفي بأن لا اتفاق آخر أو سواه من بعده، وبأنه في الوقت نفسه كل شيء هو إلا اتفاق. فمن العبث أن يكون هناك نظام دستوري غير قادر أساسا على تحديد مقام الأعراف الدستورية فيه، وان تكون أعرافه اما ميثاقية فوق دستورية، واما اعتباطية لا هي مجازة لا بميثاق ولا بدستور. الجد في كل هذا العبث أنه لم يعد الخارج يستظرف «اكزوتيكية» كل هذا العبط. أو بالأحرى، بات «يستظرف» أكثر الخيارات الشمشونية: ان يرمي حبل نجاة وهمية لهذا النموذج، ويقطعها في نفس الوقت.

وسام سعادة

القدس العربي