يثير جنوح الصين إلى ما يوصف بـ”الاستبداد المتعمق” وقوميتها العدوانية نقاشا ساخنا هذه الفترة بين محللي السياسة والمسؤولين الحكوميين السابقين والأكاديميين وغيرهم في الولايات المتحدة حول ما إذا كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة قد تمكنت بالفعل طيلة العقود الأربعة الماضية من فهم الحكومة الشيوعية في بكين، بينما يكمن في قلب ذلك سؤال مثير للجدل بشأن نجاح واشنطن في مساعيها لتغيير “عدوها” في المقام الأول.
واشنطن – يزعم المدافعون عن الانفتاح على الصين، والذين بنى العديد منهم حياته المهنية الخاصة حول تلك الفكرة، أن السياسيين والمسؤولين الأميركيين لم يهدفوا أبدا إلى تحويل القوة الاقتصادية الثانية في العالم إلى ديمقراطية ليبرالية أو شريك وثيق للولايات المتحدة.
وبينما يجادل البعض بأن الهدف كان تشكيل السياسة الصينية لتتماشى أكثر مع أهداف الولايات المتحدة من حيث خلق مجتمع أكثر انفتاحًا، وتقليل السلوك التخريبي في الخارج، وإجراء عمليات تجارية شفافة، يرى آخرون أن ناتج هذا الانفتاح كان بلاغيا، مدعين أن الانتقادات غالبا ما تفشل في التمييز بين الطريقة التي تبرر بها واشنطن سياساتها علنا، من خلال الإشارة إلى القيم، والطريقة التي تصوغها بها فعليا، من خلال وضع المصالح الوطنية أولا.
ويقول زاكاري هافير، وهو محلل سياسي مختص في الشؤون الصينية، إن هذه الجهود للتقليل من أهمية دوافع الانفتاح على الصين ترقى إلى مستوى التلاعب، في محاولة لإعادة تشكيل الموقف للتشويش على الفشل.
وخلال الحرب الباردة، برر القادة الأميركيون التعامل مع الصين على أنه كبح جماح السياسة الخارجية “الثورية” للصين، وإقامة علاقة ثنائية مستقرة، ومواجهة التهديد السوفيتي وكلها كانت أهدافا معقولة.
وعلى مدار ما يقرب من عقدين من الزمن بعد تلك الحقبة، باع القادة الأميركيون فكرة الانفتاح على بكين على أنها تغيير للصين، وهذا لا يعني أن الولايات المتحدة لم يكن ينبغي لها أن تقيم علاقات مع الصين، بل إن الأميركيين، بحسب هافير، لا يمكنهم التعلم من نجاحات وفشل الانفتاح في العلاقات إذا عمت أعينهم عن الدوافع الحقيقية لاتباع نهج إقامة العلاقات على أساس تعزيز حكومة ديمقراطية ومسؤولة في بكين.
وأشار هافير في تقرير نشرته مجلة فورين بوليسي الأميركية، إلى أن رؤساء الولايات المتحدة جورج إتش بوش وبيل كلينتون وجورج دبليو بوش برروا استمرار نهجهم تجاه الصين باستخدام “الأفكار الليبرالية السائدة حول الروابط بين التجارة والنمو الاقتصادي والديمقراطية والإيمان بالعالمية المفترضة وقوة الرغبة البشرية في الحرية”.
نظرة مختلفة
بدأ الجدل يتصاعد حول ذلك الأسلوب في التعامل مع الصينيين خلال عهد جورج بوش الأب، فقبل الاحتجاجات والقمع في يونيو 1989، أعرب بوش، الذي كان رئيسًا لمكتب الاتصال الأميركي ببكين في منتصف سبعينات القرن الماضي عن اهتمامه الشخصي العميق بالصين.
وبعد عدة أيام من توليه المنصب، كان يؤكد بالفعل على “العلاقة الاستراتيجية والتجارية والثقافية القوية والمهمة التي نتمتع بها مع الصينيين”. وقد تحدث بوش عن الإمكانات الكبيرة للتعاون القوي مع بكين في مجموعة متنوعة من المجالات، بما في ذلك حل النزاعات والسيطرة على الأسلحة ومكافحة الاتجار، والقضايا البيئية والتجارة والاستثمار والعلوم والتكنولوجيا والتعليم.
ومع ذلك، ورغم تفاؤله السابق، إلا أنه بعد مذبحة ميدان تيانانمين الدموية في يونيو 1989، لم يكن أمام بوش الأب من خيار سوى تعديل خطابه، ففي مؤتمر صحافي في 5 يونيو أعلن عن اتخاذه إجراءات عقابية وأدان حملة القمع الوحشية، مشيرًا إلى أن “الولايات المتحدة لا يمكنها التغاضي عن الهجمات العنيفة ولا يمكنها تجاهل العواقب على علاقتنا مع الصين”.
ولكن بوش أصر كذلك على أن “هذا ليس الوقت المناسب لإصدار رد فعل عاطفي، ولكن لاتخاذ إجراء منطقي ودقيق يأخذ في الاعتبار مصالحنا طويلة الأجل والاعتراف بالوضع الداخلي المعقد في الصين”. وأكد بقوة “لا أريد أن أرى انقطاعا تاما في هذه العلاقة، ولن أشجع على قطع العلاقات بالكامل”.
ومن هنا اتضح أن بوش الأب لم يكن راغبا في التخلي تماما عن حلمه بالعمل مع الصين، وهو الموقف الذي أسفر عن سنوات من التوتر بين بوش والكونغرس الأكثر تشددا، ولذلك وفي مواجهة رد الفعل العنيف الذي أعقب مذبحة تيانانمين بدأ في تبرير استمرار التواصل مع الصين على أساس دعم التحول الديمقراطي والليبرالية.
وفي نفس المؤتمر الصحافي قال بوش “أعتقد أن العلاقات التجارية أدت، في جوهرها، إلى هذا البحث عن المزيد من الحرية.. أعتقد أنه نظرا لأن الناس لديهم حافز تجاري، سواء كان ذلك في الصين أو في أنظمة شمولية أخرى، فإن الانتقال إلى الديمقراطية يصبح أكثر صعوبة”.
وقد حافظ بوش على العلاقات مع الصين طوال فترة رئاسته، وادعى لاحقًا أنه في قضايا مثل حقوق الإنسان، والحد من الأسلحة، والتجارة، “نحن نحقق فرقا في الصين من خلال استمرار مشاركتنا”. ومن خلال القيام بذلك، قدم بوش للجمهور الأميركي أول تصور شامل يركز على تغيير سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين.
ورغم اتباع نهج بوش في الصين خلال الانتخابات الرئاسية عام 1992، فقد تمسك بيل كلينتون في النهاية بلغة التحول في منصبه، وحاول الضغط على الصين للتغيير وخلال بيان حول سياسة بلاده تجاه الصين في مايو 1993، سخر من بوش لعرقلة جهود الكونغرس لفرض شروط على تجديد “قواعدنا التجارية المواتية تجاه الصين”.
وأعلن كلينتون حينها “لقد حان الوقت لأن تعترف السياسة الأميركية الموحدة بقيمة الصين وأميركا”، معربًا عن حاجة الولايات المتحدة للضغط على الصين بشأن حقوق الإنسان وانتشار الأسلحة والتبادل التجاري. ولهذه الغاية، صاغ سياسة جديدة تجاه الصين، تربط التجديد المستقبلي لوضع “دولة الأعلى أفضلية” بمقدار تحسين سجلها في مجال حقوق الإنسان.
ولقد برر كلينتون هذا التحول في السياسة بالاعتقاد بأن “عملية التنمية والإصلاح الاقتصادي في الصين سيصحبها قدر أكبر من الحرية السياسية وأنه من خلال دعم الإصلاح الديمقراطي السلمي والمؤيد للسوق خططت إدارته ‘لزرع بذور التغيير المفعمة بالأمل في الصين’”.
ولكن في مايو 1994، تخلى كلينتون عن هذا النهج، وتحوّل إلى سياسة السعي للتغيير من خلال بناء العلاقات. ومع تزايد أهمية المجالات الأخرى للعلاقات الثنائية، أعلن عن تحركه لفصل حقوق الإنسان عن التجديد السنوي للوضع التجاري الذي جعل الدولة الأعلى أفضلية للصين، بحجة الوصول إلى نهاية فائدة تلك السياسة وقد حان الوقت لاتخاذ مسار جديد نحو تحقيق “هدفنا الثابت”.
وهكذا بدأت المرحلة الثانية من سياسة كلينتون تجاه الصين، وهي المرحلة التي بررت إقامة العلاقات ليس فقط من أجل تعزيز التحرير داخل الصين، ولكن أيضًا لتعزيز نمو “القوة المسؤولة” على المسرح العالمي. دعم هذا الموقف الجديد حملة كلينتون لإدخال الصين في منظمة التجارة العالمية وأدى في النهاية إلى دعوته إلى بناء “شراكة استراتيجية بناءة” معها في 1997.
لحظة التغيير
كما هو الحال مع جهود حملة كلينتون الانتخابية، استخدم جورج دبليو بوش (الابن) في البداية نبرة أكثر تشددا تجاه الصين من سلفه. وخلال حملته الانتخابية، دعا إلى إعادة تعريف الصين على أنها “قوة منافسة” والتركيز بشكل أكبر على حلفائها الآسيويين.
وبمجرد توليه منصبه، وصف بوش الابن أمام الكونغرس الصين أنها “منافس استراتيجي”، بينما اعتبرها مسؤولو إداراته بأنها “منافس إقليمي محتمل” ودعوا إلى “أن تكون صريحة بشأن خلافاتها” بشأن قضايا تايوان وحقوق الإنسان وانتشار الأسلحة النووية.
ولكن حتى في الوقت، الذي سعى فيه الرئيس إلى إعادة توجيه العلاقات الثنائية نحو إطار المنافسة، ضاعف بوش من القوة التحويلية للعلاقة الاقتصادية وبذلك حاكى الخطاب الأخلاقي لكلينتون، وأشار إلى مجال التجارة على أنه أداة رائعة لخلق بكين أكثر ليبرالية.
وفي حديثه أمام مجلس الشؤون العالمية في لوس أنجلس في مايو 2001، أعلن بوش الابن أنه “عندما نفتح التجارة، نفتح العقول.. نحن نتاجر مع الصين لأن التجارة هي سياسة جيدة لاقتصادنا، لأن التجارة هي سياسة جيدة للديمقراطية، ولأن التجارة سياسة جيدة لأمننا القومي”.
ولكن جاءت أحداث الـ11 سبتمبر لتكون الضربة الأخيرة لأي فكرة عن الصين كخصم استراتيجي، وبعد شهر من الهجمات، وخلال مؤتمر صحافي في شنغهاي، ركز الرئيس بوش على وصف الصين بأنها أحد “الشركاء المهمين” للولايات المتحدة في “التحالف العالمي ضد الإرهاب” ورحب بانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية ودعا إلى بناء علاقة بناءة.
ورغم أن بوش حوّل تركيزه من المنافسة إلى التعاون، إلا أنه استمر في شرح سياسة الولايات المتحدة من حيث تشكيل مستقبل الصين. وفي نفس المؤتمر، كرر التأكيد على أن “الحرية الاقتصادية والحرية السياسية ستسيران جنبًا إلى جنب” وأن “التقدم الصيني يعتمد على اندماج الصين الكامل في قواعد وأعراف المؤسسات الدولية”.
وعلى هذا النحو، كرر جورج بوش الابن في النهاية خطاب وسياسات بيل كلينتون وجورج بوش الأب. جاء كل من هؤلاء الرؤساء الثلاثة ليضعوا إطارًا لسياسة الولايات المتحدة تجاه الصين بعبارات متشابهة بشكل ملحوظ، مؤكدين على أن إقامة العلاقات مع الصين يمكن أن تحرر الحكومة وتشكل سلوكها.
ويجادل المدافعون عن إقامة علاقة مع الصين بأن هؤلاء الرؤساء لم يصدقوا خطابهم وأن مستشاريهم وخبراء الاستراتيجيات لديهم نظرة أكثر واقعية لأهداف الولايات المتحدة، وأن الخطاب المثالي كان موجودًا فقط لبيع سياسة الانفتاح على الصين للجمهور.
وهناك القليل من الأدلة لدعم مثل هذه الادعاءات، وعلاوة على ذلك، فإن الولايات المتحدة دولة ديمقراطية، والإدارات الرئاسية مسؤولة في النهاية أمام الجمهور. وإذا قامت ثلاث إدارات متتالية بتضليل الجمهور الأميركي عن قصد بشأن سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين، فسيكون ذلك بمثابة خيانة كبيرة لثقة الجمهور.
وبدلا من ذلك، وفي لحظة متفائلة، آمن القادة الأميركيون بقدرتهم على تغيير الصين. وعلى الرغم من أن الخطاب الأميركي قد تغير في عهد الرئيس باراك أوباما، الذي تخلى عن أي تظاهر بتغيير الصين داخليًا وشدد بدلاً من ذلك على التعاون في القضايا العالمية، لا يمكن للمدافعين عن الانفتاح على الصين أن يتجاهلوا حقبة ما بعد الحرب الباردة.
العرب