مع مشاهدة الجنود الأمريكان يجلسون في قاعة مغبّرة في بغداد، يطرح كبار ضباط الجيش الأمريكي بعض الأسئلة على القوات الأمريكية هناك.
تساءل الجنرال مارتن ديمبسي: “هل تمّ إرسالهم إلى العراق من قبل؟“. ومن أصل 200 جندي في القاعة، رفع ثلاثة أرباع الموجودين أيديهم.
“كم منكم يعتقد أنه سيأتي إلى العراق مرة أخرى؟“، رفعوا أيديهم جميعًا.
فقال ديمبسي: “أعتقد أنكم محقون في ذلك. ربما نستمر في هذه الحرب لبعض الوقت“.
هذه المحادثة، التي دارت في يوليو الماضي خلال زيارة ديمبسي الأخيرة إلى العراق قبل أن يترك منصبه، توضح ما وصفه ضابط كبير في البنتاغون بأنّه “صراع الأجيال” ضد تنظيم الدولة الإسلامية. وعلى الرغم من التقييمات المتفائلة من البيت الأبيض، لكنّ الجنرالات يعتقدون بأنّ الحرب ستمتد إلى أبعد من ذلك في المستقبل، بعد فترة طويلة من انتهاء ولاية الرئيس باراك أوباما.
في مقابلة مع صحيفة “فورين بوليسي” في يوليو الماضي، وقبل وقت قصير من تنحيه عن منصب نائب رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة للجيش الأمريكي، شبّه الأدميرال ساندي وينفيلد الحملة ضد تنظيم الدولة الإسلامية بالحرب الباردة.
وقال وينفيلد: “أعتقد أنه سيكون صراعًا بين الأجيال“.
وفي الوقت نفسه، قال رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي المنتهية ولايته، الجنرال راي أوديرنو، للصحفيين: “في رأيي، سيمثل تنظيم داعش مشكلة على مدى السنوات العشر أو العشرين القادمة. إنها ليست مشكلة تمتد لعامين فحسب”.
لكنّ المسؤولين في البيت الأبيض، ومعظم أعضاء الكونغرس، يترددون في التحدث علنًّا بشأن إلى متى قد تستمر الحملة ضد داعش، وهذا يسبب الكثير من الإحباط للقادة العسكريين. بالنسبة لأعضاء الحزبين السياسيين، فهم يعترفون بأنّ الحرب قد تطول لمدة 10 إلى 20 عامًا أخرى؛ وهذا أمر محفوف بالمخاطر السياسية، وسيتطلب مواجهة قرارات صعبة حول إرسال القوات للقتال، والميزانيات، والاستراتيجيات الخاصة.
وبدلًا من ذلك، فإنّ البيت الأبيض يتحدث بشكل غامض عن عملية “طويلة الأمد” دون التطرق تحديدًا إلى توقعات الجنرالات لحرب محتملة قد تستمر إلى عشر سنوات. لكنّ المسؤولين اعترفوا أنّ المعركة ستستمر بعد انتهاء فترة رئاسة أوباما في عام 2017، وستترك الرئيس القادم مع خيارات صعبة حول كيف يمكن توسيع تلك الحملة الضعيفة.
وفي حين أنّ الإدارة الأمريكية قد ابتعدت عن الحديث عن إلى متى ستستمر هذه الحرب، اتهم بعض المشرعين الجمهوريين -من بينهم السيناتور جون ماكين (النائب الجمهوري عن ولاية أريزونا)- والمحللين العسكريين البيت الأبيض بتقديم سرديات إيجابية بشكل مفرط عن تلك الحملة المتعثرة.
والآن، تواجه الإدارة الأمريكية مزاعم مثيرة للجدل بأنّ الجيش قد سعى لتزوير تقارير استخباراتية لنقل صورة أكثر تفاؤلًا عن الحرب ضد داعش.
ولذلك؛ أجرى المفتش العام لوزارة الدفاع تحقيقًا في مزاعم أحد المحللين بوكالة استخبارات الدفاع يدّعي أنّه تمّ تنقيح التقييمات بشكل غير صحيح من قِبل القيادة المركزية الأمريكية، وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز.
أثارت هذه المزاعم تساؤلات عديدة حول تسييس الحملة الجوية وحملت أصداء الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، كما تمّ توجيه الاتهامات ضد مسؤولين في إدارة الرئيس جورج دبليو بوش بتزوير تقارير استخباراتية حول مخزونات أسلحة الدمار الشامل لتعزيز الأساس المنطقي للتدخل العسكري في العراق.
“تدرك لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ حقيقة المزاعم بأنّ التقديرات الاستخباراتية قد تمّ استخدامها أو تعديلها بشكل غير صحيح“، وفقًا لتصريح أحد الموظفين في مكتب السيناتور ريتشارد بور، رئيس لجنة السياسة الخارجية، لصحيفة “فورين بوليسي” يوم الخميس الماضي.
ولكن، مع احتواء القضية على بعض المبلغين عن المخالفات المزعومة، قال بعض المسؤولين في الكونغرس إنهم لم يتمكنوا من مناقشة أي جانب من جوانب التحقيق أو حتى مناقشة ما إذا كان المشرعون سيقومون بتحقيقات خاصة بهم.
لقد أدان أوباما كيف تمّ تزوير الاستخبارات في الفترة التي سبقت غزو العراق عام 2003. وفي خطابه في 5 أغسطس، دافع عن الاتفاق النووي مع إيران، وقال إنّ الحرب الأمريكية المشؤومة في العراق كانت نتاج “عقلية بالغت في التهديدات خارج نطاق الاستخبارات المتوفرة“.
وبعد توليه منصبه، تعهد أوباما بتنفيذ وعد انتخابي لجلب الحرب في العراق إلى “نهاية مسؤولة” من خلال سحب القوات الأمريكية في عام 2011.
ولكنّ الحرب لم تنتهِ في الموعد المحدد لها. وأرسل أوباما 3400 جندي إلى العراق لمساعدة القوات المحلية في المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، هذا التجسيد القاتل لخطر التطرف الذي أوقف الاحتلال الأمريكي الذي استمر لما يقرب من تسع سنوات. كما شنّت الحملة الجوية التي قادتها الولايات المتحدة أكثر من 6400 ضربة جوية ضد أهداف تنظيم الدولة الإسلامية.
وهذا يعني أنّ أوباما سيترك منصبه مع عدم وجود احتمال لوضع حد للدور الأمريكي في صراع تكلّف أكثر من 3.7 مليارات دولار بعد سنة واحدة فقط، وقوّض خطط البنتاغون لـ”إعادة تشكيل” قواته بعد سنوات من الحروب الطاحنة لمكافحة التمرد.
وبينما كان مسؤولو الإدارة الأمريكية مترددين في تقديم توقعات أكثر دقة حول مدة الحملة، قال أوديرنو للصحفيين في يوليو الماضي إنّ تنظيم الدولة الإسلامية سيكون “مشكلة طويلة الأمد” خلال العقد القادم أو ربما أكثر من ذلك، رُغم أنه ليس متأكدًا بشأن مدى خطورة هذا التهديد في السنوات المقبلة.
كان أوديرنو يعبر عن رأي شائع بين القادة العسكريين الأمريكان، الذين غالبًا ما يتذمرون من غياب التخطيط الاستراتيجي المتماسك من جانب البيت الأبيض والكونغرس.
وقال ضابط عسكري كبير: “هذه ليست مهمة تستغرق سنتين أو ثلاث سنوات. نحن نتحدث عن حرب قد تستمر إلى عشر سنوات“.
ورفض مسؤول كبير بالإدارة الأمريكية الحديث عما إذا كان البيت الأبيض يتفق مع توقعات أوديرنو، قائلًا: “من المستحيل إعطاء أي إجابة دقيقة خارج جدول زمني على المدى الطويل“.
وأضاف المسؤول الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته: “تعتقد هذه الإدارة أنّ الجهود ستستمر ما دام الهدف منها تدمير تنظيم داعش في نهاية المطاف. وهناك عدد قليل من المتغيرات التي ينطوي عليها ذلك”.
هناك بعض الدلائل القليلة التي تشير إلى أنّ الحملة الحالية لم تحول المد ضد تنظيم الدولة الإسلامية بأي طريقة مجدية، وهذا يعزز الشعور بطول أمد هذا الصراع. كما تحدث مسؤولون أمريكان عن النجاح الذي حققته القوات العراقية والكردية بدعم من القوة الجوية الأمريكية في استعادة السيطرة على مدينتي تكريت والفلوجة وإعادة السيطرة على الأراضي في شمال سوريا، في حين صدت هجمات تنظيم الدولة الإسلامية عند جبل سنجار في شمال العراق. ولكنّ تنظيم الدولة الإسلامية لا يزال يسيطر على مساحات واسعة من العراق وسوريا، بما في ذلك المدن العراقية الرئيسة في الموصل والرمادي، ويقدّر مسؤولو الاستخبارات الأمريكية أنّ التنظيم تمكّن من تجديد صفوفه من المقاتلين واستبدال الذين قُتلوا من قِبل واشنطن وحلفائها.
وقال مسؤولون في الإدارة وضباط بالجيش الأمريكي إنه على الرغم من عدم وجود أي تقدم ملحوظ، لا توجد مناقشات سياسية مثيرة داخل البيت الأبيض حول كيفية إدارة الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
وليس هناك ما يدل على أنّ البيت الأبيض يخطط لإعادة النظر في استراتيجيته، على الرغم من النتائج المخيبة للآمال على أرض الواقع.
ديمبسي وغيره من كبار قادة الجيش، الذين عانوا من التجربة الكارثية التي أعقبت الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، لا يدعمون خروجًا جذريًا عن النهج الحالي، كما أنهم لا يرون بديلًا مجديًا دون المخاطرة بوجود مستنقع آخر في العراق وسوريا.
ويصرّ مسؤولو الإدارة الأمريكية على أنّ كبار الجنرالات لا يضغطون من أجل إرسال قوة كبيرة من القوات البرية أو إدماج قوات العمليات الخاصة مع القوات العراقية في القتال.
“جيشنا لا يضغط من أجل هذا”، وفقًا لما صرّح به مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية مُطّلع على المناقشات المتعلقة بالسياسة العامة، مشيرًا إلى أنّ معظم القادة يؤيدون النهج الحالي.
معظم المرشحين الجمهوريين للرئاسة، الذي ينتقدون أوباما بسبب تعامله مع تنظيم الدولة الإسلامية ويعدون باتخاذ نهج أكثر صرامة، لا يضغطون لإرسال القوات الأمريكية المقاتلة إلى العراق وسوريا.
وقال بعضهم إنهم قد يرسلون قوات العمليات الخاصة لمرافقة القوات العراقية في المعركة؛ إلّا أنّ الجمهوريين لم يقدموا سوى تفاصيل قليلة عن مدى استعدادهم للقيام بذلك بشكل مختلف، وتجنبوا الخوض في مسألة كم عدد السنوات التي تحتاج إليها الولايات المتحدة لشنّ حرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
كما دعا السيناتور ليندسي غراهام صراحة إلى إرسال قوة برية كبيرة، وحثّ على نشر 10 آلاف جندي أمريكي في العراق وأكثر من ذلك في سوريا.
ويعارض غراهام فرض أي قيود على التدخل العسكري الأمريكي ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وقال المتحدث باسمه، كيفن بيشوب، إنّ غراهام يدعم “كل ما يتطلبه الأمر ما دام الوضع يقتضي ذلك”.
كما تحدث تيم كين، السيناتور الديمقراطي، عن حرب مفتوحة، لكنه ألقى اللوم على الكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون لعدم إجراء تصويت على تفويض استخدام القوة العسكرية في العراق وسوريا.
وقال كين في رسالة عبر البريد الالكتروني: “في رأيي، هذا لا يتعلق بالصراحة من جانب الإدارة الأمريكية ولكن بالـ12 شهرًا من تنازل الكونغرس عن مسؤوليته الدستورية“.
وقال الجنرال جوزيف دانفورد، الذي من المقرر أن يحل محل ديمبسي في رئاسة هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، إنّ المشرعين قد وافقوا على ـن تصويت الكونغرس للسماح بإرسال القوات الأمريكية لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية من شأنه أن يرسل إشارة وحدة وتماسك للحلفاء والخصوم، وفي الوقت نفسه، تقديم الطمأنينة للقوات في ساحة المعركة.
لكنّ الكونغرس اختار عدم التصويت لأنه قد ينطوي على مناقشة كاملة بشأن الحرب والموارد اللازمة. كما أوضح البيت الأبيض أنه سيبقى على موقفه تجاه حملته العسكرية دون إجراء أي تغيير سياسي.
ومع ذلك، قد تكون الإدارة الأمريكية منفتحة لإجراء مناقشة عامة عن تلك الحملة. وأشار مسؤول كبير في الإدارة أنّ البيت الابيض قد يحاول الانخراط في النقاش العام الأوسع عن الحرب في وقت لاحق هذا العام، بعد تحويل تركيزه عن تصويت الكونغرس في سبتمبر القادم بشأن الاتفاق النووي الإيراني.
وقال المسؤول: “وبمجرد الانتهاء من الاتفاق النووي مع إيران، سيتم إجراء مناقشة واسعة حول الشرق الأوسط“.
فورين بوليسي – التقرير