تحولات متسارعة لتشكيل نظام إقليمي جديد

تحولات متسارعة لتشكيل نظام إقليمي جديد

ليس في الشرق الأوسط نظام إقليمي، بل تحولات بنيوية لتركيب نظام إقليمي. التحولات بدأت قبل سنين من دون أن تكتمل، لكنها تتسارع في هذه الأيام. وما يرافق اندفاعها بالقوة الذاتية هو مناخ دولي متغير: النسر الأميركي شاخ، أو صارت اهتماماته الأكبر في الشرق الأقصى. الدب الروسي جدَّد شبابه، وصار سريع الحركة. والتنين الصيني بدأ يتقدم اقتصادياً، ثم سياسياً، وأمنياً بخُطى مدروسة. قبل عقود كانت الاستراتيجيات والسياسات في المنطقة وحولها تدور حول ثلاث قضايا: الصراع العربي – الإسرائيلي، والحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والغرب بقيادة أميركا، وضمان منابع النفط وطرق وصوله إلى العالم. الدول العربية شددت الطوق حول إسرائيل فوق الحروب معها، فردت بطوق أوسع حول العرب حسب نظرية بن غوريون، ضم تركيا وباكستان وإيران وإثيوبيا.
الغرب أقام “حلف بغداد” الذي صار “حلف السنتو”، وطبق “مبدأ أيزنهاور”، فردت موسكو بحرب “عصابات” سياسية، ودعمت انقلابات توجهت صوب الشرق. والنفط بقي في أمان.

فترة التحولات

لكن عام 1979 شهد ثلاثة تحولات مهمة: معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، وانتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني، والدخول العسكري السوفياتي إلى أفغانستان وإقامة نظام شيوعي. العرب رفضوا كامب ديفيد، وقاطعوا مصر، ثم عادوا إليها، وشهدوا معاهدة وادي عربة بين الأردن وإسرائيل واتفاق أوسلو بين منظمة التحرير وإسرائيل، ومفاوضات مباشرة بين سوريا وإسرائيل برعاية أميركية لم تصل إلى اتفاق، ثم جاءت معاهدات السلام بين إسرائيل وكل من الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين التي تم التوصل إليها بجهود أميركية قوية.

الثورة الإسلامية في إيران لم تتحول من قضية إلى دولة، بل أرادت أن تكون دولة وقضية معاً، وأن تصدر الثورة إلى العالم العربي عبر إنشاء ميليشيات مسلحة في لبنان والعراق وسوريا واليمن، والهدف هو إقامة إمبراطورية فارسية تحت عنوان أيديولوجي مذهبي هو ولاية الفقيه. والاتحاد السوفياتي أجبر على الانسحاب من أفغانستان على أيدي “المجاهدين” الذين موَّلتهم دول عربية، وسلَّحتهم أميركا، ودرَّبتهم أفغانستان، ثم انهار من الداخل.
ولم تكن ظاهرة “الأفغان العرب” سوى بداية لظهور “القاعدة” و”داعش” ومجموعة تنظيمات متشددة إرهابية سطت على “الربيع العربي”. ولا كان الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق سوى مغامرة لإعادة تشكيل المنطقة تحت عنوان “الشرق الأوسط الواسع”، فإذا بالإرهاب يزداد، والشرق الأوسط يستعيد اللجوء إلى القوى الخارجية واستضافة القواعد العسكرية. وها هو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يرتدي ثوب سلطان عثماني يبحث عن استعادة شيء مما كان للسلطنة عبر استخدام القوة: احتلال أجزاء من العراق وسوريا، وإرسال قوات تركية ومرتزقة إلى ليبيا، واصطدام باليونان وقبرص وفرنسا من أجل الغاز شرق المتوسط.

وهكذا، تبدَّلت الهموم والاهتمامات. أكبر هموم الخليج ومعظم الدول العربية هي اندفاع طهران في “زعزعة استقرار” المنطقة، وهجوم أنقرة العسكري مصحوباً برعاية مشروع “الإخوان المسلمين” في خدمة العثمانية الجديدة وأحلام استعادة “الخلافة”، وترتيب تسوية للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي عبر “حل الدولتين”. وليس لدى الكبار ما يمنع القوى الإقليمية من التمدد فوق الأرض العربية. لا أحد يعرف إلى أي حد تنسحب أميركا من المنطقة، وتستطيع روسيا باقتصادها الضعيف أن تدفع ثمن الدور الكبير الذي تلعبه. ولا أين تبدأ التجارة وأين تنتهي الطموحات الإمبريالية في مشروع “الحزام والطريق” الصيني المرصود له نحو تريليون دولار، لكن التحولات سائرة ومستمرة. أميركا ترى أنه “لا استقرار في المنطقة من دون مواجهة إيران”. وهي تعرف أن تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي محطة إجبارية على طريق المواجهة الناجحة مع طهران. وتركيا تحاول إقامة “محور سني” مقابل “المحور الشيعي” بقيادة إيران. والعرب يبحثون عن “محور جديد” يواجه التحديات الجديدة. إسرائيل صارت على الحدود مع إيران بعدما كرست طهران وجودها في سوريا ولبنان على الحدود مع إسرائيل. أما بالنسبة إلى الصراع على العراق، فإن العامل الجديد فيه هو صعود الوطنية العراقية ورفض أن يكون البلد ساحةً للصراعات، وسط حرص طهران على اعتبار “العراق أحد بلدين مهمين جداً لأمنها، لأنها تدرك أن ما يحدث في العراق لن يبقى في العراق”، كما يقول أريان طباطبائي من صندوق مارشال الألماني. ومن هنا قول الجنرال إسماعيل فاآني قائد فيلق القدس بعد الجنرال قاسم سلماني “إن الأمور ليست جيدة في العراق، ولا يمكن أن تبقى كذلك، لأنها ستصبح من الأعباء على إيران”.
والكل يستعجل التحولات. قديماً قال بلوتارك “لا أحد يبل الطين ثم يتركه كأنه سيُصبح آجراً بالحظِّ”.