في حلقة أولى من سلسلة مقالات تستعيد إرث رئيس حكومة الاحتلال الأسبق إسحق رابين، الآن وقد انقضت 25 سنة على اغتياله، تروي صحيفة «هآرتز» أنّ صحافياً اقترب من ليا، زوجة رابين، وسألها إن كان الأخير يرتدي سترة واقية من الرصاص خلال اختلاطه بالجموع الحاشدة في ساحة ملوك إسرائيل؛ فضحكت السيدة، وردّت هكذا: «سترة واقية، حقاً؟ أين نحن، في أفريقيا؟ هذه إسرائيل». هي كذلك، بالفعل، حيث حملت أيد إسرائيلية أخرى صورة رابين يرتدي الكوفية الفلسطينية أو ثياب ضابط استخبارات نازي، وحيث شجّع على هذه التمثيلات بنيامين نتنياهو زعيم المعارضة ذاته، وحيث كمن في قلب الجموع مستوطن شابّ متدين متشدد يدعى إيغال عمير تربصت رصاصاته بـ«الخائن رابين».
اليوم، بعد ربع قرن، تسمع داليا، إبنة رابين، عبارات بأعلى الصوت من فتية إسرائيليين يمجدون عمير بوصفه بطلاً يهودياً بامتياز، كما تقرأ تعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي تتعهد بمتابعة نهج القاتل. رئيس الكيان، رؤوفيم ريفلين، استذكر واقعة الاغتيال كي يعلن أنّ «الكراهية تفيض تحت أقدامنا» و«الأرض تشتعل» و«الدولة لا تزال منقسمة بشكل مخيف» أعاد تذكيره بانشطار البحر الأحمر في الأمثولة التوراتية. إيتمار رابينوفيتش، الأكاديمي والسفير الإسرائيلي الأسبق في واشنطن، كتب مقالة بعنوان «كلا، نتنياهو ليس خليفة إسحق رابين» رافضاً اعتبار اتفاقيات التطبيع مع الإمارات والبحرين والسودان تكملة لتراث رئيس الحكومة القتيل.
باختصار، تُجمع التعليقات الإسرائيلية، في وسائل الإعلام المختلفة ولكن على ألسنة الكثير من الساسة أيضاً، أنّ دولة الاحتلال لم تتعلم الكثير من اغتيال رابين، بل يرى البعض أنها لم تتعلم أي شيء، أو تعلمت الدروس الخاطئة على وجه الدقة. بيني غانتس، وزير الدفاع وزعيم ائتلاف «أزرق أبيض» المشارك في الحكومة الحالية، اعتبر أنّ إبرام انفاقيات تطبيع مع أنظمة عربية أمر جيد، ولكن الأجود منه «أن نعقد السلام مع أنفسنا أولاً».
وفي استطلاع رأي مؤّلته «المنظمة الصهيونية العالمية» وثمة دلالة خاصة في هذا، اعتقد 45٪ من الإسرائيليين أنّ مناخات التحريض العامة قد تسفر عن اغتيالات أخرى لأغراض سياسية؛ وحمّل 31٪ اليمين الذي يقوده نتنياهو مسؤولية تسعير تلك المناخات، وفي المقابل وجد 46٪ من جمهور اليمين أنّ وسائل الإعلام هي المسؤولة.
في غضون هذا كلّه، يواصل عمير من داخل زنزانته حلقات مسلسل الدلال والمطالب، ملتمساً السماح له بالخروج للمشاركة في حفل الـ»بار متسفاح» لابنه؛ بعد أن كان قد تزوج في السجن عن طريق تفويضه لأبيه بعقد القران نيابة عنه، وحصل لزوجته على إذن بزيارات زوجية، تقول رواية أولى إنه تمكن خلال إحداها من معاشرة زوجته، وتقول رواية أخرى إنه جرى تهريب سائله المنوي إليها. وهو لا يكفّ عن الشكوى من إبقائه في زنزانة منفردة، بناء على توصية الاستخبارات الإسرائيلية، متسائلاً إنْ كان أكثر خطورة من مروان البرغوثي أو الشيخ رائد صلاح أو… العالِم النووي الإسرائيلي مردخاي فعنونو!
ولقد كان في وسعه، ومن حقّه كذلك، أن يضرب قتيله ذاته، رابين الجنرال ورئيس الحكومة، مثالاً على عنف أقصى جنحت إليه دولة الاحتلال خلال الانتفاضة الأولى، ضمن فلسفة «تكسير عظام» الفلسطيني؛ فلا يفعل عمير ما هو أكثر من اقتداء القتيل.
ما عجز رابين عن رؤيته، مثله في ذلك مثل السواد الأعظم من «مهندسي السلام» الإسرائيليين، هو الثقة الضعيفة أو شبه المنعدمة التي اعتاد الصهيوني على منحها للنوع البشري إجمالاً، وللجيران العرب بصفة خاصة
أو كان مفهوماً لو أنه اقتبس أنساق العنف الأخرى التي اجترحها قادة الاحتلال على الدوام، منذ زرع الكيان في فلسطين بقوّة الحديد والنار، وطوال عقود سياسات التهجير القسري والمجازر والعقاب الجماعي ومسح قرى كاملة عن الخريطة. وهل هي مصادفة أن تحلّ الذكرى الخامسة والعشرون لاغتيال رابين، وحزب القتيل مثخن بالجراح، تلقى ويتلقى ضربات موجعة متتالية من الناخب الإسرائيلي؛ كما يتفكك داخلياً، وذاتياً، في السياسة كما في العقيدة؟ وإذا كان عمير قد أعلن أنه اغتال رابين كي يغتال اتفاقيات أوسلو، فإنّ ما أفصحت عنه خلفيات الفتى الاجتماعية والثقافية والنفسية والإثنية أكدت أنّ تنكيل نُخب حزب العمل باليهود اليمنيين (معسكرات، تمييز عنصري في الدراسة والإقامة والعمل، اختطاف أطفال لإجراء تجارب صحية ونفسية وبيولوجية…) استقرت عميقاً في روح عمير، وأوقدت فيه نوازع الحقد على المؤسسة، وهي التي حرّكت إصبع يده حين ضغط على الزناد.
وحين خرّ صريع طلقات يهودية صرفة، كان رابين صاحب سجلّ حافل زاخر بالمنجزات: قائد فوج في حرب 1948، ورئيس أركان في 1964، وأحد أبطال «تحرير» القدس، وسفير في واشنطن بين 1968 و1973، ورئيس وزراء مرّة أولى بين 1974 و1977، ثمّ مرّة ثانية في 1992 حتى نهار اغتياله. غير أنه، تلك العشية، كان قد وضع جانباً عقيدته الخاصة في استخدام الهراوة وتكسير عظام الفلسطينيين، لا بسبب من صحوة ضمير أو ارتداد أخلاقي عن تقنيات الردع والتأديب، بل لأنه قرّر «إلقاء نظرة تذهب خطوتين إلى الأمام» على حدّ تعبير الروائي الإسرائيلي دافيد غروسمان. تلك كانت نظرة براغماتية رأت أنّ الاستمرار في الاحتلال سوف يعني استمرار انكفاء الدولة على ذاتها، وتفاقم أمراضها التاريخية والوجدانية المزمنة. وما عجز رابين عن رؤيته، مثله في ذلك مثل السواد الأعظم من «مهندسي السلام» الإسرائيليين، هو الثقة الضعيفة أو شبه المنعدمة التي اعتاد الصهيوني على منحها للنوع البشري إجمالاً، وللجيران العرب بصفة خاصة.
يد عمير، أو «اليد اليهودية» كما وصفها بنفسه، تعمدت بدم رابين «ذلك الخائن، واليهودي بالمصادفة» كما أضاف! والقاتل ضحك أكثر فأكثر حين رفض الناخب الإسرائيلي الانصياع إلى الشعار الذي رفعه حزب العمل أثناء الحملة الانتخابية التي أعقبت الاغتيال: «لا تمنحوا إيغال عمير سبباً للضحك». ولقد ضحك، ملء شدقيه في الواقع، بل كان الوحيد الذي صوّت مرتين كما قال روائي إسرائيلي آخر هو عاموس عوز: مرّة باستخدام الرصاصة، ومرّة باستخدام ورقة الاقتراع. ومن سخريات الأقدار أن العبارة البليغة Ballot Not Bullet (ورقة الأقتراع لا الرصاصة) التي نحتها نتنياهو بعد اغتيال رابين، برهنت أنّ الفارق اللفظي بين المفردتين لا يصنع أي فارق عملي على الأرض؛ وأنّ الرصاصة صوّتت تماماً بالفاعلية التي كانت لورقة الاقتراع، وأكثر بكثير ربما.
وقبل أن يخرّ صريع طلقات يهودي من أصل يمني، متديّن متشدّد وخصم للصهيونية لأنها «أقلّ يهودية ممّا ينبغي» نطق رابين بهذه الكلمات: «العنف يقوّض ركائز الديمقراطية الإسرائيلية ذاتها. من الواجب إدانته، واستنكاره». فهل كان يجهل، حقاً، أنّ إرث العنف الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين يستنسخ الآلاف من نماذج عمير، وقبله باروخ غولدشتين بطل مجزرة الحرم الإبراهيمي؟ وهل يبالغ جيلون إذا اعتبر أنّ ابتسامة «الماركة المسجلة» إياها، تطفح أيضاً على وجوه عشرات الآلاف من مناصري عمير، الناظرين إليه كبطل وقدوة؟
الأرجح أنّ ضحكات عمير تتردد اليوم أيضاً، على نحو خاصّ مختلف، ليس احتفاءً بابنه البالغ فقط، بل أساساً لأنّ أزيز رصاصاته يتعالى في أرجاء كيان يزداد عنصرية وعسكرة وكراهية وانغلاقاً؛ وأنّ ثلاث دورات انتخابية متعاقية أخيرة لم تفلح في لملمة ذات إسرائيلية، متشظية ومنكسرة ورهابية؛ وأنّ أحد محرّضي عمير على اغتيال رابين، نتنياهو نفسه، هو اليوم متهم بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، ولكنه أيضاً… رئيس الحكومة؟
.. في كيان لم تره ليا رابين على شاكلة أفريقيا!
صبحي حديدي
القدس العربي