الخرافات خارطة طريق لرسم خيارات العالم الحقيقي

الخرافات خارطة طريق لرسم خيارات العالم الحقيقي

الخرافة، حتى وإن كانت تسيء تمثيل الواقع، لها مميزاتها فهي تقدم منافع نفسية لا يمكن للمنطق أو للعلم تقديمها دائما. فالخرافة تقدم شعورا بالسيطرة وشعورا بالمعنى، إذ يمكنك أن تعتقد ولو للحظات أن “الحظ بين يديك”، من خلال تعليق عين زرقاء. وعلى الرغم من إدراكنا أنها قد لا يكون لها تأثير سحري مباشر فإن هذه الطقوس تنتج وهما للسيطرة وتعزز الثقة بالنفس.

لندن – أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو”، منذ سنوات “الخرزة الزرقاء” ضمن قائمة التراث العالمي الثقافي غير المادي، وباتت وفق ما يقول مراقبون “خرافة تحظى بالاعتراف العالمي”.

وإن كانت الخرزة الزرقاء أدرجت في قائمة اليونسكو باسم تركيا فهي تراث مشترك أيضا في منطقة البحر المتوسط، ولاسيما في دول الشرق الأوسط، أين تُعتبر إحدى أشهر التمائم لمواجهة العين الشريرة التي يسود الاعتقاد أنها تتسبب باللعنة، وتُعرف بـ”عين الحسود”.

وتتخذ هذه التميمة أشكالا مختلفة، فشكلها الدائري أو المربع الذي يحمل في وسطه عينا يعود إلى تركيا باسم Nazar Boncuk، ويرمز إلى عين محدقة في الكون من أجل درء الشر. ولها أشكال أخرى في دول عربيّة أخرى منها الكف وتسمى “الخمسة” و”الخامسة” و”يد العباس” و”يد فاطمة”، وفيها اللون الأزرق الذي يُقال إنه يدلّ على الحياة.

وتُقسِّم الروايات لعنة عين الحسد إلى ثلاثة أنواع؛ واحدة تؤذي عن غير قصد وأخرى عن قصد، في حين أن الثالثة، والتي تُعدّ غير مرئية، هي “الأخطر”. وتأخذ “الخرزة الزرقاء” شهرتها كونها ترى كلّ أنواع الشرور، حتى المخفي منها، وتردّها على صاحبها.

الخرافات جزء من الحياة اليومية للكثيرين حتى في عصر تطور التكنولوجيا، على اعتبار أنها لم تأت صدفة

وتختلف الروايات حول أصول تلك الخرزة بين من يقول إنها فرعونيّة تمثل عين إله السماء والخير والعدل حورس الحارسة الخارقة، فيما نسبها البعض إلى الفينيقيين باعتبار أنهم كانوا يقدسون تانيت إلهة القمر، والدائرة الزرقاء وسط الكف ترمز للقمر. وقيل كذلك إنها رُسمت من قبل الشعوب التي استوطنت البحر المتوسط ضدّ الرومان (أصحاب العيون الزرقاء) تهديدا باقتلاع عيونهم.

وحسب الروايات كذلك، اعتقد البابليون أن “أم سبع عيون” لها دور وقائي من النفس الشريرة، في حين كان اللون الأزرق في بلاد الرافدين مقدسا لاعتقادهم أنه حجر كريم محاط بأسرار إلهية.

وتندرج “ثقافة الخرزة الزرقاء” ضمن الخرافات التي تتبعها المجتمعات. وإن كانت لا أساس علميا لها فهي متأصلة في نفوسهم، بل ولا يقبلون لأحد أن يقوم بالمساس بها أو التشكيك في صحتها، ولعلهم اكتسبوها من أجيال ماضية دون التحقيق في مدى صدقها.

وفي الحقيقة، إن حمل الزخارف، وارتداء ملابس معينة، وزيارة أماكن مرتبطة بالحظ الجيد، وتفضيل ألوان معينة، واستخدام أرقام محددة، كلها عناصر رئيسية للخرافات. وبرغم أن هكذا سلوكيات تبدو تافهة، إلا أنها، بالنسبة للكثيرين، تؤثر على الخيارات في العالم الحقيقي. إذ أثبتت الدراسات أن المعتقدات الخرافية تساعد على تعزيز موقف عقلي إيجابي، برغم أنها قد تؤدي إلى قرارات غير عقلانية على الإطلاق، مثل الثقة في مزايا الحظ الجيد بدلا من اتخاذ القرار السليم.

إذا كنت تتجنب الغربان والقطط السوداء، أو المرايا المكسورة، أو المشي تحت السلالم وفوق قشور الثوم والبيض، وإن كنت ترش الملح على زوايا البيت منعا للحسد، وتحرق البخور سعيا للحظ الجيد، أو ترى في انسكاب القهوة خيرا، فهذا يعني أنك تؤمن بالخرافات، تماما مثل أغلبية سكان الدول العربية.

ومن يؤمن بالخرافات يعتقد أن هناك أشياء وأماكن ملعونة.. ومن بين الأمثلة الأخرى، لعنة الفراعنة، التي “تصيب كل من يزعج المومياء”، خصوصا فرعون.

ووفقا لدراسة استقصائية حديثة أجريت في الغرب، وجد الباحثون أن 13 في المئة من المشاركين يتجنبون البقاء في الطوابق رقم 13 في الفنادق، بينما قال 9 في المئة إنهم يرفضون بتاتا الحجوزات في الغرف رقم 13، أو حتى الغرف الموجودة في الطوابق رقم 13.

والرقم “المصيبة” كغيره من الخرافات على غرار رؤية العريس لعروسه في ليلة العرس التي تجلب حظا عاثرا وتفقد العرس بهجته منتشرة بشكل عام عند الغرب.

والأهم مما سبق، هو أن الخطوط الجوية الفرنسية وشركة الطيران الألمانية لوفتهانزا لا تمتلكان صفوفا برقم 13 على الإطلاق. وما يثير الدهشة هو أن الشركة الألمانية المذكورة لا تستخدم الصفوف رقم 17 على الإطلاق، لأن بعض الدول مثل إيطاليا والبرازيل ترى أن الرقم 17 مشؤوم وسيء الحظ.

ويمكن تعريف الخرافة على أنها الإيمان بالقوى الخارقة للطبيعة رغبة بالتأثير في العوامل التي لا يمكن التنبؤ بها، وسعيا لحل عدم اليقين. وبهذه الطريقة، يندفع الأفراد وراء معتقداتهم نحو الخرافات، مما يفسر أسباب توجههم غير العقلاني، في تحد كبير للحكمة العلمية الثابتة.

وقد وجد علماء النفس أن المؤمنين بالخرافة يفترضون أن هنالك اتصالا بين أحداث غير مترابطة تحدث بشكل متزامن، تجلب لهم الحظ، أو تحميهم من الحظ السيء. وبالنسبة لكثير من الناس، فإن الانخراط في سلوكيات خرافية يوفر حسا من السيطرة ويقلل من القلق، وهذا هو السبب في أن مستويات الخرافة تزداد في أوقات التوتر والقلق. وهذا هو الحال بشكل خاص في أوقات الأزمات الاقتصادية وعدم اليقين الاجتماعي، لاسيما الحروب والصراعات. وبالفعل، لاحظ الباحثون كيف ارتبطت مقاييس التهديد الاقتصادي في ألمانيا بين 1918 و1940 بشكل مباشر مع مقاييس الخرافات.

وتنتشر الخرافات بشكل كبير في الرياضة، خصوصا في المواقف التنافسية الشديدة. ووفقا لإحدى الدراسات، فإن أربعة من أصل خمسة رياضيين محترفين أفادوا بممارسة سلوك خرافي واحد على الأقل قبل أداء المنافسات. وقد تبين أن الخرافات تقلل التوترات وتوفر شعورا بالسيطرة على عوامل الصدفة غير المتوقعة.

ويميل اللاعبون والرياضيون إلى الانخراط في سلوكيات جالبة للحظ، حسب اعتقادهم، مثل ارتداء ملابس محببة، واصطحاب أدوات معينة، وكذلك زخارف ملونة.

الخرافات التي تتبعها المجتمعات، وإن كانت لا أساس علميا لها، متأصلة في نفوسهم، بل ولا يجوز لأحد أن يقوم بالتشكيك في صحتها

وعلى سبيل المثال، في إحدى الدراسات التي أجراها عالم النفس ليسان داميش من جامعة كولونيا، وزع الباحث على المشاركين في التجربة كرات غولف، وأخبر نصفهم أن كراتهم محظوظة جدّا. أصحاب الكرات المحظوظة أصابوا أهدافهم بنسبة تزيد 35 في المئة عن أصحاب الكرات العادية.

ويدلل هذا السلوك على أن الخرافات قد توفر الطمأنينة وتساعد في الحد من القلق لدى بعض الناس، لكن الأبحاث أظهرت أن الممارسات المرتبطة بالخرافات تعزز نفسها ذاتيا، وتتطور إلى أن تصبح عادات، وبالتالي السقوط في فخ الإحباط والقلق عند الإخفاق في أداء هذه الطقوس.

ويؤكد الدكتور غسان منصور، اختصاصي علم النفس المعرفي (عمليات عقلية)، بأن دلالات الرموز النفسية، والاعتقاد ببعض الأمور والخرافات، هي مسألة مرتبطة بتأمين الجو النفسي المريح، أو غير المريح (التفاؤل أو التشاؤم).

ويؤكد منصور بأن هناك فروقا فردية ملاحظة في مسألة التعلّق الآمن بهذه الطلاسم دون أن توجد فروق بين المتعلّم مثلا، أو غير المتعلّم، وبين صغير أو كبير، لأن المسألة في الأصل عبارة عن مفاهيم تربوية تنتقل عبر الزمن.

وتمثل الخرافات جزءا من الحياة اليومية للكثيرين حتى في عصر تطور التكنولوجيا وثورة المعلومات، على الرغم من أن بعض الناس يتداولونها وهم يعلمون أنها خرافات، على اعتبار أنها والأمثال الشعبية لم تأت صدفة.

ورصد الكاتب سكوت ليلينفيد وزملاؤه بكتابهم “أشهر 50 خرافة في علم النفس” عشر وسائل تساعد على نشر المعلومات المغلوطة أهمها تناقل الأحاديث إذ أن المعتقدات التي يتم تناقلها من جيل لآخر والادعاءات شديدة الانتشار والشائعة ما بين الناس التي يتم سماعها بشكل متكرر، يتم القبول بها كمعلومة صحيحة. مثال قانون الجذب الذي يجري مؤخرا على ألسنة الكثير من المشاهير عبر الوسائط الاجتماعية، بمختلف مجالاتهم، حيث أن أغلبيتهم يتحدث بشكل دائم عن “الطاقة الإيجابية” وأنه لا بد أن نكون “إيجابيين” ونطرد “الطاقة السلبية” ونبتعد عن الأشخاص ”السلبيين” مع شيوع هذه “الخرافة” وكثرة طرقها لمسامعنا مرارا وتكرارا والتسويق لها كأسلوب حياة تم تصديقها والقبول بها كحقيقة عند الكثير من الناس دون التساؤل عن مصداقية ”أن هناك بأجسامنا فعلا طاقة إيجابية وأخرى سلبية. وكذلك أنه بإمكاننا طرد أيّا منها“.

ما يساهم في نشر الخرافات أيضا الرغبة في الأجوبة السهلة والحلول السريعة، فالكثيرون يحاولون للحصول على طرق لتسهيل حياتهم فيبحثون عن طرق لإنقاص وزنهم أو الاستمتاع بوظيفتهم أو حتى النجاح في الامتحانات، وليس من الغريب أن نسعى لمثل هذه الطرق التي تعدنا بالحصول على تغيرات سريعة دون عناء.

ويساهم الارتباط الوهمي أيضا في انتشار الخرافات، فإذا اقتنعت بأن حدثين لا يربطهما شيء من الناحية الإحصائية أنهما مرتبطان، فعلى سبيل المثال الربط بين دخول مصحة العلاج النفسي واكتمال القمر؛ فعلى الرغم من تصديق الناس بهذه الخرافة فإن الأبحاث تثبت أنه لا علاقة بينهما، فهذا ارتباط وهمي.

هذه من أبرز الوسائل التي تساهم في انتشار الخرافة وتعزيز شيوعها بين الناس وهناك غيرها قد وردت في الكتاب من بينها أن الإعلام والطرح السينمائي والتلفزيوني قد ساهما في نشر الخرافات.

وتعد الخرافة أفكارا ومعتقدات لم يتم التوصل إليها وفق منهجية علمية، ولا تعدو كونها مجرد خبرات شخصية، ادعاءات بلا براهين، لا يمكن التحقق من مصداقيتها. وفي مجال علم النفس تشيع وتنتشر المعرفة الزائفة ”الخرافات” بشكل ربما يفوق المعرفة الرصينة عبر ما يسمى ”علم النفس الشعبي” بداية بعلم فراسة الدماغ، علم تحليل الشخصية، علم التحليل النفسي مرورا ببعض المجالات التي تدعي صلتها بعلم النفس مثل “تطوير الذات”، ”قانون الجذب” ما ينتج عن هذه المجالات من معرفة وهمية تقدم معلومات مغلوطة عن الطبيعة البشرية؛ مثلا في ما يتعلق بقدرات الإنسان هناك جناية في ما يفعله مجال “تطوير الذات” من طرح يعملق قدرات الإنسان ويوهمه بأن لديه قوة خارقة وقدرات نافذة لم يستخدمها بدرجة تنافي الحقيقة مما يسبب للمستفيدين إما الاغترار بجهل وإما زيادة الإحباط بعد الفشل.

وتجعل هذه المعرفة الزائفة الإنسان ضحية لزيف وخداع يشوه وعيه، يسرق ماله، يعبث في صحته، يتلاعب في مشكلاته وهمومه وللأسف يتم التسويق لها عبر وسائل مختلفة في وسط ندرة مكافحة هذا الوهم!

العرب