لا يهم ما يحدث بين الرئيس الجمهوري دونالد ترامب الذي لم يهبَّ لنجدته سوى أنصاره الأميركيين المولودين جمهوريين فقط لا غير، وبين الديمقراطي جو بايدن الذي احتشد وراءه كل من له ثأر ويريد أخذه من ترامب، من أميركيين ديمقراطيين متضررين من وجوده، سياسيا وماليا وشعبيا، ومن روس وصينيين ومكسيكيين وكنديين وفنزويليين وألمان وفرنسيين وكوريين شماليين وإيرانيين وعرب وأثيوبيين، وبأموال طائلة، وأسلحة وفنون تشويش وتشويه سمعة مبتكرة متنوعة فتاكة، وخبراء في اختراق المواقع الإلكترونية، ومئات الآلاف من الكتاب والمحللين والمراسلين الصحافيين، مع حشد هائل من إذاعات وصحف وفضائيات أميركية وعالمية في حرب مثيرة وفريدة من نوعها تابعها العالم أجمع على شاشات التلفزيون بشغف وقلق وترقب.
بعبارة أخرى أن ثلاثة أرباع سكان الكرة الأرضية كانت هنا في أميركا مستنفَرة مع بايدن لقهر شخص واحد اسمه ترامب، بأي ثمن، وبأي سلاح.
ومن أهم ما يمكن استخلاصه من هذه الحرب الطاحنة أمورٌ تهم أميركا وحدها، وأمور ثانية أخرى تهم البشرية، وثالثة تخصنا نحن العرب أولا، والعراقيين بشكل خاص.
أولا، لقد أثبت الشعب الأميركي أنه مُعبأ، سلفا، وثابت الولاء لحزبه المفضل، مهما قيل عنه ومهما يقال.
فبرغم كل أخطاء ترامب ومزاجيته في إدارة الدولة واستفزازه العالم وإثارة نقمته عليه فقد وجد الملايين من الناخبين الذين أحبوه بجنون، ووقفوا معه وقت الشدة.
على الجانب الآخر كان ناخبون بالملايين يبغضونه ويقاتلون من أجل الخلاص منه، دون أن يشفع له أنه أنجز أغلب وعوده التي انتخبوه على أساسها في 2016. فقد استمطر الدنيا دولاراتٍ بالمليارات على الخزينة الأميركية، وأنعش الاقتصاد، بعد ركود سنين طويلة، وحقق أرقاما قياسية في خفض التضخم ومستوى البطالة.
ولم يسعفه اكتشافه لأصل الإرهاب الدولي، وقرارُه الحازم باجتثاثه من جذوره، بالعقوبات والحصار المالي والعسكري والاقتصادي، كما فعل مع إيران وداعش وبن لادن وقاسم سليماني.
ثم إنه فعل لليهود ولإسرائيل ما لم يفعله رئيس أميركي من قبله. فقد نقل سفارة أميركا إلى القدس واعترف بها عاصمة أبدية لإسرائيل، ومارس، بكل ما في قدرة أميركا السياسية والعسكرية والاقتصادية، أقصى ما يمكن من الضغوط على العرب لقبول الكيان الإسرائيلي، بكل عنجهيته وظلمه وتعدياته، أخا وشقيقا في المنطقة، مُغضبا بذلك نصف الدنيا، ومُبقياً على نار الغضب العربي تحت رمادها في انتظار الفرصة السانحة للمزيد من الحروب والخراب والدمار وسفك الدماء، أملا منه في أن يكافئه يهود أميركا على كل تلك الهبات والخدمات فيمنحوه أصواتهم، ولكن إحصاءاتٍ رسمية تؤكد أن ما نسبته 85 في المئة من اليهود الأميركيين صوتوا لمنافسه الديمقراطي.
ولعل أكبر أخطاء الرئيس ترامب المتراكمة هو تفضيله المصلحة المالية، على القيم الأخرى في تعامله مع دول العالم الخارجي، وليس على أساس الموازنة بين الأخذ والعطاء.
فقد رأى في العولمة، مثلا، إضرارا بالمصالح الوطنية الأميركية، واعتمد سياسة الهيمنة التي يرى أنه بها يقدم نفسه للأمة الأميركية بطلا تاريخيا يعيد لأميركا أمجادها وهيبتها وسطوتها على العالم من جديد، ويوفر الحماية للمصانع والشركات الأميركية، ولم يتساهل مع عدو ولا صديق.
ثم انسحب من الكثير من الاتفاقات الدولية السابقة، رافعا شعار “أميركا أولا”، كانسحابه من الشراكة عبر المحيط الهادي، واتفاقية باريس للمناخ، واليونسكو، والاتفاق النووي الإيراني، ومجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. وآخرها انسحابه، رسميا، من منظمة الصحة العالمية على خلفية إدارتها لأزمة فايروس كورونا.
وتشدَّد مع جارته كندا، وفرض صيغة جديدة في التعامل التجاري معها خلافا لما كان عليه الحال عشراتٍ من السنين.
وفي مسألة المهاجرين الأميركيين اللاتينيين غير الشرعيين أصر على بناء الجدار العملاق بين أميركا والمكسيك، وتحميل حكومتها جزءًا كبيرا من نفقاته، ثم منع دخول الوافدين من دول إسلامية صنّفها ضمن الدول الراعية للإرهاب، أو التي تعاني من العجز عن محاربة الإرهاب.
وحتى في داخل إدارته كان يطرد كبار معاونيه بطريقة مزاجية فضة ومهينة، فيحولهم من موالين إلى خصوم يكتبون ويصرحون ضده بما أضر بسمعته القيادية إلى حد كبير، وكشف نزقَه وغروره.
ثم لم يتورع عن إهانة رؤساء ووزراء أميركيين سابقين، ونشر فضائحهم. ومنها ما كرر إعلانَه على شاشات التلفزيون عن ضلوع سلفه باراك أوباما ونائبه جو بايدن ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون في اختراع داعش ورعايته، واحتضان الإخوان المسلمين، ثم سمح بنشر الإيميلات السرية لكلينتون وهانتر بايدن بكل ما فيها من فضائح وأسرار.
وفي النهاية غطت هذه الشطحات السياسية المثيرة للجدل على كل منجزاته الجيدة الكثيرة، وقرّبته من خسارة الرئاسة، إلا إذا حدثت معجزة.
ولكن في ظل إدارة القادم الجديد إلى البيت الأبيض، الديمقراطي جو بايدن، ستدخل أميركا، ومعها العالم كله، وشرقُنا الأوسط، في فوضى واختلال موازين جديدة لسنوات قادمة ستجعل كثيرين يترحمون على ترامب وأيامه الخوالي.
يقول بايدن إن سياسة ترامب ألحقت ضررا “بسمعة أميركا ومكاننا في العالم، وأنا واثق بكل صراحة في قدرتنا على قيادة العالم”.
وانتقده على تخليه عن الدور القيادي للولايات المتحدة على الساحة الدولية، وشدد على ضرورة العمل الجماعي لمحاربة تغير المناخ، وانتشار الأسلحة النووية، والإرهاب، والهجمات السيبرانية.
وعن السياسة التي سيتبعها، قال بايدن إنه سيسحب معظم القوات الأميركية من مناطق لا يرى فائدة لأميركا من بقائها فيها، وسينهي الدعم الأميركي للعملية العسكرية السعودية في اليمن، وسيجدد التمسك بالتزامات أميركا إزاء حلفائها في الناتو.
وسيلغي حظر السفر الذي فرضه ترامب على مواطني عدد من الدول ذات الأغلبية المسلمة، وسينهي فصل أطفال المهاجرين عن أسرهم على الحدود مع المكسيك.
وانتقد انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران، مؤكدا أنه سيعود إلى الالتزام بالاتفاق، في حال التزمت طهران بتعهداتها.
ويعتزم بايدن العودة إلى اتفاقية باريس حول المناخ، والضغط على كوريا الشمالية حتى تأخذ على عاتقها تعهدات أكثر صرامة بشأن التخلي عن برنامجها النووي.
وفي انتظار ما ستسفر عنه المعارك القضائية بين الحزبين، وما ستقرره المحاكم العليا، لا بد من القول هنا بأن في مزاعم الجمهوريين حول حدوث تلاعب وتزوير في بطاقات الاقتراع بالبريد نصيبا كبيرا من الصواب. أولا لأن ذلك حدث فقط في الولايات التي يهيمن عليها الديمقراطيون، وثانيا لأن امرأة غير جمهورية ذهبت لتقترع فوجدت أن أحدا غيرها استخدم اسمها وبياناتها الشخصية واقترع بالنيابة عنها، ثم اعترف موظف من العاملين في فرز الأصوات بأنه فوجئ بأن إحدى بطاقات الاقتراع كانت تحمل اسم أخيه المتوفى منذ عامين، وبياناته الشخصية الصحيحة. ثم قبضت شرطة نيويورك على موظف بريد وبحوزته 800 بطاقة اقتراع لم يقم بإرسالها.
وفي الخلاصة نوجه إلى العراقيين، وخاصة الذين صدقوا رئيس وزرائهم مصطفى الكاظمي وفضّوا الانتفاضة، هذا السؤال: إذا كان الحزب الجمهوري الأميركي الحاكم، بجلالة قدره، وبعظمة نفوذه، وقدراته الهائلة، وفي مجتمع أميركي خالٍ من الميليشيات والسلاح المنفلت، لم يستطع أن يمنع التلاعب والتزوير، فكيف إذن يتعهد الكاظمي بضمان انتخابات نزيهة وعادلة ودون تلاعب وتزوير؟
العرب