خمسون عاما على رحيل الزعيم… تعالَ وانظر حالة الأمة

خمسون عاما على رحيل الزعيم… تعالَ وانظر حالة الأمة

سأتخذ منحى آخر في استرجاع الذكرى الخمسين لرحيل الزعيم. لا أريد أن أذكـّر بمناقبه الكثيرة وإنجازاته التي تركها للشعب المصري، والأمة العربية وهي كثيرة. ولا أريد أن أعيد إلى الأذهان أيضا بعض الانتقادات لنظام حكمه، والأخطاء التي ارتكبها، أو ارتكبتها ثلة من حوله أساءت له ولمصر وللأمة.
أريد أن أبعث رسالة شخصية له أحدثه عن الأمة التي قضى سنوات عمره القصير نسبيا، يلملم أطرافها ويرقع ثقوبها، ويرفع من منسوب كرامتها، ويدافع عن أراضيها ويدعم ثوراتها، ويعلم طلابها مجانا، ويستقبل مشرديها. أريد أن أحكي له ما الذي تغير بعد رحيله، وبعد أن انتقلت الأمانة إلى من نكث العهود، وأدار ظهره لتراث الزعيم، وساوم على كرامة بلده ووضع 99% من أوراق اللعبة في أيدي أمريكا التي تتصدر أعداء الأمة الثلاثة كما حددها الزعيم: الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية.
بعد تسع سنوات و141 يوما على رحيلك رُفع علم كيان الاغتصاب الصهيوني في سماء القاهرة، هل تصدق؟ لم ينتظروا طويلا. الكيان الذي حاربته وضحيت بعشرات الألوف من أجل ألا يدخل القاهرة بالقوة دخلها بالدهاء والردة، بعد أن تنكروا لتراثك. كانوا يعرفون أن من يسيطر على أرض الكنانة يخترق الأمة من محيطها لخليجها. إنها القاعدة الأساسية، التي تحدثت عنها في «فلسفة الثورة»، فصلاح مصر يتبعه صلاح الأمة العربية، وغياب مصر لا بد أن يليه الخراب الشامل، وهذا بالضبط ما حدث بعد رحيلك.
جيش مصر العظيم خاض حرب أكتوبر المجيدة بخططك أيها الزعيم، وبالضباط الشرفاء الذين اخترتهم بعد هزيمة يونيو، وبالسلاح الذي جلبته لهم وبشبكة الصواريخ التي بنيتها بمساعدة من الاتحاد السوفييتي، لكن الانتصار العسكري تحول إلى هزيمة سياسية مُـّرة على يد «الرئيس المؤمن». الفرق بين الاثنين كبير- الزعيم خرج من الهزيمة ليدخل حرب الاستنزاف العظمى، ويبني الجيش القوي ليستعيد الأرض والكرامة، لكن الذين انتصروا في حرب أكتوبر اختاروا الخنوع وارتموا في أحضان «العزيز كيسنجر». بعد رحيلك مباشرة، تم التنصل من اتفاقيات قمة القاهرة الطارئة، التي جمعتها على عجل لإنقاذ الثورة الفلسطينية، ودفعت عمرك ثمنا لها، فقد تم إخراج المقاومة تماما من الأردن، وتمت الإطاحة بالقيادة السورية التي وقفت مع الثورة، عبر انقلاب عسكري نقل سوريا إلى مواقع أخرى مغايرة تماما. الحرب الأهلية في لبنان بدأت عام 1975 بين التيارات الانعزالية، والتيارات الوطنية لضرب توجهات لبنان العروبية. أتذكر الاشتباكات عام 1969 بين الفلسطينيين والجيش اللبناني، عندما جمعتهم في القاهرة، وأوقفت النزيف فورا، وتم توقيع اتفاقية القاهرة في 3 نوفمبر، التي سمحت للمقاومة أن تتحرك بحرية في جنوب لبنان؟ انتهى ذلك الوقت. لقد دفع الفلسطينيون ثمنا عظيما، وارتكبت المجازر العديدة بحقهم من تل الزعتر إلى صبرا وشاتيلا وصولا إلى حرب المخيمات.
بعد خروج مصر من حلبة الصراع تمردت إسرائيل على العالم. أعلنت رسميا ضم القدس عام 1980 والجولان عام 1981 ووسعت حركة الاستيطان في كل الضفة الغربية، وضربت المفاعل النووي العراقي (1981) وضربت تونس عامي 1985 و1988 وقصفت معمل دير الزور في سوريا (2007) وخنقت محمود المبحوح في غرفته بفندق في دبي (2010) ودمرت مصنع اليرموك للأسلحة في السودان (2012).
العراق دخل في حرب مع إيران استمرت ثماني سنوات بتشجيع وتمويل من دول النفط لإنهاك البلدين معا، ومصر غائبة تماما عن المشهد. وغزت إسرائيل لبنان عام 1982 ووصلت العاصمة بيروت، وأخرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان، وشارون يقف مع حلفائه على مشارف بيروت الشرقية. كاد لبنان أن يتموضع في أحضان إسرائيل بعد توقيع اتفاقية 17 مايو، لولا المقاومة الشريفة التي انطلقت ضد احتلال الجنوب اللبناني فورا. جعفر النميري الذي كان يدعي أنه من أتباعك، نصّب نفسه خليفة للمسلمين في السودان، وباع يهود الفلاشا لإسرائيل بمبالغ زهيدة. وبعد انتفاضة جماهيرية والتحول القصير إلى الديمقراطية، جاء انقلاب عمر البشير ليحكم البلاد ثلاثين سنة ساوم فيها على وحدة الوطن، وسلّم ربع السودان في الجنوب لدولة معادية كان أول زيارة لرئيسها لإسرائيل. أما العقيد الذي أصيب بالغرور، عندما سمع هيكل يصفه بأنه خليفة عبد الناصر فقد حول البلاد إلى مزرعة له ولأولاده. راح ينشد الوحدة مرة مع تونس ومرة مع مصر ومرة مع سوريا ومصر ومرة مع مالطا. أهان البلاد والعباد، وكمم الأفواه، ودمر التعليم، وجعل من بلده حقل تجارب لأفكاره المريضة، فأنشأ «أول جماهيرية» في التاريخ، وأعلن نفسه ملك ملوك افريقيا، وعميد الزعماء العرب، وصاحب النظرية الثالثة المجسدة في كتابه الأخضر، ورمى بكتيب حل القضية الفلسطينية على رئيس الجمعية العامة علي التريكي، عام 2009 تحت عنوان «إسراطين».

بعد كامب ديفيد ورحيل مصر من السفينة العربية، بدأت الأمواج تضربها من كل جانب ولم تتحمل الأشرعة قوة الرياح فتمزقت وتقطعت

حاول كثير من الزعماء ملء الفراغ الذي تركته ففشلوا، وعادوا بالوبال على بلادهم وعلى الأمة. بعد ثماني سنوات من الحرب مع إيران عاد صدام حسين واحتل الكويت وأعلنها المحافظة التاسعة عشرة، لكنها جلبت له وللعراق ولنا جميعا الخراب، وكانت آخر وتد يقتلع من خيمة العروبة التي تطايرت بعدها. لقد تجمع نصف مليون جندي أمريكي في حفر الباطن بالسعودية، وأطلقوا «عاصفة الصحراء» لتدمير العراق. فرضوا أقسى عقوبات في التاريخ على الشعب العراقي، ثم عادوا واحتلوه عام 2003 وتقاسموه مع الإيرانيين، الذين أطلقوا الغول الطائفي ليحصد ويدمر وينهك البلاد. أما سوريا فقد تحولت إلى أكبر دولة بوليسية في المنطقة، وارتكب نظامها المجازر في حماة عام 1982 وبسط سيطرته على لبنان ثلاثين سنة، والتحق بتحالف حفر الباطن. ورّث أبناءه من بعده ليخلق أول سابقة في العالم العربي لنظام جمهوري يورث الأبناء على طريقة كيم إل سونغ. الفكرة أعجبت مبارك والقذافي وصدام وعلي عبد الله صالح في اليمن، فساروا على النهج نفسه، لولا انتفاضات الشعوب.
وعلى ذكر اليمن نذكر أنك دفعت دما من أبناء جيش مصر العظيم لإلحاقه بركب الحضارة، وتحويله إلى بلد عصري ثم توجهت إلى دعم ثورة الجنوب ضد الاستعمار الإنكليزي. أنظر ماذا حدث لليمن في الماضي والحاضر. لم يرقهم أن رأوه موحدا فلم يتوانوا لحظة على تفكيكه وتدميره، وكأنهم ينتقمون لثورة 1962. ولا حاجة أن تعرف وضع يمن اليوم الذي يشهد أكبر مأساة إنسانية في العالم. الجزائر بعد رحيل الزعيم هواري بومدين، انزلقت إلى الفوضى والحروب الداخلية والفساد. وفاقم ملف الصحراء الخلاف مع الجار المغربي، الذي بسط سيطرته على الصحراء ودخل في حرب الرمال لمدة خمس عشرة سنة وما زال الملف مفتوحا بدون تسوية. لقد فتح المغرب خطوطا سرية مع الكيان الصهيوني للعب دور الوساطة بين مصر وإسرائيل بعد زيارة إسحاق رابين للمغرب سنة 1976 الذي حمل معه مقترحات للتسوية مع مصر. وظل المغرب يحتضن اللقاءات السرية إلى أن توجت تلك الجهود بزيارة أنور السادات للقدس عام 1977.
بعد كامب ديفيد ورحيل مصر من السفينة العربية، بدأت الأمواج تضربها من كل جانب ولم تتحمل الأشرعة قوة الرياح فتمزقت وتقطعت. الفلسطينيون وقعوا اتفاقية الهزيمة في أوسلو، وتخلوا عن برنامج التحرير بحثا عن دولة، ففقدوا الاثنين معا. وما لبث الأردن أن لحق بالركب ووقع اتفاقية وادي عربة ليعطي فرصة للعديد من الدول العربية أن تقيم علاقات مع الكيان الصهيوني، خاصة دول النفط. تفرد الكيان بمن تبقى من الفلسطينيين واللبنانيين الرافضين للخنوع، والنظام العربي يقف إما متفرجا أو معلنا تضامنه مع الكيان. حروب على الضفة وغزة ولبنان. وزيرة خارجية الكيان تسيبي ليفني، أعلنت الحرب على غزة من القاهرة، ويدها بيد أحمد أبو الغيط الذي حول الجامعة العربية إلى مكتب خدمات لعملاء إسرائيل.
القدس لم تعد تعنيهم ولا هدم البيوت ولا تشريد آلاف الفلسطينيين، الاستيطان ينتشر كالجدري على الجسد الفلسطيني، والعربان غير معنيين وكبير المفاوضين ما زال يرفع سبابته ويؤكد لنا أن الحياة كلها مفاوضات. وعندما أطلقت الجماهير العربية المقهورة المغلوبة على أمرها صرخة دوت في أنحاء العالم «الشعب يريد إسقاط النظام»، تكالبت قوى الشر جميعها لقمع صرخات الحرية والكرامة بالمال والعسكر والدبابة والشبيحة والبلطجية والداعشيين والمرتزقة، ورغم الردة إلا أن أنين الشعوب ما زال يهمهم في الخرطوم وبغداد وبيروت والجزائر. دويلات الخليج التي أصلا لم تكن موجودة عند الرحيل، أصبحت أوكارا للتآمر على الأمة التي حلمت بوحدتها. تعال وانظر ماذ يجري الآن، طيران إسرائيل فوق السعودية التي تدفع بدويلات البئر للتطبيع قبلها، والإمارات تتحول إلى وكيل حصري للكيان ليس للتطبيع فحسب، بل لتجنيد دول أخرى نحو التطبيع والسودان ليس آخرها.
العالم العربي يا سيادة الرئيس الآن محاط بثلاث قوى رئيسية متنافسة: إيران وتركيا وإسرائيل. كل دولة من هذه الدول تحاول أن توسع مصالحها على حساب نسيج وثقافة وثروات وأرض العرب. العديد من الدول العربية تتخلى الآن عن القدس وفلسطين وتحتضن العدو الصهيوني كما هو: كيان عنصري قاتل محتل توسعي. فهل كان يمكن أن يحصل كل هذا الهوان لولا غياب مصر يا سيادة الرئيس؟

عبدالحميد صيام

القدس العربي