ملاحظات حول مثالب الديمقراطية الأمريكية

ملاحظات حول مثالب الديمقراطية الأمريكية

عند كتابة هذا المقال لم تكن نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة قد حسمت لصالح أحد المتنافسين، الرئيس الحالي دونالد ترامب، ومنافسه جو بايدن، نائب الرئيس السابق باراك أوباما. ولذلك فضلت أن يكون موضوع مقالي عن النظام الانتخابي في هذه البلاد، والمثالب التي تعتري الديمقراطية الأمريكية، والتي رغم تاريخيتها واستقرارها، إلا أن عيوبها تظهر عند كل أزمة تعتري الانتخابات والمرشحين، خاصة عندما تكون النتائج متقاربة جدا كما هو الحال الآن.

منح الدستور الأمريكي سلطات للرئيس لا يوجد مثيل لها في كل الدول الديمقراطية، فهي أقرب لممارسات الحكام المستبدين

ولا أريد أن أستبق الأحداث فقد يصل المقال هذا القراء والنتائج النهائية قد أعلن عنها، لذا أود أن أنتهي من كتابة المقال قبل صدور النتائج النهائية، لأوضح بعض هذه النواقص والتي تظهر جليا في هذه الانتخابات غير المسبوقة في حجم المشاركة وحدة الانقسام. ولحسن الحظ أنني في هذا الفصل الدراسي، سأدرس مادة حول الإسلام والديمقراطية، ما منحني فرصة أن أناقش موضوع الديمقراطية ونظرياتها العديدة مع الطلبة. واتفقت مع طلابي أن نبدأ المحاضرة التي تتم عن بعد بواسطة تقنية «زوم» بمناقشة الانتخابات الأمريكية، ما لها وما عليها، وكيف تطورت لتسد العديد من عيوبها الكبيرة مع مرّ السنين، فتسمح للمرأة بأن تمارس التصويت لأول مرة عام 1921 وأن تسمح للسود بأن يمارسوا حق الانتخاب والترشح تدريجيا وصولا إلى توقيع الرئيس ليندن جونسون مرسوم «الحق في الانتخاب للجميع» في الثامن من أغسطس 1965، حيث شارك ملايين السود في أول انتخابات تشريعية ورئاسية عام 1968.

العيوب الكبرى في الديمقراطية الأمريكية

أعجب المؤرخ الفرنسي أليكسس دي توكفيل، أيما إعجاب بالديمقراطية الأمريكية عندما أرسلته حكومة بلاده بصحبة باحث آخر، عام 1831 ليتعلم شيئا عن نظام السجون في الدولة الحديثة، وبدل ذلك قام توكفيل بدراسة المجتمع الأمريكي ونظامه السياسي، وأصدر ملاحظاته في مجلدين كبيرين عامي 1935 و1940 بعنوان «الديمقراطية في أمريكا». لقد أعجب المؤرخ الفرنسي باندحار الأرستقراطية في البلاد الجديدة، واتجاهها نحو المساواة في الميراث بين جميع الأبناء، ومعاملة الرئيس كإنسان عادي يخدم دورتين (من دون نص في الدستور، بل تقليد سنّه جورج واشنطن وطبّقه على نفسه) ثم يعود إلى صفوف الناس وغير ذلك الكثير.
قياسا إلى زمن توكفيل يمكن اعتبار الديمقراطية الناشئة اختراقا للتقاليد البريطانية والفرنسية، التي تنصف طبقة النبلاء، إلا أن عيوبا كبرى لم تجذب نظر المؤرخ الفرنسي مثل، غياب المرأة والسود، ومن لا يملكون أرضا، أو من لا يحسنون الكتابة والقراءة من أي عملية انتخابية. ومن هنا جاء النقاش الموضوعي حول مثالب الديمقراطية الأمريكية رغم العديد من المزايا. ودعني ألخص بعض ما طرح من أفكار تم نقاشها والتوافق عليها:

– المجمعات الانتخابية

في زمننا القريب نذكر جيدا أن المرشح الرئاسي آل غور خسر انتخابات 2000 أمام جورج بوش الابن، علما أنه ربح التصويت الشعبي بأكثر من نصف مليون صوت. وكذلك حصلت هيلاري كلينتون عام 2016 في منافستها لترامب على أكثر من ثلاثة ملايين صوت من مجموع أصوات الناخبين، إلا أنها خسرت الانتخابات. هل من بلد آخر في العالم يربح المرشح غالبية أصوات الناخبين ويخسر الانتخابات، إلا في الولايات المتحدة؟ إنه النظام الانتخابي الذي أطلق عليه عام 1787 «المجمع الانتخابي» الذي أقره مؤتمر الولايات الثلاث عشرة الأولى التي أسست الاتحاد. لقد منح هذا النظام كل ولاية عددا من الأصوات، حسب الحجم السكاني، يساوي عدد أعضاء ممثلي الولاية في الكونغرس. وهؤلاء ينتظرون نتائج التصويت داخل الولاية فمن يفوز بها ولو بصوت واحد يعطي المجمع الانتخابي الفائز كافة الأصوات، إلا في ولايتي مين ونبراسكا. لقد أقر هذا النظام لمنح الولايات الصغيرة أهمية في النظام الجديد، وكي لا يضيع وزنها أمام الولايات الكبرى. وسبب آخر في إقرار هذا النظام آنذاك أن غالبية السكان كانوا من المزارعين الأميين، الذين يجهلون الأمور خارج حدود مناطقهم. فكانت الفكرة أن يُعطى قادة الولاية ومفكروها ومتعلموها الذين خدموا في سلك الدولة، حق اتخاذ القرار، لأن قراراتهم لا بد أن تكون أقرب إلى الصواب. وحسب هذا النظام فالشعب الأمريكي ينتخب رئيسه بشكل غير مباشر، وعندما يحصل المرشح الرئاسي على 270 صوتا من مجموع 538 يفوز بالرئاسة. وإن حصل تعادل بين الاثنين يقوم مجلس النواب بانتخاب الرئيس ومجلس الشيوخ بانتخاب نائب الرئيس. ولو حدث هذه المرة وانتخب ترامب لتكررت سابقة فوز رئيس لم يحصل على أغلبية أصوات شعبه. فكل النتائج المتوفرة الآن تشير إلى أن بايدن متقدم في عدد الأصوات الشعبية بأكثر من ثلاثة ملايين صوت.

– رئيس بصلاحيات واسعة

منح الدستور الأمريكي سلطات للرئيس قد لا يوجد مثيل لها في كل الدول الديمقراطية، بل هي أقرب لممارسات الحكام المستبدين. فهو رئيس البلاد، ورئيس الحكومة، والقائد الأعلى للقوات المسلحة، وهذا يعني نشر القوات والقيام بعمليات مسلحة خارج البلاد، ما عدا إعلان الحرب فهو من صلاحيات الكونغرس. هو الذي يعين الوزراء، ولديه الصلاحيات لطردهم، وهو الذي يوقع على التشريعات لتصبح قانونا، ويستطيع أن يستخدم حق الفيتو، إذا لم يوافق على التشريع. وكي يلغي الكونغرس فيتو الرئيس، يحتاج إلى ثلثي الأصوات. الرئيس يملك صلاحيات عقد الكونغرس ورفع جلساته، ويستطيع أن يمنح الحصانة والحماية. ومن حق الرئيس توقيع المعاهدات الدولية، ومن ثم يعرضها على الكونغرس بمجلسيه لاعتمادها بأغلبية الثلثين. وله الحق في رسم السياسة الخارجية، وتعيين قضاة المحكمة العليا الذين يشغلون المنصب مدى الحياة. كما يحق له تعيين السفراء والوزراء والقناصل العامين، وجميع قادة الجيوش والأجهزة الأمنية والاستخبارات. وأثناء عطلة الكونغرس يجوز له تعيين مناصب رفيعة بأمر تنفيذي لمدة سنة، قبل أن يتم استجواب المرشح للمنصب أمام الكونغرس. ومن مسؤولياته أن يقدم للكونغرس سنويا، أو كلما دعت الحاجة تقريرا عن حالة الاتحاد. ولا يطالب الدستور من مواصفات في الرئيس إلا أن يكون قد تجاوز سن الخامسة والثلاثين، وأن يكون من مواليد الولايات المتحدة، وأن يكون قد عاش 14 سنة في الولايات المتحدة كحد أدنى. وحسب التعديل الثاني والعشرين لعام 1951 لا يحق للرئيس أن ينتخب أكثر من دورتين.

– الأثرياء يشترون المرشحين

كانت المحكمة العليا قد قننت عام 1909 الحد الأقصى لتبرعات المرشحين من الأفراد بقيمة 2600 دولار و5000 دولار، من الشركات على أن يكون المتبرع من ولاية أو منطقة المرشح، وأن تكون التبرعات علنية ومصرح بها. هذا القانون ساهم في جعل الانتخابات أكثر مصداقية والتصاقا بالناس العاديين، والابتعاد عن المساومات مع الأثرياء وكبار المتبرعين. والحقيقة أن حملة أوباما في انتخابات 2008 تم تمويلها بشكل أساسي من ملايين المتبرعين على الإنترنت بأقل من 50 دولارا. عادت المحكمة العليا وأقرت قانونا جديدا بضغط من الحزب الجمهوري في يناير 2010، يرفع الحظر على كمية التبرعات التي يقدمها الأفراد والشركات للمرشحين في الانتخابات العامة، مع بعض الضوابط الشكلية، كأن لا تقدم التبرعات للشخص مباشرة، بل للحملة الانتخابية، وهو تحايل واضح على القانون. لقد اعتبرت المحكمة أن الشركات تعامل معاملة الأفراد، لأنها مكونة من أفراد ينطبق عليهم «التعديل الأول» للدستور والمتعلق بحرية التعبير. فحسب القانون الجديد يجوز للأفراد والشركات أن يقدموا من الأموال المعفاة من الضرائب، أي مبلغ من دون حد أقصى، كما يمكن التبرع لأي مرشح في أي ولاية من الولايات الخمسين، ومن دون الإعلان عن كمية التبرعات، أو لمن قدمت التبرعات. هذا القانون ببساطة فتح المجال أمام كبار الأثرياء لشراء الانتخابات، من خلال تمويل حملات المرشحين بكاملها، ولا أدل على ذلك ما قدمه الملياردير الصهيوني شيلدون أديسون، لترامب والتي فاقت 75 مليون دولار. لقد تحولت الانتخابات إلى مزاد علني لمن يدفع أكثر. وتحولت الحملة الانتخابية إلى صراف آلي يقذف بالملايين لتغطية التكاليف. إن أكبر مثال على قوة هذا النظام وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وهو رجل أعمال خارج الإطار الحزبي، ومن خارج المؤسسة السياسية، وكل ما يظهر في سيرته الذاتية أنه ملياردير يتقن الصفقات التجارية. لقد بلغت تكاليف الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمحلية عام 2016 نحو 2.9 مليار دولار، والحملة الحالية تجاوزت ذلك المبلغ بكثير وستظهر تفاصيلها قريبا. وبانتظار النتائج النهاية للانتخابات الحالية سنعود إلى تحليل النتائج وانعكاساتها على الأوضاع العربية والدولية.

عبدالحميد صيام

القدس العربي