في أول كلمة له، يمكن وصفها بالرسمية، بعد سماح الرئيس المهزوم، دونالد ترامب، ببدء العمل بنقل السلطات إلى الإدارة الجديدة، أعلن الرئيس الأميركي المنتخب، جو بايدن، أن الولايات المتحدة جاهزة لقيادة العالم، فيما بدا تقديما لوزير خارجيته، أنتوني بلينكن، الذي تحتفي به أوساط الحزب الديمقراطي بوصفه المفتاح الذي ستستطيع من خلاله إدارة بايدن فتح الأبواب التي أغلقتها إدارة ترامب في علاقات أميركا الدولية. ولكن، هل مشكلة أميركا، في علاقاتها مع العالم، تنحصر أساسا بالأدوات، أو حتى بالمناهج المتبعة في إدارة هذه العلاقات؟ وهل يستطيع بايدن، بنيّاته وإرادته فقط، إعادة أميركا إلى موقع القيادة العالمي؟
العالم الذي يقصده بايدن هو الذي كان عشية فوز باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية عام 2008. وأن المعايير التي يتخذها (بايدن) للحكم على قدرة أميركا على قيادة العالم وقبول هذا العالم بهذه القيادة، هي قدرة تلك الإدارة على إنجاز تسوياتٍ تحوز على رضى مختلف الأطراف، مثل الاتفاق النووي مع إيران 2015، واتفاق نزع سلاح بشار الأسد الكيميائي، مع روسيا، 2013، وتفاهمات كيري – لافروف 2016، التي أعطت الضوء الأخضر لروسيا لتدمير المعارضة السورية بمختلف الوسائل والطرق.
تعتقد إدارة بايدن أنها بتنصيب بلينكن، وزيراً للخارجية، وهو المعروف بدماثته وروحه المرحة، وتأييده التعدّدية، تستطيع إنهاء حرد العالم من أميركا
تعتقد إدارة بايدن، وهذا واضح من تصريحات فريقه في أثناء الحملة الانتخابية، أن المشكلة تكمن في بعض سلوكيات ترامب التي افتقدت للدبلوماسية، في غالب الأحيان، غير أن ترامب أيضاً كان يعتمد على فريقٍ يمتلك خبرة سياسية رفيعة، وجميع أعضاء فريقه كانوا من أبناء المؤسسات الأميركية، من وزراء خارجيته، ريكس تيلرسون ومايك بومبيو، إلى مستشاره للأمن القومي، روبرت أوبراين. كما أن فجاجة ترامب ونزقه كان سببهما، بدرجة كبيرة، الأعطاب التي خلفتها إدارة أوباما في السياسات الداخلية والخارجية، وعبّر عنها من خلال إلغائه اتفاقياتٍ كثيرة عقدتها إدارة أوباما العسكرية والتجارية التي رأى أنها ليست في مصلحة بلاده.
وتعتقد إدارة بايدن أنها في المبالغة بالدبلوماسية، وتنصيب بلينكن المعروف بدماثته وروحه المرحة، وكذلك بأنه من أشد مؤيدّي التعدّدية، تستطيع إنهاء حرد العالم من أميركا، وفتح صفحة جديدة في العلاقات، ومن ثم العودة إلى المقعد الأول في قيادة العالم، الذي لم يزل محفوظاً، وفي انتظار بايدن وفريقه.
ما يشجع إدارة بايدن على هذا الاعتقاد أنه في فترة ابتعاد واشنطن عن قيادة العالم، واتخاذ إدارة ترامب سياساتٍ شبه انعزالية، لم تظهر قوّة دولية، ولا حتى محور دولي، يتفوّق على القوّة الأميركية، أو حتى يوازيها ويقترب منها، ولا توجد مؤشّرات على ظهور هذه القوّة في وقت قريب، على الرغم مما يقال عن الصعود الصيني والتمرّد الروسي، إلا أنه ما زالت ثمّة مسافة كبيرة تفصل الصين عن الحلول محل الولايات المتحدة الأميركية، تؤكدها المعطيات الاقتصادية، ويعزّزها عدم جاذبية النموذج الصيني، وكذلك ادعاءات روسيا المزيفة عن قدراتها العسكرية والتقنية.
في فترة ابتعاد واشنطن عن قيادة العالم، واتخاذ إدارة ترامب سياساتٍ شبه انعزالية، لم تظهر قوّة دولية، ولا حتى محور دولي، يتفوّق على القوّة الأميركية
غير أن ذلك ليس مبرّراً مكتفياً بذاته، لتعتقد إدارة بايدن أن الزمن الدولي ما زال يقف مكانه منتظراً عودة أميركا إلى قيادته، حيث تشكّلت، منذ بداية الألفية الجديدة، زمن حكم المحافظين الجدد أميركا، توجهاتٌ عالميةٌ جديدةٌ وأوضاعٌ مغايرةٌ أثبتت فشل رؤية فرانسيس فوكوياما، عن سيادة النمط الأميركي عالمياً، وإغلاق التاريخ صفحاته عند هذه الواقعة، وكانت هذه الرؤية قد أبهرت المحافظين الجدد، وجعلتهم ينامون على وسائد من حرير، مطمئنين على تسيدهم العالمي في كل الأحوال والظروف.
ما لم تنتبه إليه النخب الأميركية، من ديمقراطيين وجمهوريين، أن العالم لم يجلس، طوال السنوات السابقة، ينتظر عودة أميركا إلى رشدها، على ما يحاول الديمقراطيون، بقيادة بايدن، تصويره، باعتبار أن ترامب كان يتصرّف خارج سياق المنطق والعقلانية، حيث طوّرت دول ومحاور عديدة بدائل لقيادة الولايات المتحدة، وحتى التي كانت ترتبط بواشنطن باتفاقيات أمنية وعسكرية، مثل أوروبا وجنوب شرق آسيا، بدأت بتطوير مقاربات جديدة لتجاوز هذه الإشكالية، وفي الغالب الاعتماد على بدائل محلية، مثل الجيش الأوروبي الذي بدأ الحديث يتزايد عنه للحلول مكان القوات الأميركية في أوروبا.
ما لم تنتبه إليه النخب الأميركية، من ديمقراطيين وجمهوريين، أن العالم لم يجلس، طوال السنوات السابقة، ينتظر عودة أميركا إلى رشدها
وحتى في الشرق، يمكن ملاحظة زحمة التحالفات القائمة في المنطقة، وقد قطعت شوطاً لا بأس به من التنسيق والتعاون وصناعة الأطر والهياكل التحالفية، وجميعها بمثابة بدائل عن الوجود الأميركي، وتجد فيها أطرافها الفعالية، كما تجنّبها ابتزاز الإدارات الأميركية ومزاجياتها، وهنا يمكن الحديث عن تحالفات قطر وتركيا، وإسرائيل وبعض دول الخليج.
ومؤكّد أن سياسات الإدارات الأميركية، على مدار العشرين سنة الأخيرة، تسببت بتراجع المكانة الرمزية لأميركا، ولم يعد ممكناً إصلاح هذا العطب، لا باللياقة الدبلوماسية المبالغ بها، ويسعى الديمقراطيون إلى تجريبها، ولا بالفظاظة المبالغ بها أيضاً، والتي جرّبها الجمهوريون وقائدهم ترامب. وفي الغالب، تغيّر العالم كثيراً، بحيث لم تعد هذه الآليات وحدها كافية لتعلقه بأميركا والسير خلفها، وسيكتشف الكهل بايدن أن جاهزية أميركا لن تجد الصدى المطلوب للسير خلفها.
غازي دحمان
العربي الجديد