“الموجة السوداء” ترصد 40 عاما من التوتر في الشرق الأوسط

“الموجة السوداء” ترصد 40 عاما من التوتر في الشرق الأوسط

شكل النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، منذ أن ظهرت الجمهورية الإسلامية لأول مرة قبل أربعة عقود إبان إسقاط الشاه وبداية حكم الخميني، تحديا خطيرا للمصالح السعودية في المقام الأول، فضلا عن طرق التجارة الدولية والأمن الإقليمي بشكل عام. ولكن الأخطر من ذلك ما سرده كتاب “الموجة السوداء” حينما سلط الضوء على جانب مهم من هذا النزاع الذي تسببت فيه الولايات المتحدة، وأدى إلى انهيار الثقافة والدين والذاكرة الجماعية في المنطقة بشكل غير مسبوق.

لندن – استطاع باحثون وأكاديميون وحتى المراقبون تشكيل صورة واضحة عن أصل التوترات المستمرة في الشرق الأوسط منذ سنوات طويلة وعما يحصل في المنطقة من نزاعات أدت إلى تشكيل الظروف الاجتماعية والسياسية والدينية الراهنة.

وبعد مرور أربعة عقود من وصول آية الله الخميني إلى طهران عقب إسقاط الشاه رضا بهلوي، تمكنت الصحافية الهولندية – اللبنانية الأصل كيم غطاس من رسم الصورة الكبيرة لكيفية تشكيل بذور ما حصل منذ عام 1979 وحتى الأحداث التي تشهدها المنطقة اليوم.

ويبدو السؤال المحوري الذي يريد معظم المتابعين الإجابة عليه هو كيف وصلت المنطقة إلى هذه النقطة من المشاكل وخاصة بين السعودية وإيران؟ حيث بلغت التوترات الدبلوماسية والسياسية والأمنية وحتى الاقتصادية مستوى غير طبيعي.

جذور الصراع
يعتبر عام 1979 منعطفا حاسما في الشرق الأوسط، لكنه مجرد نقطة محورية وليست بداية المشاكل لأن التوترات الحالية لها أصول وجذور تعود إلى الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية واستعمار المنطقة من خلال انتداب عصبة الأمم والمفاهيم المعادية للسامية في بريطانيا التي خلقت وعد بلفور.

ويقدم كتاب “موجة سوداء: السعودية وإيران والصراع الذي دام 40 عاما.. كشف خفايا الثقافة والدين والذاكرة الجماعية في الشرق الأوسط” رؤى متعددة عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة باعتبارها ثانوية بالنسبة إلى الاتجاهات والطموحات والقرارات في كل من السعودية وإيران.

ويقول جيم مايلز، الكاتب الأميركي، إن من بين العديد من الكتب التي تحلل الشرق الأوسط “أجد أن كتاب الموجة السوداء عمل جيد، حيث يعرض ما يقوله العنوان الفرعي، وهو التنافس بين السعودية وإيران”.

واستعانت الكاتبة بمجموعة واسعة من المصادر بما في ذلك المقابلات الشخصية مع بعض الشخصيات الرئيسية، وكتبت تاريخًا لا يعتمد كالمعتاد على اللاعبين الكبار في المشهد ولكن على العديد من اللاعبين الأصغر أو غير المعروفين الذين كان لهم تأثير كبير.

ومع ذلك يمكن التغاضي عن ذلك لأن القصة التي ترويها غطاس مفصلة ودقيقة وتحتوي على مزيج من القصص مثير للاهتمام، لكن المشكلة الرئيسية في الكتاب تركيزه الضيق للغاية وإطاره الزمني المحدود، إذ يلقي اللوم كله على السعودية وإيران ويتجاهل بشكل كبير تصرفات الولايات المتحدة وإسرائيل في جميع أنحاء المنطقة.

وبينما تحاول غطاس تقديم الحجة القائلة بأن ذلك ليس خطأ الدين الإسلامي، حيث لا يمكن لوم معظم الغربيين الذين يتبنون وجهة النظر الاستشراقية التي هي بالنسبة إليهم أصحّ من هذه الحجة، توصلت إلى أهمية “التركيز في الغالب على تصرفات إيران والسعودية وكثرة اللاعبين المحليين”.

وذكرت أنها لم تكن تنوي إعفاء الولايات المتحدة من الأخطاء العديدة التي ارتكبتها والسياسات المميتة، التي انتهجتها في الكثير من الأحيان. وأكدت على موقف مهم مفاده أن الإدارات الأميركية المتعاقبة متسببة في كل ما يحدث، وقالت “لقد غذت تصرفات أميركا ما حصل في الشرق الأوسط وفاقمت الديناميات المحلية”.

ويبدو أن لغطاس قناعة بأن الولايات المتحدة لها دور كبير في كل ما يحدث حيث كتبت فقرة في نهاية الكتاب أشارت فيها إلى أن واشنطن ارتكبت بعض الأخطاء، وفاقمت الأوضاع في المنطقة، ولكن ستُسامح بالرغم من ذلك على كل أخطائها.

ويقول مايلز إذا كانت غطاس تريد حقا أن يفهم الناس كل ما حدث في منطقة الشرق الأوسط، كان يفترض أن تشمل الدراسة الولايات المتحدة وإسرائيل وسيتعين عليها أن تمتد إلى ما هو أبعد من عام 1979 لأن تسليط الأضواء على ما يحدث اليوم ليس بمنأى عما حصل قبل وصول الخميني إلى الحكم.

يرى مراقبون أن تجاهل المتسبب الأول في كل ما يحصل في المنطقة يدعو إلى الحيرة، فمع نهاية الأحداث الأخيرة لم يتم ذكر ليبيا إلا في الإشارات العابرة إلى مكان قضى فيه اللاعبون السياسيون بعض الوقت.

وقال مايلز “لا شيء في كتاب الموجة السوداء يتعلق بترويج الولايات المتحدة وتسليحها لهجوم الناتو بعد بند الحق في الحماية الذي أصدره مجلس الأمن الدولي الذي سمح فقط بمنطقة حظر طيران، وليس القصف الجوي ودعم المتمردين”.

كما لم يتم ذكر أي شيء بخصوص متمردي بنغازي الذين يتألفون إلى حد كبير من المزيد من الإرهابيين الأصوليين الإسلاميين ولم يتم ذكر أي شيء يتعلق بمقولة هيلاري كلينتون “لقد جئنا ورأينا، لقد مات”، في إشارة إلى الزعيم الراحل معمر القذافي، ليطغى عليها فيما بعد هجوم بنغازي، الذي قتل العديد من عملاء وكالة المخابرات المركزية الأميركية الذين ينشطون في المنطقة غير الخاضعة للحكم الآن من قبل البرلمان والجيش الوطني الليبي.

وقد تم تجاهل ذكر أي شيء يتعلق بكتلة الأسلحة والرجال والمواد التي تم شحنها بعد ذلك من تركيا إلى سوريا والتي فاقمت الوضع هناك ناهيك عن كل المشاكل التي أطلقت على دول الساحل الأفريقي.

وتعد سوريا أحدث بقعة ساخنة اليوم، يتم تصويرها بشكل خاطئ في سياقها التاريخي، حيث يُلقى باللوم على إيران إلى حد كبير بخصوص المشاكل التي تمر بها، بينما يحمل البعض السعودية مسؤولية ظهور تنظيم داعش المتطرف، ولكن هذه الاستنتاجات ربما تكون صحيحة بالنظر إليها على نطاق ضيق، لكن بالنظر إلى السياق هي استنتاجات ضحلة للغاية.

ويؤكد مايلز منتقدا غطاس أن هناك معطيات لم يتم التطرق إليها بالتفاصيل، حيث بالكاد يتم ذكر تركيا، ويتم تجاهل ليبيا، على النحو الوارد أعلاه. كما تم تجاهل دور الولايات المتحدة في دعم المتمردين، والغالبية العظمى من الإرهابيين خارج الدولة.

وهناك ثلاثة تصريحات أخرى ذكرت في الكتاب حول الولايات المتحدة ولكنها ليست صحيحة، وهي أن عدم اهتمام واشنطن بالمساعدة في إسقاط نظام الأسد هو أمر سهل التهرب منه، حيث أعلنت الولايات المتحدة عدة مرات في إطار دورها المهيمن العالمي، خاصة بعد 11 سبتمبر، أنه سيتم إسقاط الحكومة السورية.

أما التصريح الثاني فيتضمن أن بإمكان الولايات المتحدة الادعاء بأنها انتصرت في سوريا، لكن معظم هزيمة داعش يمكن أن تُعزى إلى التدخل الروسي بعد سنوات من تظاهر القوات الأميركية بقصف داعش، وحصر نفسها في أهداف سهلة فقط.

كما أن “تقديم الولايات المتحدة غطاءً جويا”، في إشارة إلى القوات البرية الإيرانية التي تقاتل داعش في سوريا، يعد تصريحا يتطلب المزيد من المراجع لإثبات مصداقيته.

ثمة العديد من الأمثلة الأخرى، فعلى سبيل المثال تم ذكر إسرائيل كثيرًا في أول الكتاب فيما يتعلق بالفوضى في لبنان، ولكنها مرة أخرى سلسلة من المراجع الجافة غير السياقية حيث تم لوم حزب الله على الفوضى في لبنان دون إدراج الكوارث التي ارتكبتها إسرائيل والولايات المتحدة.

وتروي غطاس كيف تم قصف ثكنات المارينز في بيروت لكنها لم تذكر شيئًا عن سبب وجودهم أو لماذا قصفت يو.أس.أس نيو جيرسي بيروت بقذائف؛ هل هو “خطأ” آخر أم مجرد “استفزاز” بسيط؟

وعلى الجانب الإسرائيلي، لم يُقلْ أي شيء عن مذابح صبرا وشاتيلا التي ارتكبتها الكتائب المسيحية تحت حماية جيش الدفاع الإسرائيلي، وهي ليست سياسة “خاطئة” بالضبط، بقدر ما هي بالتأكيد جريمة ضد الإنسانية.

وخارج لبنان، في جميع أنحاء المنطقة، قامت الولايات المتحدة وإسرائيل بتحويل الأحداث والسرديات الملتوية لخلق سيطرتهما الخاصة على المنطقة من أجل النفط والمال والدين. تتحدث غطاس عن “استبداد الدين”، و”القبضة الخانقة للدين”، دون مناقشة العديد من الأحداث التي سبقت سلسلة أحداثها في الشرق الأوسط.

عام 1979 يعتبر منعطفا حاسما في الشرق الأوسط، لكنه مجرد نقطة محورية بدأت بظهور الخميني وليست بداية المشاكل

ومن المؤكد أن إسرائيل تعيش تحت “قبضة الدين الخانقة” على الأقل فيما يتعلق بالفلسطينيين، فيما تعاني الولايات المتحدة من “استبداد الدين” سواء من استعبادها الشديد لإسرائيل أو من سياساتها الداخلية حيث يدعم المسيحيون الإنجيليون إسرائيل بالكامل.

ويرى مايلز في موجة انتقاده للكتاب، الذي لم يعط كشفا عن جمع الزوايا الممكن التركيز عليها، أن كلتا الديانتين استخدمتا وعملتا على تحويل الوضع إلى الأسوأ في الشرق الأوسط لصالح رغباتهما الخاصة، ولكن في المحصلة يمكن القول إن “الموجة السوداء” للأصولية الإسلامية في إيران والسعودية تدين بالكثير من قوتها للولايات المتحدة.

ويمكن أن يستمر انتقاد العمل بما في ذلك من خلال أفغانستان وباكستان ومصر، ولكن سيتطلب هذا إعادة كتابة الكثير من أجزاء الكتاب مرة أخرى وتوسيعها باستفاضة.

العرب