ضغوط شعبية: لماذا بات ترشيد الفساد مسألةً ملحةً بإقليم الشرق الأوسط؟

ضغوط شعبية: لماذا بات ترشيد الفساد مسألةً ملحةً بإقليم الشرق الأوسط؟

3847

لفتت التظاهرات الشعبية التي شهدتها العراق في أغسطس 2015، احتجاجًا على انتشار الفساد بمؤسسات الدولة ونقص الخدمات العامة، النظر إلى ممارسات الفساد المتفاقمة في عدد من دول الشرق الأوسط، وضرورة اعتماد استراتيجيات واسعة النطاق ومحددة الآجال، لتطويق الفساد ومكافحته، لا سيما وأنها تسببت في تداعيات سلبية على المستوى الاقتصادي والتنموي والاجتماعي والسياسي، مما تسبب في تصاعد المطالب الشعبية بوقف ممارسات الفساد، وملاحقة مرتكبيه، بيد أن هذه الاستراتيجيات ما زالت منقوصة، وتحتاج إلى مزيد من المراجعات، واستحداث آليات أكثر فعالية، لمواجهة التحديات التي تقف أمامها، سواء على المستوى السياسي أو التشريعي أو التنظيمي.

تصنيف متراجع:

تصاعدت ممارساتُ الفساد في عددٍ من دول الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، وسط تصدع الاستقرار السياسي، وتغير الحكومات، واحتدام عنف الصراعات المسلحة، واحتل عدد منها مراتب متأخرة في مؤشر مدركات الفساد لعام 2014، الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية.

شكل (1): ترتيب دول منطقة الشرق الأوسط في مؤشر مدركات الفساد 2014

المصدر: منظمة الشفافية العالمية.

فمن بين 175 دولة، جاءت العراق في المرتبة 170 عالميًّا، وليبيا في المرتبة 166، ضمن أكثر 10 دول فسادًا في العالم، وتراجع ترتيب لبنان من 127 عام 2013 إلى 136 في عام 2014، وترتيب تونس من 77 إلى 79، وترتيب الجزائر من 94 إلى 100، بينما بفعل اتخاذ بعض الإجراءات الإصلاحية بشأن مكافحة الفساد تحسن ترتيب المغرب من 91 عام 2013 إلى 80 عام 2014، والأردن من المرتبة 66 إلى المرتبة 55.

تبعات ضاغطة:

انعكست المؤشرات المتصاعدة للفساد في تداعيات سلبية على مستوى الاقتصاد الكلي، وخطط التنمية الاقتصادية، وانعدام الرضا لدى المواطنين عن الأداء الحكومي، ويتضح ذلك فيما يلي:

1- احتجاجات شعبية: شهدت بعض دول المنطقة مظاهرات عديدة احتجاجًا على ممارسات الفساد، على غرار العراق وتركيا ولبنان، حيث طالب المحتجون العراقيون بمحاصرة وقائع الفساد في مؤسسات الدولة، والتي نجم عنها تردي الخدمات العامة، لا سيما الكهرباء، داعين في الوقت نفسه إلى الكشف عن المسئولين ومعاقبتهم. وسبق هذه الواقعة بسنتين تقريبًا مظاهرات في تركيا، احتجاجًا على اتهامات فساد وُجِّهت لمسئولين بحزب “العدالة والتنمية” وبعض الوزراء في الحكومة التركية حينئذ. وخلال شهر أغسطس الجاري، تصاعدت تظاهرات شعبية بلبنان جراء زيادة حدة مشكلة النفايات بالمدن اللبنانية، حيث اتهم المحتجون اللبنانيون مسئولي مؤسسات الخدمات العامة بالفساد والإهمال.

2- تسربات مالية: لا شك أن تحسين الأوضاع المعيشية كان أحد المحركات الرئيسية للثورات العربية في عام 2011. وتحددت مطالب الشعوب الثائرة في توفير الخدمات الأساسية والوظائف، وتزامن ذلك مع بعض المطالبات الشعبية بتكثيف الجهود في مواجهة الفساد المستشري على المستوى العام والخاص على حد سواء. هذه المطالب لم تترجم بعد إلى جهود حقيقية في مكافحة الفساد في دول الثورات العربية أو بقية دول منطقة الشرق الأوسط. لذا، ليس مستغربًا أن تذهب بعض التقديرات العربية إلى أن حجم الفساد في المنطقة العربية يتراوح ما بين 300-400 مليار دولار سنويًّا، وهو ما يقود بطبيعة الحال إلى تقويض النمو الاقتصادي لدول المنطقة، وعدم قدرتها على ضبط المالية العامة. والوضع الاقتصادي المترهل في المنطقة في الوقت الراهن ربما لا يسمح طويلا بهذه التسربات، حيث أصبحت الضغوط المالية أمام الحكومات أكبر وأقوى مع تصاعد الاضطرابات السياسية، وتراجع الأسعار العالمية للنفط، بما يدعو الحاجة إلى اتخاذ تدابير تقشفية، وخفض الإنفاق، لا سيما في الدول النفطية.

3- ضعف جودة الخدمات: ارتبط انتشار الفساد داخل أجهزة الدولة بضعف أداء منظومة الخدمات العامة، ومن ثم بعدم رضا المواطنين عنها. ومؤخرًا شهدت كلٌّ من العراق ولبنان مظاهرات واسعة جراء ضعف منظومة الخدمات العامة، سواء في العراق بسبب أزمة الكهرباء الممتدة منذ سنوات، أو أزمة القمامة في لبنان. كما يكشف تحليل نشرته منظمة الشفافية الدولية، في ديسمبر 2014، عن أن الجيش العراقي أضاع أموالا ضخمة من التمويل الذي تَحَصَّل عليه من الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بإعطاء مرتبات لجنود وهميين، بينما تدهورت قدرة الجيش على أداء دوره في حماية أراضي الدولة، ومواجهة تنظيم “داعش”. فيما لم تَسْلَمْ إدارة المورد الرئيسي للبلاد -كالنفط في الجزائر- من ممارسات الفساد، واتُّهم عدد من المسئولين الجزائريين في شركة “سوناطراك” الحكومية في غضون السنوات الثلاث الماضية بعقد صفقات مشبوهة مع مجموعة من الشركات الأوروبية أو المتعددة الجنسيات مقابل عمولات ورشاوى.

4- بيئة أعمال غير جاذبة: من الملفت أن الدول التي تتسم بمؤشرات فساد عالية، غالبًا ما تتسم بيئة أعمالها بكثير من القيود على ممارسة الأعمال، وتغييب أسس المنافسة السليمة، لذا في أغلب الأحوال تحتل هذه الدول مراتب متأخرة في مؤشرات ممارسة الأعمال الصادر عن البنك الدولي. وفي مؤشر البنك الدولي لعام 2014 جاءت ليبيا في المرتبة 188 من بين 189 دولة، والعراق في المرتبة 156، والجزائر في المرتبة 154، ولبنان في المرتبة 104. ويؤكد النتيجة السابقة ما جاء في دراسة صدرت في أغسطس الجاري بواسطة البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، حول بيئة أعمال بعض بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ حيث توصلت الدراسة إلى أنه من بين عقبات كثيرة أمام ممارسة الأعمال بالمنطقة، جاء الفساد كثاني أهم العقبات الرئيسية لممارسة الأعمال بعدد من بلدان منطقة الشرق الأوسط (المغرب، ومصر، وتونس، والأردن)، وإن تفاوتت مرتبة عقبة الفساد في كل دولة على حدة. وإحصائيًّا، بحسب الدراسة، كانت نتيجة مخيبة للآمال للغاية أن الشركات التونسية تدفع 2.7% من إيراداتها السنوية للمدفوعات غير الرسمية (كالرشاوى) من أجل تسيير أعمالها، وهي النسبة الأعلى في البلدان التي شملتها الدراسة. فيما كانت نسب الدول الأخرى (مصر، والمغرب، والأردن) أقل من 1%.

5- جهود المكافحة: وبنظرة سريعة، شرعت عدد من الدول في المنطقة في إعادة ترميم بنية جهود مكافحة الفساد. وكانت البداية عندما أعلنت بعض تلك الدول وضع استراتيجيات جديدة لمكافحة الفساد، وفي هذا الصدد، أقرت الحكومة العراقية مؤخرا إزاء التظاهرات الشعبية حزمة من الإصلاحات تشمل إصلاح النظام المالي والإداري والرقابي. فيما وضعت الحكومةُ المغربية بالفعل في نهاية 2014 استراتيجية جديدة تحت عنوان “استراتيجية محاربة الرشوة”، لضمان تنفيذ خطة لمكافحة الفساد تشمل وضع إطار تشريعي وتنظيمي يضمن ضبط الجناة، ووضع نظام أكثر سهولة للشكاوى، وكذلك آليات جديدة تضمن سرعة تنفيذ الأحكام القضائية. فيما بتونس، يجري التنسيق والمشاورات مع المجتمع المدني لإطلاق الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد. والخطوة الأهم بتونس، أنها بصدد سن تشريعات جديدة لمكافحة الفساد، أهمها ما يتعلق بالتصريح عن الذمة المالية، ومكافحة الإثراء غير المشروع، والنفاذ إلى المعلومات. بينما في الأردن تم اعتماد الميثاق الوطني للنزاهة في 2013، وحاليًّا تعمل على مشروع قانون جديد لإنشاء المركز الوطني للنزاهة.

والخلاصة.. مثل هذه الجهود لمكافحة الفساد تبدو طموحة إلى حد كبير لوقف ممارسات الفساد بدول المنطقة، ولكن عمليًّا، يبقى تفعيلها مرتبطًا بعوامل ذات درجة قصوى من الأهمية لتعزيز تنفيذها. ويحتاج الأمر إلى استراتيجة تقوم على سياسات تكاملية، تعمل على إعطاء ضمانات وسلطات أكبر للأجهزة الرقابية، وتفعيل العدالة الناجزة، والنفاذ إلى المعلومات الدقيقة والمحدثة، وضمان شفافية الإنفاق الحكومي، والحد من البيروقراطية والإجراءات، وأخيرًا نشر التكنولوجيا الذكية المساعدة على كشف ممارسات الفساد.

المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية