بين العفوية المكلفة والقصدية الفاعلة يتوزع مشهد تظاهرات أكتوبر (تشرين الأول) في دورتها الثانية التي توافقت مع سلسلة طويلة في مشهد تحريك وزحزحة ثقل الواقع العراقي المر، في صراع بات مكشوفاً بين “عناصر الدولة” والرئاسات الثلاث المدعومة من الغرب، لا سيما الولايات المتحدة، و”قوى اللادولة” المتمثلة في أحزاب السلطة الولائية وأجنحتها المسلحة المدعومة من الطرف الإيراني، الذي يخوض حرب وجود في العراق، لاستمرار نفوذه والاستماتة للهيمنة على مفتاح المساومة المتمثل في هذا البلد، وتعويم الدولة في القرار الإيراني الذي امتلك ورقة رابحة لن يتخلى عنها إلا بالاستسلام المرير وتجرع كأس سم جديدة، كالذي تجرعته إيران أواخر عام 1988 حين طويت صفحة الحرب العراقية – الإيرانية، لكن أبقت ملفاتها مفتوحة، وعاودت استخدامها بعد 2003 حين سقوط خصمها اللدود صدام حسين وإعدامه، وصعود نجم شيعة إيران وسنتها أمام قوى المحاصصة التي صادرت القرار الوطني العراقي وظلت تهيمن على المشهد، وأغرقت البلاد في مستنقع فساد غير مسبوق.
التظاهرات رد فعل العراقيين المكلف
لكن التظاهرات، التي بدأت منذ عام 2011 وقت الانسحاب الأميركي الرسمي بقرار الرئيس السابق باراك أوباما، الذي ثبت أنه كان يتفاوض مع إيران سراً لإخلاء الساحة العراقية من المناوئين لها، كما كشفته الوثائق التي أطلقها عمداً الرئيس دونالد ترمب، أكدت أن الشعب العراقي له رأي آخر لم تقرأه السياسة الأميركية والإيرانية حين ظنت أنها تمكنت من حسم ولاء العراقيين وانصياعهم لها، وتجسد ذلك بحرق قنصليات إيران في عمق المكون الشيعي، النجف وكربلاء، وامتد إلى البصرة والناصرية، بل إلى كل مدن الجنوب والوسط حيث الأغلبية الشيعية، ما ولد صدمة كبرى فرضت إعادة حسابات المشهد العراقي ومحركاته.
ولعل في ذلك مدعاة للحيرة والقلق للأطراف التي ظنت أن إيران هي التي تصدر القرار وأن العراقيين الشيعة ينفذون، كما ينصاع غيرهم من الموالين والسائرين في عملية سياسية ظلت عرجاء ومكبلة للعراق شعباً ودولة بخسائر باهظة، على الرغم من كل المعالجات والإجراءات المالية وإيصال أعداد الموظفين إلى أكثر من ستة ملايين موظف يستهلكون أكثر من 60 في المئة من ميزانية العراق، كما يؤكد المستشار الاقتصادي في رئاسة الوزراء محمود داغر الذي كشف بأن رئيس الوزراء المقال عادل عبد المهدي بإرادة المحتجين في تظاهرات أكتوبر من العام الماضي، قد رفع كلفة الميزانية التشغيلية من خلال التوظيف الكمي العشوائي من 42 مليار دولار إلى أكثر من 60 مليار دولار، ظناً منه ومن مستشاريه أصحاب الميول والتوجهات الإيرانية أن في ذلك ما يحد من غلواء الاحتجاجات، التي لم تكترث لسياسته المكشوفة، التي شكلت سابقة في الإنفاق العام غير مقنعة لأي مختص أو محتج عراقي يدرك حجم الضرر والتساهل الذي اعتمده والوعود الوردية التي أشاعتها حكومته، بشأن عقد سيبرم مع الحكومة الصينية بعائد يبلغ 500 مليار دولار، ما ذهب بأغلب الوزراء حينها للتفاوض حوله في العاصمة بكين، وأغضب الولايات المتحدة وعجل بسقوطه نتيجة حسابات خاطئة وتلكؤ في حل أزمات جيل ينشد الحرية ويصرخ (نريد وطناً).
لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، وأُسقط بتظاهرات أكتوبر الماضي التي واجهتها الدولة العميقة وأجهزتها بشراسة وأدت إلى مقتل أكثر من 600 متظاهر وسقوط آلاف الجرحى، وخلفت عداء شعبياً متصاعداً يكبر ككرة النار كل يوم لعدم تمكن الحكومة السابقة والحالية من الكشف عن مطلقي النار وتقديمهم إلى المحاكمة ما ولد نيران متصاعدة تذكي الغضب الشعبي، الذي أججته حالياً عوامل ومحركات شتى في مقدمها العامل الاقتصادي وتلكؤ الحكومة وعجزها عن دفع الرواتب لستة ملايين موظف، يعتاشون على إيرادات النفط، الذي تراجعت عائداته وقلت قيمته التصديرية.
من يحرك التظاهرات ومن المستفيد؟
يبدو السؤال بسيطاً، لكنه أعمق من أن تتم الإجابة عنه على عجالة، في موجة تظاهرات الأمس التي تهيأت لها كل الأطراف في السلطة وخارجها، وبنوايا متناقضة، في مفارقة لافته بأن الحكومة التي يحتج الشعب عليها تسانده وتدعو إلى مؤازرته وتأييد منهج الاحتجاج في انتفاضة أكتوبر التي وصفها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بـ “صرخة وصولة تجسدت في وجوه الشباب والشابات، النساء والرجال، الشيوخ، حتى الأطفال الذين سجلوا أسماءهم على صدر التاريخ، ونحتوا بدمائهم الطاهرة طريقاً. نحو المستقبل” على حد كلمته التي وجهها عشية استعداد العراقيين للتظاهر ضد الحكومة بشعار معلن من قبل المحتجين هو اقتحام المنطقة الخضراء التي تتمركز فيها الرئاسات الثلاث وبعض المسؤولين المتهمين بالفساد وضياع المليارات في مشاريع فاشلة وعقود وهمية.
لعل الكاظمي الذي شدد علناً بعدم فتح النار على المتظاهرين، يتخيل أن الاحتجاج لا يطاله لأنه مكلف بمهمة واحدة، وهي تأمين مستلزمات إجراء انتخابات نزيهة، من القوى التي اتفقت على ترشيحه، لكنه لم يتوانَ عن غمز الحكومة السابقة بقوله، (تسلمنا ملفاً اقتصادياً مثقلاً بالسياسات الخاطئة والموجعة، وخزينة أفرغها غياب الاستراتيجيات الاقتصادية والاعتماد الكلي على النفط)، لكن خصومه في البرلمان اتهموه بالاستحواذ على المناصب، وتعيين أقاربه وبعض المقربين منه في مناصب الدولة كما قال النائب عن كتلة الفتح “الولائية” سعد الخزعلي الذي اتهمه بالخروج على الاتفاق مع الكتل التي مكنته من الوصول إلى رئاسة الحكومة.
في وقت دعت المنظمات المهنية والنقابية إلى كشف قتلة المتظاهرين، وتقديمهم للعدالة والاقتصاص منهم، كما يؤكد ضياء السعدي نقيب المحامين العراقيين الذي دعا إلى ما أسماه “تفعيل حقيقي للجنة تقصي الحقائق التي شكلتها الحكومة أخيراً للعمل على الاستماع لذوي الضحايا والجرحى والمتضررين وجمع الأدلة وتقديمها للقضاء العراقي”.
نقل مسرح التظاهر من الرصافة إلى الكرخ
أما القضية اللافتة في تظاهرات الأمس، انتقالها من جانب رصافة بغداد إلى كرخها في محيط مقرات الحكومة ورئاسة البرلمان، الذي بدت قاعته فارغة من الأعضاء وهو يناقش قانون الانتخابات والدوائر الانتخابية المثيرة للجدل، التي جاءت محبطة للجمهور الغاضب بتقسيم الدوائر الانتخابية، وفُسر ذلك بأنه خشية وصول المتظاهرين لمقره واقتحامه.
وفي وقت طالب الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة اللواء يحيى رسول المحتجين بعدم التظاهر خارج ساحة التحرير، حرصاً على سلمية التحركات، تدفقت الحشود إلى قلب الكرخ في منطقة (علاوي الحلة)، قادمة من المناطق الوسطى والجنوبية من العراق وشكلت تحدياً جديداً للسلطة، حيث تعمل إدارات سياسية خارج منظومة الحكم على تطويق المنطقة الخضراء بحزام بشري، تخطت الدعوة لإسقاط الحكومة إلى إسقاط العملية السياسية، التي وصفها المتظاهرون والناشطون بالفاشلة، وأنها قامت على مركب المحاصصة السياسية التي يسعى الكاظمي لتجاوزها في ظل تمسك القوى الولائية على إبقائها كمخرج للسيطرة على القرار الحكومي لقوى اللادولة من أتباع الدولة العميقة التي تغلغلت في جسد الاحتجاجات، وأحاطتها بالميليشيات المدنية التي قالت عنها الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق جينين بلاسخارت بأنها مخترقة بالميليشيات بنسبة تزيد على 80 في المئة.
لا شك أن هذه النسبة جعلت قيادة التظاهرات تغادر ساحة التحرير في قلب بغداد لمناطق أخرى واختيار جانب الكرخ بعيداً عن سطوة الميليشيات واتباعها، ممن يحولون دون وصول أعداد المتظاهرين إلى الساحات القريبة من المنطقة الخضراء بأوامر قياداتها.
جدل واسع يدور حول جدوى تظاهرات تعتمد الهتاف والغناء للوطن أمام سلطة تبدو غير مكترثة، لكنها في تباين واسع في توظيف التظاهرات التي ظلت ملهمة لجيل مسيّس غير واضح الأهداف، يصرخ علناً بأنه يريد وطناً، وناقم على الفساد وفقدان الأمل بإصلاح الطبقة السياسية الحالية، ويخشى كثيرون من موجه عنف جديدة ضدها، وهي محاطة بوعود رئيس الحكومة بالإنصاف لها ولشرعيتها، ورئيس برلمان يسعى لفرض قانون انتخابي، ومناطق انتخابية مثار جدل، ورئيس دولة واجبه حماية الدستور، إزاء دولة عميقة ترى في التظاهرات تحركاً مضاداً لها تقوده الولايات المتحدة لإسقاطها، بدورة برلمانية خارج هيمنة إيران وموالية للغرب، بجيل ناقم تغريه الديمقراطية ويرفض الهيمنات كلها.
صباح ناهي
اندبندت عربي