شهد لبنان منذ عقدين تقريبا عددا كبيرا من المعارك التي تختلف في وجهاتها وظروفها ولكنها لم تصل إلى أية نتائج ملموسة.
1- والغريب في هذا السياق:
– أن مفتعلي هذه المعارك يعرفون ولكنهم لا يعترفون أن هذه المعارك لا تستند إلى أية قاعدة قانونية ولا تنطلق من أي منطق عقلي.
– أن مفتعلي هذه المعارك يقدمون تبريرات لا ترتبط بصلة سببية، مع مناخ المعارك التي يشنونها.
– أن مضمون هذه المعارك يخالف النصوص القانونية الواردة في الدستور.
– أن التفاهمات التي تحصل وكذلك الأحلاف السياسية الراهنة لا تندرج في إطار برنامج موحّد، ولا تسعى إلى تحقيق غاية موحدة أيضا. ولذلك تتأرجح هذه التفاهمات والأحلاف وتتبدل مع كل حدث جديد أو طارئ.
أن افتعال الخصومات السياسية أو اصطناع مناخات التشنج ليس له أي سياق منطقي ولا أي توقع عقلاني.
– أن المناخ الشعبي اللبناني سيبقى مبعثر الولاءات ومشتت الاتجاهات. ويبدو أن النشاط السياسي المتعدد والمتناقض يزيد من التشنج القائم حاليا ويضاعف الأخطار الناتجة عنه.
2- وبذلك يمكن اختصارا، شرح بعض حالات التعارض في لبنان:
أ- التعارض بين السياسة والقانون:
شهدت الساحة اللبنانية نماذج عديدة من التعارض بين السياسة والقانون لأن الحياة السياسية فرضت في لبنان، مقتضياتها بصرف النظر عن الضوابط الدستورية.
فالمطالبة مثلا بإقرار آلية لعمل الحكومة ومدى صلاحية مجلس الوزراء والوزراء فيها وصلاحية رئيس الجمهورية ووضع المجلس النيابي… إلخ. كل هذا الجدل القائم لا يستند إلى قواعد دستورية وربما أتى في غالبه مخالفا للدستور الذي أوضح كل هذه الأمور. إلا أن التقليد السياسي يركز على أولويات الوفاق الوطني في دولة الثماني عشرة طائفة أو ما يقال عن لبنان عادة إنه يطبق “فدرالية الطوائف”.
ومن هنا برزت ضرورة “الميثاقية” كسقف مفروض لكل تشريع أو إجراء حكومي. ومن هنا أيضا حصل التباس بين كلمات: قانونية وشرعية وميثاقية. وغُيبت المواد الدستورية الناظمة للأداء التشريعي والإجرائي وحتى الإداري في لبنان.
ولأن هذا التعارض بين السياسي والقانوني يحصل يوميا، أصبح المواطن حائرا بين صدقية الخطاب السياسي وحتى البيان الرسمي الذي يصدر عن السلطات المسؤولة. ومن هنا أيضا يحصل التعارض اليومي بين أحكام الدستور وبين ممارسات السياسيين اللبنانيين.
ب- التعارض بين الدراسة والسياسة:
ويمكن أن يقال، في هذا السياق، إن ثمة طلاقا بائنا بين الدراسة والسياسة. ولعل مسألة النفايات التي “قصمت ظهر البعير” تشكل حالة نموذجية لذلك الواقع:
كانت الحكومة تدرك، منذ مطلع هذا العام، أن مطمر الناعمة قد توقف بقرار رسمي وإنما أعطي للحكومة مهلة أشهر قليلة تنتهي في 17 يوليو/تموز 2015 لترتيب البدائل المناسبة. ولكن الحكومة لم تقم خلال هذه الفترة ولا قبلها بدراسة استدراكية لهذا الأمر. وبذلك تراكمت النفايات في الشوارع ولا سيما في العاصمة ذاتها، الأمر الذي أثار نقمة المجتمع المدني كما هو معروف. ولا تزال الساحات تضج بأصوات الغاضبين وتحركاتهم.
وبإزاء ذلك سعت الحكومة إلى إجراء مناقصة حول تلزيم معالجة النفايات في المناطق اللبنانية من دون توفير الأماكن اللازمة لهذه المعالجة. وبعد أن تصاعد غضب الشارع عادت الحكومة وألغت المناقصة بانتظار محاولة جديدة لإرضاء المعارضين للحصص أو للأسعار. وعادت الأمور كلها إلى المربع الأول.
ويعرف السياسيون أن السبب في كل هذا الاحتقان يتعدى مشكلة النفايات إلى مشاكل أخرى كثيرة. وهي كلها قابلة للتصعيد إن لم نقل للانفجار. وهذا ما يحمل المراقبين إلى التأكد من أن الصفقة المطلوبة تتعدى النفايات إلى تسويات سياسية واقتصادية وإدارية أخرى.
كما يحملهم إلى التأكد أيضا من أن هذه التسويات ليست كلها في يدهم وإنما عليهم الانتظار ريثما يقرر أصحاب القرار الإقليمي أوضاعا أخرى في الشرق الأوسط ثم يأتي دور لبنان. ولكن السياسيين اللبنانيين يحرصون على إبقاء حالة الاستنفار بانتظار القرار الإقليمي الموعود.
ج- التعارض بين شعارات السياسيين وحقيقة مواقفهم.
وهذا الأمر يتقنه معظم السياسيين في لبنان فالشعار الذي يُطلق على لسان السياسي أو في بيانه لا ينسجم مع موقفه الفعلي أو الحقيقي على الأرض سواء بالنسبة للتفاهمات أو الأحلاف أو حتى المواقف الفعلية الفردية بإزاء المواقف المعلنة. المعروف أن هذا التعارض شائع في أماكن أخرى، ولكن الأمر، في لبنان، أكثر مرونة وزئبقية لأنه يصدر ويتغير من دون رقيب ولا حسيب. وعندما يصل التهديد بـ”قلب الطاولة” لدى أحدهم، يعرف الآخرون أن ثمة إلحاحا لتلبية طلب أو للموافقة على مصلحة.
د- وبإزاء ذلك كله يسأل المراقبون عن صدقية العمل السياسي وكذلك القانوني، وقد يصل السؤال إلى ما إذا كان لبنان دولة فعلية قائمة على أركان دستورية وطيدة؟ إنه، كما سبقت الإشارة، فدرالية طوائف تمثل زعامتها أوليغاركية ماهرة وقادرة على الرغم من غضب الشارع واحتقانه.
3- واستنادا إلى ما تقدم يبرز التساؤل حول وقع التظاهرات المتكررة في الشوارع على مسار الحياة السياسية والاجتماعية في لبنان؟
أ- لعل الجديد في هذا التحرك أنه كان، بالفعل، بمبادرة المجتمع المدني. فقد بدأ عفويا بعد تراكم هذه النفايات من دون أن يأتمر بإرادة مسبقة لزعيم أو لحزب أو لطائفة.
والجديد فيه أن هذه الأحزاب والطوائف والزعامات لم تستطع، لغاية اللحظة، أن تجيّر غضب الشارع المدني والعفوي إلى مصلحتها. وربما لأن مطالب المتظاهرين تطورت من ضرورة معالجة النفايات إلى شعار “الربيع العربي” أي “الشعب يريد إسقاط النظام”.
ب- والجدير ثانيا في هذا التحرك أنه شكّل حافزا لإيقاظ المدنيين وتنبيههم إلى دورهم ضمن حقوق الإنسان ومنها حقه في المشاركة بالحياة العامة لبلده. وذكّر المدنيين أيضا بحقهم في الانتخاب والمراقبة والمحاسبة.
ج- والجدير ثالثا أن المتظاهرين استطاعوا أن يتحرروا من قيودهم الطائفية لغاية الساعة، ومن ارتباطاتهم التبعية بزعمائهم ومن انقياداتهم الحزبية التسلسلية. أعرب المتظاهرون، للمرة الأولى المعلنة، أنهم مدنيون متضايقون ولديهم الاستعداد للمحاسبة والإدانة.
د- ومع ذلك فإن الأحزاب المتربصة تسعى إلى جذب هؤلاء وإلى استيعابهم بما تملك من وسائل وأدوات تتقن امتلاكها واستخدامها.
هـ- بالرغم من كل ذلك فإن الحياة السياسية في لبنان ستسلك بعد الآن سبيلا مغايرا وإن كان هشا ومتعثرا. إن ما بعد هذه التظاهرات ليس كما قبلها، وإن المجتمع المدني في لبنان سيستفيد من هذه “الجرعة” وسيواصل تقدمه في مجالات أخرى في المستقبل.
و- وستضطر -لذلك- كل الأحزاب القائمة في لبنان إلى إعادة النظر في سلوكها المدني المقبل وعدم الاكتفاء بالعمل السياسي فقط. فهل يؤدي ذلك إلى دفع البلد إلى التقدم أم إلى مزيد من الفوضى؟ وهل تستمر الساحات على سخونتها تمهيدا لـ”قلب الطاولة”؟
4- يبدو أن “أهل الحكم” في لبنان استشعروا خطر بعض المتظاهرين وبعض التحرك. ولم تعد مسألة النفايات الاستفزازية تمثل مفتاح هذا الخطر إنما أصبح التخوف من مقدمات “الربيع اللبناني” مع الشعارات التي أطلقت في الشوارع تكرارا.
ولكن المعطيات والظروف اللبنانية تحول -على ما يبدو ظاهرا- دون حدوث أو إمكانية تنفيذ “الشعب يريد إسقاط النظام” وذلك لأسباب عديدة منها:
– إن تعريف “الشعب” في لبنان صعب ومتعثر، فلبنان يضم شعوبا لبنانية وليس شعبا واحدا موحدا. وبالتالي فإن لكل طائفة فيه رأيها وموقفها ومصالحها ومصيرها أيضا.
– إن الخلاف بين السياسيين لن يتفاقم إلى درجة الثورة ضد الآخر ولا إلى درجة الفوضى الكاملة. وإذا كان قدر اللبنانيين أن يتفقوا من أجل المصلحة المشتركة، فإن قدرهم أيضا ألا يسقط الهيكل اللبناني فوق رؤوسهم.
– إن النظام السياسي المعتمد في لبنان ليبرالي أصلا سواء بحكم الدستور أو بحكم ما يقال له عادة “الميثاق” و”الأطر الميثاقية” والشروط الميثاقية… إلخ. وبذلك فإن الوفاق السياسي والليبرالية الاقتصادية وهشاشة الحكم المركزي كلها تشكل مناخا غير قابل للاشتعال مع أي شعار أو مخطط.
– إن القائمين على النظام (وأحيانا اللانظام) السياسي وعلى النشاط الاقتصادي غير المنضبط وعلى القدرات العسكرية “الفدرالية” لن يسمحوا بأي فلتان كبير يهدد الكيان ذاته للخطر. فضلا عن تدخل رجال الدين في السياسة وتأثيرهم في صيانة هذا “الهيكل”.
وانطلاقا من ذلك نلاحظ أن كل هؤلاء “الحرّاس” تحركوا بخطوات استدراكية مرافقة للتحرك في الشارع أو سابقة له من أجل تحصين هذا الوضع في وجه أي خطر محتمل.
– إن المجتمع المدني في لبنان ضعيف أصلا. فهو يشكو انعدام وجود قادة فعليين وانعدام إمكانية التوحيد بين فصائله وانعدام وجود أي برنامج له سواء في مسألة النفايات أو أية مسألة أخرى.
5- والموضوع لا يقتصر على المعطيات الداخلية وظروفها وإنما هو مرتبط بالظروف الإقليمية أيضا. ولذلك رأينا الاستنفار الذي قام بها بعض السفراء من أجل منع رئيس الوزراء من الاستقالة، ومن أجل تهدئة المعترضين وجمع شمل القوى السياسية والقوى الاقتصادية أيضا.
وهذا التحرك الدبلوماسي المتكرر يشكل بالفعل العنصر الأساسي في إبقاء الأوضاع على ما هي عليه وفي الاحتفاظ بالحكومة الحالية التي يجب أن تكون موجودة وإن بحدود فاعليتها الدنيا. فالمطلوب أن يحافظ لبنان على وضعه الراهن، ولكن المطلوب أن يبقى في قاعة الانتظار ريثما يتقرر مصير دول أخرى في الشرق الأوسط.
فهل يطول الانتظار وهل تتسع القاعة المخصصة له لمزيد من الوقت ولاستيعاب مزيد من التطورات.
شفيق المصري
الجزيرة نت