يبدو منطقياً أن زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الشطر الشمالي التركي من جزيرة قبرص تنطوي على أبعاد إقليمية وجيو ـ سياسية تتجاوز بكثير الهدف الرسمي المعلن، أي الاحتفال بالذكرى الـ37 لتأسيس جمهورية شمال قبرص المعترف بها من أنقرة، أو تهنئة الرئيس إرسين تتار الذي انتخبه القبارصة الأتراك مؤخراً. ولكن الأهداف البعيدة لا تحجب أهمية الأهداف القريبة، إذْ تتيح لتركيا إعادة التشديد على مساندة الشطر الشمالي، ضمن سياسة متواصلة منذ العام 1974 حين عمدت أنقرة إلى غزو شمال قبرص رداً على انقلاب قصير الأمد شهدته الجزيرة بتخطيط من اليونان.
ولعل في طليعة الأهداف البعيدة أن إدارة أردوغان تتابع الرد على مساع إقليمية، يونانية وقبرصية وإسرائيلية ومصرية، تستهدف التضييق على مجال تركيا الحيوي في شرق المتوسط، سواء لجهة حرمانها من التنقيب عن الغاز والنفط في الجرف القاري الخاصّ بها وبجمهورية قبرص الشمالية، أو محاصرتها عسكرياً بطرائق غير مباشرة قائمة على تحالفات صريحة أو مبطنة بين تلك الدول، مترافقة مع تحريض الحلف الأطلسي على الجبهتين الدبلوماسية والعسكرية.
وبذلك فإن أردوغان يصل إلى لفكوشا عاصمة القبارصة الأتراك وقد وضع في حساباته سلسلة تطورات استهدفت الضغط على أنقرة، بينها المناورات العسكرية الأخيرة التي جمعت قبرص واليونان ودولة الاحتلال الإسرائيلي، وحضرها وزراء دفاع هذه الدول الثلاث، وأوضحت تصريحاتهم أن الجانب العسكري ليس هو الهدف الأول وراء المناورات بقدر توطيد العلاقات الثلاثية على قاعدة مشاريع استثمار النفط والغاز وخطط تصديره إلى أوروبا. تطور آخر بدا واضحاً أن الرئيس التركي يرد عليه، كان القمة الثلاثية القبرصية اليونانية المصرية التي انعقدت في نيقوسيا أواخر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وانتهت إلى بيان مشترك وتصريحات رسمية حملت تهديدات ضد أنقرة ونبرة عدائية بخصوص حقوق تركيا في التنقيب عن النفط والغاز شرق المتوسط.
وبذلك فإن زيارة الشطر التركي من قبرص تضيف حلقة جديدة إلى رهانات أردوغان على عدد من الملفات التي يمكن أن تتكفل بالإبقاء على أنقرة حاضرة بقوة في قلب نزاعات تبدو إقليمية أو حتى محلية من حيث الشكل، إلا أن نطاقها وطبائع اشتباك القوى من حول معادلاتها المختلفة تجعل منها رهانات جيو ـ سياسية بامتياز. هذه هي الحال، بدرجات متفاوتة، في ملفات الشمال السوري، والحرب الأهلية في ليبيا، والنزاع العسكري الأذربيجاني الأرمني في ناغورني كرباخ، إلى جانب الخلافات حول التنقيب في مياه المتوسط.
وليس خافياً أن الحسابات التركية لا تنهض على معطيات هشة أو تفتقر إلى هوامش مناورة رابحة في إدارة هذا الملف أو ذاك، إذْ أن دعوة أردوغان إلى حل قائم على دولتين مستقلتين في قبرص إنما يتأسس على عجز الأمم المتحدة عن استئناف أي حوار جدي، والتوصل إلى مقترحات ملموسة من جانب الأطراف الراعية التركية واليونانية والبريطانية، وذلك منذ عام 2017 حين توقفت المفاوضات عند حصيلة من الفشل والعجز معاً.
والرئيس التركي إنما يلقي اليوم بحجر ثقيل، هو اقتراح حل الدولتين، في المياه ذاتها التي تركها الأمين العام للأمم المتحدة ساكنة وراكدة.
القدس العربي