في 17 أكتوبر أحيا اللبنانيون الذكرى السنوية لاندلاع “ثورة أكتوبر” بمظاهرات مقلصة مقارنة بتلك التي وقعت باندلاع الاحتجاج الذي شارك فيه مئات الآلاف من كل الطوائف. بمرور عام عانى لبنان خلاله من أزمة رباعية: اقتصادية، وسياسية، وصحية، إلى جانب الكارثة الفظيعة في الميناء- يمكن القول بأن الثورة قد فشلت. أما دعوة تحسسين الوضع وتعديل النظام السياسي فبقيت دون إجابة، وأصبح الوضع في الدولة أكثر خطورة. تحول لبنان إلى دولة فاشلة؛ وازداد وضع الجمهور اليائس سوءاً؛ وحافظت القيادة السياسية الفاسدة على مكتسباتها وبقيت كما هي- بمن فيهم رئيس الحكومة الحريري الذي استقال في بداية الثورة، ولكنه تسلم مؤخراً كتاب التعيين لتشكيل حكومة جديدة، حيث ظل وعده بإجراء إصلاحات بروح “المبادرة الفرنسية” بحاجة إلى إثبات. وما زالت الطريق طويلة لتحقيق تغيير في لبنان، مع ذلك نوصي إسرائيل بأخذ دور حتى وإن بصورة غير مباشرة في الجهود الغربية لإعادة الاستقرار للجارة الشمالية، مع تقليص تأثير نفوذ حزب الله وتحييد الأخطار الذي يخلقها لإسرائيل وللبنان وللمنطقة على حد سواء.
اندلعت “الثورة” في لبنان في أكتوبر 2019 بصورة تلقائية كـ”احتجاج واتس أب”، في أعقاب ضرائب جديدة فرضتها الحكومة، وقد امتدت لكل أرجاء لبنان، مطالبةً بإجراء تغييرات في النظام السياسي الذي تشكل بعد “اتفاق الطائف” (1989) على أساس طائفي وتغيير القيادة الفاسدة كلها، على أمل تحسين شروط الحياة. لقد استمرت الثورة بموجات على طول العام، ولكن طابعها تغير من مظاهرات يشارك بها العديدون في بدايتها، وحملت طابع احتفال وطني في جو كرنفالي إلى مظاهرات أصغر بسبب وباء كورونا- ولكنها كانت أكثر عنفاً. هذا دون أن تنجح في تغيير كتعبير عن يأس متزايد.
الأزمة الاقتصادية
وباء كورونا الذي اندلع في آذار ووصل في هذه الأيام إلى أرقام قياسية جديدة من المصابين وإلى حالة قصور في المستشفيات- زاد من حدة الأزمة الاقتصادية الصعبة التي أحاقت بلبنان في السنوات الأخيرة، والتي تتأثر بالشلل السياسي وبالفساد ،وحتى من تداعيات الوضع في سوريا (بما في ذلك لاجئون من هناك) وقبل ذلك، فشل لبنان في سداد قرض ال30 مليار دولار للاتحاد الأوروبي. بيعت الليرة اللبنانية بمستويات تصل إلى 7 آلاف إلى 8 آلاف ليرة للدولار (في حين أن سعر التحويل الرسمي يبلغ 1500 ليرة)، وتتراوح تقديرات بخصوص معدل البطالة بين 30-60%. أما انخفاض التحويلات المالية من جانب لبنانيين في الخارج إلى دولتهم الأم وانخفاض المدخولات السياحية فقد قلّص مدخولات العملة الصعبة. وتضرر فرع البنوك، الذي يشكل عاملاً رئيسياً في الاقتصاد اللبناني، في سنة 2019 ومن المتوقع أن يظهر خسائر بالغة في 2020. في أعقاب الوباء، حدث إبطاء آخر في النشاط الاقتصادي بسبب الإغلاقات: مئات المشاريع انهارت، ونسبة العاطلين والجوعى ارتفعت. بالرغم من ذلك، تغلب الجوع واليأس على الخوف من الوباء، ولم تتوقف احتجاجات الشوارع، حتى ولا في الموجة الثانية والأخطر الحالية.
لقد أضيف إلى مشاكل لبنان الاقتصادية أضرار الانفجار المدمر في بيروت في آب 2020، الذي خلّف -بالإضافة إلى حوالي 200 قتيل وآلاف الجرحى، ونحو 300 ألف لا يملكون مأوى- دماراً كبيراً. محافظ بيروت قدر (كتقدير أولي) أن تكلفة إصلاح الأضرار المباشرة التي وقعت قد تصل إلى 3-5 مليار دولار، وبإضافة التكلفة والأضرار غير المباشرة وبعيدة المدى، قد يصل المبلغ الإجمالي للأضرار إلى 10-15 مليار دولار. حسب تنبؤات وحدة الأبحاث للأوكونوميست (من أكتوبر 2020)، فإن الناتج اللبناني من المتوقع أن يتقلص لحوالي 20% في سنة 2020 ومن المتوقع أن تكون سنة 2021 صعبة جداً على اقتصاد لبنان. صحيح أن الكارثة الشديدة سرّعت استعداد الغرب للتجند ومساعدة لبنان، ولكن هذا مع استمرار اشتراط المساعدة بإصلاحات عميقة بروحية مطالب المتظاهرين. المفاوضات ما بين لبنان وإسرائيل حول ترسيم الحدود البحرية شكّلت نقطة ضوء منعزلة إزاء الإمكانية الكامنة الاقتصادية في استخراج الغاز من حقول الغاز البحرية بواسطة شركات أجنبية، ولكنها مفاوضات لم تتقدم حتى الآن، وعلى كل الأحوال فإن المكاسب من الغاز قد تأتي في المدى الأبعد.
الأزمة الاقتصادية تؤثر أيضاً على حزب الله الذي يعاني من ضغوط مالية، نابعة من تخفيض المساعدة الإيرانية، التي زادت من دافعية الحزب للحفاظ على توليه للوزارات الحكومية ذات الأهمية الاقتصادية (مثل وزارة الصحة ذات الموازنات العالية ووزارة الماية). في الوقت نفسه، تبدو سيطرة مؤيدي حزب الله على مواقع رئيسة، والخوف من التأثير على الأهداف التي ستصل إليها المساعدة الاقتصادية للدولة، من شأنه أن يردع شركات غربية من العمل في لننان، خوفاً من رد مضاد أمريكي.
الشلل السياسي
لقد أدى اتساع نطاق التظاهرات إلى استقالة الحكومة برئاسة سعد الحريري (29 تشرين الأول 2019)- ولكن بعد عام من المحاولات غير المجدية، عاد الحريري للحلبة السياسية، ولنفس الوظيفة. إن النقاش حول طابع الحكومة وتوزيع الحقائب خلق شللاً إزاء عدم استعداد النخبة المسيطرة القديمة للاستجابة لمظاهر المتظاهرين لاستبدالها بوزراء مهنيين أيديهم نظيفة، وكذلك أيضاً لمطالب صندوق النقد الدولة بإصلاحات عميقة قبل أن يتم تحويل مساعدة اقتصادية. فعلياً تم إحباط كل اقتراح كان من شأنه أن يقلص من المكاسب الاقتصادية والسياسية للنخبة. حزب الله، الذي يؤيد الحفاظ على الوضع الراهن، ويضمن مكانته الخاصة وتأثيره على اتخاذ القراررات، نجح في الدفع قدماً مع معسكره لتشكيل حكومة دمى (نهاية كانون الأول 2019)، التي شُكلت كما يبدو كحكومة تكنوقراط برئاسة حسن دياب. هذه الحكومة فشلت في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، أو في إجراء تغييرات، وخاب أملها في تهدئة غصب الجماهير: استمرت المظاهرات، وتحولت من كانون الثاني 2020 إلى مظاهرات أكثر عنفاً. هذه الحكومة استقالت هي أيضاً (10 آب) في أعقاب غضب الشوارع بعد الكارثة الشديدة في ميناء بيروت (4 آب) حيث كان في الخلفية تفاقم الأزمة الثلاثية: الاقتصادية- السياسية -الصحية. في بيان استقالته، اتهم دياب السياسيين الفاسدين الذين منعوه من إجراء أي تغيير، وقال: “اكتشفنا أن الفساد أكبر من الدولة”.
المحاولة الأخرى لتشكيل حكومة جديدة برئاسة شخص من وزارة الخارجية، وهو سفير لبنان في ألمانيا مصطفى أديب، أُفشلت هي أيضاً على يد “الثنائي الشيعي- حزب الله وحزب أمل” اللذين أصرا على الحصول على وزارة المالية والتأثير على تشكيلة باقي الوزراء. في خطاب ألقاه الرئيس عون (21 تشرين الأول) بدا يأسه، وهو يوجه أصبع الإتهام تجاه السياسيين الفاسدين. في غياب مرشح سياسي آخر، الاتفاق الوحيد الذي كان بالإمكان التوصل إليه بالتشاور ما بين زعماء النخبة الحاكمة كان إعادة تسمية سعد الحريري لتشكيل حكومة جديدة في مخالفة تامة لمطالب المتظاهرين الذين طالبوا بتغيير كل القيادة، ولكن هذه القيادة بقيت كلها على حالها.
إن استعداد بدء مفاوضات مع إسرائيل حول الحدود البحرية (14 تشرين الأول) يعكس عمق الضائقة لمجمل الأطراف السياسية في لبنان بما في ذلك حزب الله، الذي وافق على ذلك خلافاً لموقفه حتى الآن، على الرغم من ضائقة هذا التنظيم، الذي يتعرض لضغوط من الداخل والخارج، فإنه يواصل كونه عاملاً رئيسياً من خلف الكواليس في إدارة المفاوضات، حيث يملك التأثير على كل عملية لا تتساوق مع مصالحه. سيحرص على ألا تنحرف المفاوضات عن هدفها وتتحول إلى بيئة خصبة لاتصالات سياسية مع إسرائيل. بموازاة ذلك، يحرص حزب الله على إبقاء التوتر الأمني أمام إسرائيل، في الوقت الذي ما زال وعده بالانتقام لمقتل رجل حزب الله في هجوم إسرائيلي في سوريا (في تموز) باقياً على حاله. هذا، كجزء من سياسته لترسيخ معادلة ردع واسعة إزاء إسرائيل تقول إنه سيضرب جنوداً إسرائيليين كَرد على المسّ بأعضائه حتى في سوريا ولبنان. في هذه المرحلة، يبدو أنه ينتظر الوقت المناسب لتنفيذ تهديده، وهي عملية قد توسع دائرة المواجهة. يجب ألا نستبعد احتمالية أن هدف عملية عسكرية سيكون أيضاً صرف الأنظار عن مساهماته السلبية لحل الأزمة في لبنان.
السيناريوهات المحتملة
في هذه المرحلة يصعب التنبؤ بالتطورات في لبنان، ولكن يمكن أن نشير إلى 4 سيناريوهات أساسية لما يمكن أن يحدث لاحقاً:
ما كان هو ما سيكون – استمرار الوضع القائم دون تغيير جوهري لفترة زمنية أخرى، الذي يمكن أن يمتد ومن الممكن أن يقود إلى أحد السيناريوهات التالية.
تغيير تدريجي للأفضل -السيناريو الإيجابي، الذي يتحقق فيه تحسين تدريجي في الوضع في لبنان: تشكيل حكومة تكنوقراط قادرة على العمل برئاسة الحريري، والدفع قدماً بصورة تدريجية بإصلاحات وتحويل مساعدة غربية.
سيطرة حزب الله بالقوة – من أجل الحفاظ على مكانته ومكتسباته، لم يتبقَ أمامه سوى السيطرة على الدولة اللبنانية. وإن درجة المقاومة من جانب القوى الأخرى تملي نطاق المواجهة العسكرية الداخلية، وهي في الطريق إلى ذلك.
حرب أهلية وفوضى – اندلاع حرب أهلية أخرى في أعقاب سيطرة لحزب الله بالقوة أو بسبب اتساع أحداث العنف بمبادرة آخرين، دون نجاح أي من هذه القوى في السيطرة على الدولة.
توصيات لإسرائيل
أمام لبنان – يجب أن تكون نقطة انطلاق إسرائيل بأن لها مصلحة في لبنان كدولة مستقرة مع نظام قادر على العمل ولكن بدون تأثير من حزب الله. وعلى إسرائيل أن تدعم المساعدة الغربية للبنان مع بذل جهود لوضع قيود تمنع دمج أو سيطرة حزب الله على النظام اللبناني.
أمام حزب الله -على إسرائيل أن تواصل نضالها العسكري- السياسي- الفكري لإضعاف هذا التنظيم كقوة مهيمنة في لبنان، وكمن يسيطر على ميليشيا عسكرية مستقرة، مع التأكيد على منع استمرار تعززه، وخاصة إفشال جهوده لتجميع مخارن صواريخ دقيقة، وكذلك أيضاً منع ترسخ بنية تحتية لحزب الله في هضبة الجولان. أما في الساحة الدولية فعلى إسرائيل أن تعمل على عزله السياسي واعتباره تنظيماً إرهابياً دولياً، والمساعدة في الكشف وإحباط نواياه في تنفيذ إرهاب في الخارج، وتوضيح مخاطره على لبنان وإسرائيل وعلى المنطقة.
القدس العربي