أمريكا والصين بين التعاون «الضرورة» والحرب «الكارثة»

أمريكا والصين بين التعاون «الضرورة» والحرب «الكارثة»

على عكس ما قاله في كتابه «النظام العالمي» عن قدرة الولايات المتحدة على الاستمرار في قيادة العالم، يدفع حكيم الدبلوماسية الأمريكية هنري كيسنجر حاليا بوجهة نظر مفادها، أن الولايات المتحدة لم تعد في وضع يسمح لها بقيادة العالم منفردة، وأن صعود قوة الصين، يجعل التعاون بين القوتين ضرورة لا مفر منها، إذا كانت الولايات المتحدة تريد تجنب كارثة عالمية مثل، تلك التي حدثت في الحرب العالمية الأولى.
هنري كيسنجر طرح رؤيته الجديدة عن العلاقات بين القوتين الرئيسيتين في مناقشة شديدة الأهمية مع رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي لولاية نيويورك، في نادي نيويورك الاقتصادي، في 7 أكتوبر الماضي، ثم في حوار مع رئيس تحرير وكالة بلومبرغ الإخبارية في 16 نوفمبر الحالي. في كل من المناسبتين قال إن على الرئيس المنتخب جوزيف بايدن ألا ينزلق في سياسته تجاه الصين إلى نهج عدواني تصادمي، لأن معادلة القوة بين الدولتين متكافئة تقريبا، وإن أيا منهما لم يواجه في تاريخه قوة مكافئة، خصوصا الولايات المتحدة، التي تفوقت على خصومها منذ الحرب العالمية الثانية. وبصرف النظر عن أن كيسنجر يتجاهل فشل السياسة الأمريكية تجاه فيتنام، ثم تجاه كوريا الشمالية وكوبا، فإن الاستنتاج العام الذي قدمه يظل صحيحا في السياق الذي عرضه.
الأهم من ذلك أيضا أن حكيم الدبلوماسية الأمريكية، الذي فتح أبواب الصين للولايات المتحدة منذ نحو أربعين عاما، يوجه رسالة صريحة إلى القيادات السياسية في بلاده، مؤكدا على أن أمريكا تواجه تحديات تاريخية، تتجاوز الخلافات السياسية بين الديمقراطيين والجمهوريين، أو بين إدارة ترامب الحالية وإدارة بايدن المقبلة، بمعنى أن السياسات المقابلة لها ليست من ذلك النوع الذي تتم مراجعته وتغييره كل أربع، أو ثماني سنوات. وطبقا لحواره مع أعضاء النادي الاقتصادي في نيويورك، فإنه يتعين على الولايات المتحدة ان تفكر بطريقة جديدة في علاقتها مع العالم، لأنها لم تعد القوة الوحيدة التي تستطيع صياغة مستقبله. وحذر من خطورة الاعتقاد بأن سياسة اعتراض نمو قدرات الآخرين، وعلى رأسهم الصين، أو إضعاف تأثير قدراتهم يمكن أن ينتج آثارا إيجابية. وفي إشارة إلى التغيرات التكنولوجية الهائلة التي يشهدها العالم، عقد كيسنجر مقابلة بين ثورة الطباعة في عصر التنوير، التي أتاحت انتشار المعرفة إلى نطاق لم يكن معروفا من قبل، وثورة الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات الفضائية والرقمية التي يشهدها العالم حاليا، قائلا إنه من الصعب الآن تقدير أثر الثورة التكنولوجية الحالية، على موازين القوى في العالم، مؤكدا أن التفكير التكنولوجي يسبق حاليا المفاهيم السياسة المستقرة.

قال كيسنجر على جوزيف بايدن ألا ينزلق في سياسته تجاه الصين إلى نهج عدواني تصادمي، لأن معادلة القوة بين الدولتين متكافئة تقريبا

وانتقد كيسنجر السياسات المعادية للصين، التي كشف عنها الرئيس الأمريكي المنتخب خلال حملته الانتخابية، وعلى وجه الخصوص اقتراحه بالدعوة إلى مؤتمر عالمي للدول الديمقراطية في مواجهة الصين. وقال إن سياسة الولايات المتحدة يجب أن تركز على ما يمكن تحقيقه في العلاقات مع الصين، على أمل الوصول إلى صيغة لتعاون مثمر بين الطرفين، مؤكدا أن ذلك هو الطريق الصحيح بدلا من السياسات العدائية، التي يمكن بسهولة ان تؤدي إلى الانزلاق في حرب مدمرة، ستكلف البشرية كثيرا جدا نظرا للتطور الذي طرأ على أنظمة التسلح في العالم.
ويجدر بالذكر هنا تأكيدا لحجج كيسنجر، أن الصين استطاعت في السنوات الأخيرة تحديث قوتها العسكرية إلى مستويات تضاهي القوة الأمريكية، على الرغم من الفارق الكمي بين حجم قوات البلدين، خصوصا في ما يتعلق بالقوة الأمريكية البحرية، وعدد حاملات الطائرات وأنظمة تسليحها، وقدرة القيادة العسكرية الأمريكية على إدارة العمليات في أي مكان في العالم. وقد بانت أصداء تطوير القوة العسكرية الصينية التي تعتمد على الكيف، أكثر من الكم في فلسفة إدارة الأساطيل وحاملات الطائرات الأمريكية، التي سوف تتجه في المستقبل إلى الاعتماد على سفن وحاملات طائرات أخف وزنا وأصغر حجما من الطرز الحالية، التي تعتبر أهدافا سهلة للصواريخ التي يمكن أن تطلقها غواصات صينية صغيرة، مسيرة ذاتيا قادرة على التخفي وتضليل أجهزة الرادار. كذلك فإن تجربة الصدام العسكري المحدود أخيرا بين الصين والهند، والمناورات الكثيفة في مياه وأجواء بحري الصين الشرقي والجنوبي، تثير الكثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام، عن طبيعة التطوير الذي طرأ على القوة العسكرية الصينية، ابتداء من ملابس الجنود الواقية من الأشعة والموجات الكهرومغناطيسية، إلى القاذفات والمقاتلات والصواريخ المتوسطة المدى. ويمكن القول من متابعة تطور أنظمة التسليح في الصين، إن هناك توظيفا كثيفا لمنتجات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية في الأسلحة الصينية التقليدية والجديدة.
وقد أضافت بوني كريستيان زميلة مؤسسة (أولويات الدفاع) والكاتبة في عدد من الصحف والمجلات الأمريكية، أن قوة الصين تكشف عن سعيها لأن تصبح قوة عسكرية مهيمنة إقليميا، ولكنها لا تمثل تهديدا للمصالح الرئيسية للولايات المتحدة على مستوى العالم. واتفقت كريستيان مع وجهة نظر كيسنجر، بدون الإشارة إليه، في مقال نشرته مجلة «ناشيونال إنتريست» في 13 نوفمبر، مؤكدة أن الرد على القوة الصينية بزيادة الوجود العسكري الأمريكي بالقرب من الصين ينطوي على قدر كبير من المخاطرة، ويمكن ان يؤدي إلى حرب مميتة. وقد دعا هنري كيسنجر الإدارة الأمريكية الجديدة إلى الحوار مع القيادة الصينية، من أجل وضع سقف للتهديدات التي يمكن أن تنشأ بسبب اختلاف المصالح، وطبيعة النظام في كل من البلدين، وألا تصل هذه التهديدات أبدا إلى الانزلاق في أتون حرب كارثية. وقال إنه من الضروري فتح قنوات اتصال دائمة لضبط إيقاع العلاقات بين القوتين. وحذر كيسنجر من أن التطورات التكنولوجية المعاصرة، يمكن أن تغذي الميل إلى تبني فكر سياسي ومفاهيم المباريات الصفرية، أو مبدأ أن الطرف الرابح يحصل على كل شيء، في حين يخرج الخاسر صفر اليدين. وقال كيسنجر إن ما حدث في الحرب العالمية الأولى يكشف خطورة تداعيات عدم أخذ تهديد الانزلاق إلى حرب بشكل جدي، بينما كانت الأطراف كلها تقوم بعملية بناء تراكمي لقوتها العسكرية.
وجدير بالذكر هنا أن قيادة وزارة الدفاع الأمريكية، قبل إزاحة مارك إسبر كانت تعمل بشكل صريح على فتح خط ساخن للاتصالات العسكرية مع القيادة المقابلة في وزارة الدفاع الصينية، وذلك لتجنب حدوث ما يمكن أن نطلق عليه: «الحرب بالمصادفة» التي يمكن أن تنتج عن إساءة الفهم أو الخطأ في التقدير. وقد وصلت الاتصالات بين البنتاغون ووزارة الدفاع الصينية إلى درجة متقدمة في التفاهم حول ضرورة هذا الخط، خصوصا بعد حدوث احتكاكات عن بعد، صغير جدا بين البحرية والطيران لكل من الجانبين في مياه وأجواء بحر الصين الجنوبي، وتصاعد عملية الحشد العسكري للطرفين في منطقة شديدة الخطورة حول تايوان. وربما كانت سياسة إسبر في هذا الخصوص واحدة من محاور الخلاف مع الرئيس الأمريكي الحالي. ومع أن التجربة التاريخية تشير إلى أن إقامة خط ساخن بين واشنطن وموسكو كان أحد معالم الحرب الباردة بين القوتين الأعظم، فإن كيسنجر يرى أن واشنطن وبكين يجب أن لا تنزلقا إلى مستوى الحرب الباردة بينهما. ولم يقلل كيسنجر من أهمية وجود خلافات بين الولايات المتحدة والصين، وقال إنه اتفق مع ترامب في بدايات فترته الرئاسية علي تحديد هذه الخلافات والتركيز عليها، لكنه عبر عن اختلافه مع الطريقة التي يتعامل بها ترامب مع هذه الخلافات، معربا عن رفضه الشديد للاستمرار في الاعتماد على دبلوماسية صدامية تجاه الصين، قائلا إن مثل هذه الدبلوماسية غير قابلة للتطبيق الممتد. وطالب الرئيس المنتخب بالعدول عن فكرة إقامة تحالف عالمي يضم النظم الديمقراطية للوقوف ضد الصين، قائلا إن الأفضل هو إقامة تحالف لاكتشاف الفرص الأفضل للتعاون، مع السماح بوجود الخلافات والاعتراف بها، بشرط ألا تصل إلى مستوى التهديدات التي قد تؤدي إلى حرب. وفي مجال ضرورات التعاون ضرب مثلا بسياسات مواجهة جائحة كوفيد 19 قائلا، إنه كان من الضروري مواجهتها بحلول مبنية على أساس التعاون العالمي، وليس من خلال سياسات قومية الطابع.
وتطرق كيسنجر إلى الدور الأوروبي المتميز في علاقته بالسياسة الخارجية الأمريكية، وقال إن التوازنات الراهنة في العالم من شأنها أن تضع أوروبا في موقف شديد الحساسية بين الولايات المتحدة ومنطقة (أوراسيا) بكل صراعاتها، وسعي قواها لتعديل موازين القوى. وقال إن ذلك سوف يمنح أوروبا الفرصة لكي تلعب دورا مستقلا عن السياسة الخارجية الأمريكية، لكن حديث كيسنجر في هذا السياق لم ينطو على أي معنى يشير إلى احتمال حدوث صدام عبر الأطلنطي بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. على العكس من ذلك فإن التصريحات الدافئة التي صدرت في العواصم الأوروبية، ترحيبا بفوز جوزيف بايدن في سباق الرئاسة الأمريكية، تشير إلى زيادة احتمال التقارب عبر الأطلنطي خلال سنوات حكم بايدن المقبلة، بعد مناخ الفتور والتوتر والخلافات، الذي سيطر على العلاقات بين الطرفين خلال فترة حكم ترامب التي شهدت خلافات تجارية ممتدة، وصلت إلى حد فرض رسوم جمركية انتقامية بين الطرفين، وخلافات عسكرية وسياسية تتعلق بالكثير من القضايا، بما فيها الأمن الأوروبي والأمن المتبادل بين الدول الأعضاء في حلف الأطلنطي. إن قراءة رؤية هنري كيسنجر الأخيرة مهم جدا لفهم وتقييم السياسة الأمريكية والعلاقات الدولية عموما، لفترة طويلة مقبلة، وليس لفترة حكم جو بايدن فقط.

إبراهيم نوار

القدس العربي