لم يعد سرّا أن الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة جو بايدن ستكون مختلفة عن سابقتها. تؤكّد ذلك التصريحات التي تصدر بين حين وآخر عن الرئيس المنتخب الذي يعتبر أن عليه إصلاح الكثير في الداخل الأميركي معددا مآخذه، التي لا تُحصى في كلّ المجالات، على تركة دونالد ترامب. سيسعى بايدن أوّلا إلى معالجة ما يعتبره الانقسامات، بين الأميركيين أنفسهم، التي تسببت بها إدارة سلفه. سيعالج آثار وباء كورونا (كوفيد – 19) وسيعالج الوضع الاقتصادي، على الرغم من ظهور بوادر تعاف في الأسابيع القليلة الماضية…
لكنّ السؤال الذي سيطرح نفسه، في المدى المنظور، إلى أيّ حدّ ستكون الإدارة الجديدة مختلفة على الصعيد الخارجي؟
الثابت أن الإدارة ستمضي فترة طويلة في التركيز على الوضع الداخلي الأميركي. سيأتي بعد ذلك دور الخارج. من خلال التصريحات والمواقف الصادرة عن بايدن وكبار مساعديه، يبدو أن الصين، بما تشكّله من تحدّ، تظلّ الاهتمام الشاغل للإدارة الجديدة. أمّا كيف مواجهة الخطر الصيني على الولايات المتحدة، فهذا أمر متروك، حسب ما قاله بايدن وكبار مساعديه لتشكيل تحالف واسع من أجل تحقيق هذا الغرض. من هنا، بدأت الجهود الهادفة إلى إعادة مدّ الجسور مع أوروبا وإعادة الاعتبار إلى حلف شمال الأطلسي الذي سعت إدارة ترامب إلى تهميشه.
من بين الأمور التي ستتصدّى لها الإدارة الجديدة، بالتفاهم مع أوروبا، يأتي لاحقا موضوع إيران. يتبيّن كلّ يوم أكثر أن هذا الموضوع يحتاج إلى تفاهم أميركي – أوروبي جديد، حتّى لو وُجد في الماضي نوع من الخطوط العريضة لمثل هذا التفاهم.
لافت أن الرئيس الأميركي المنتخب حرص في حديث إلى “سي.أن.أن” على مهاجمة دونالد ترامب بسبب تمزيقه الاتفاق في شأن الملفّ النووي مع إيران الذي تمّ التوصل إليه صيف العام 2015 عندما كان باراك أوباما لا يزال في البيت الأبيض. اعتبر أن ما فعله سلفه قرّب إيران من الحصول على السلاح النووي. يمكن لوجهة النظر هذه أن تكون صائبة ولكن في حدود معيّنة. ففي اليوم ذاته الذي تحدّث فيه الرئيس الأميركي عن الخطأ الذي ارتكبه دونالد ترامب بتخليه عن الاتفاق، كانت تجري مراجعة أوروبية للموضوع من زاوية أكثر شمولا.
ليس كافيا أن يقول بايدن إن الولايات المتحدة لن تسمح لإيران بامتلاك السلاح النووي. هناك ما هو أبعد بكثير من هذا السلاح النووي. هناك السلوك الإيراني في المنطقة والعالم وهناك الصواريخ الباليستية التي بدأ الأوروبيون، خصوصا فرنسا وألمانيا، يركّزون عليها.
ما الذي تستطيع إيران عمله بالسلاح النووي غير إدخال المنطقة في سباق تسلّح لا أفق له يتّسم بالخطورة. أن يكون لدى إيران سلاح نووي، سيعني أن مصر والمملكة العربية السعودية وتركيا ستفعل كلّ ما تستطيع لامتلاك مثل هذا السلاح بأيّ ثمن كان.
ما يفترض في جو بايدن الاقتناع به أن المشكلة مع إيران ليست في سلاحها النووي وليس في ادعائها بأنّ لدى إسرائيل ترسانة نووية. كلّ ما فعلته إيران، منذ الثورة التي أطاحت الشاه في العام 1979 وقيام “الجمهورية الإسلامية” وفق ما كان يريده آية الله الخميني، هو المتاجرة بفلسطين. خدمت إسرائيل من حيث تدري أو لا تدري…
ضمت إسرائيل هضبة الجولان السورية وجعلت من القدس الموحّدة عاصمة لها واستطاعت جعل الولايات المتحدة تنقل سفارتها إلى المدينة المقدّسة التي كان مفترضا بالقسم الشرقي منها أن يكون عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلّة. لن يقدّم حصول إيران على السلاح النووي أو يؤخّر في شيء. المسألة في مكان آخر. المسألة تتجاوز الملفّ النووي. من هذا المنطلق هناك حاجة إلى طرح السؤال البديهي: هل إيران دولة طبيعية أم لا؟
هذا السؤال هو الذي عاد الأوروبيون إلى طرحه خصوصا بعد اكتشافهم خطورة السلوك الإيراني في المنطقة واستخدام الحوثيين، وهم مجرّد أداة إيرانية، صواريخ باليستية تطلق من اليمن في اتجاه المملكة. قبل ذلك، أطلقت إيران صواريخ وطائرات موجّهة ألحقت أضرارا بحقول نفطية سعودية في ابقيق. كان ذلك في الرابع عشر من أيلول – سبتمبر 2019 وهذا ما أشار إليه الكاتب والصحافي الأميركي توماس فريدمان في مقال حديث له. لفت المقال إلى ما هو على المحكّ حقيقة مع إيران.
ليس عيبا الاعتراف بأنّه يستحيل التعاطي مع إيران سوى من زاوية أوسع بكثير من الملفّ النووي. كذلك، ليس عيبا الاعتراف بأنّ إدارة ترامب امتلكت ما يكفي من الشجاعة للاعتراف بأن لا فائدة من الاتفاق في شأن الملفّ النووي الذي وصفه الرئيس الأميركي الحالي بأنّه “أسوأ اتفاق من نوعه”. الاتفاق ليس سيّئا بحد ذاته. السيّء كيف استغلته إيران في إطار مشروعها التوسّعي.
ما قامت به إدارة ترامب كان نقطة تحوّل على غير صعيد، خصوصا أن الخطابات التي وضعت للرئيس الأميركي الذي سيغادر البيت الأبيض بعد شهر وأسبوعين كانت في غاية الدقّة بالنسبة إلى تحديد المشكو منه من إيران منذ احتجاز الدبلوماسيين الأميركيين في السفارة الأميركية في طهران 444 يوما ابتداء من تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1979.
لا مفرّ من الاعتراف بأن إدارة ترامب كشفت إيران. استطاعت ذلك بعد فرض عقوبات قاسية عليها. أظهرت هذه العقوبات كم أن الاقتصاد الإيراني هشّ. إضافة إلى ذلك تبيّن بعد اغتيال الأميركيين لقاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” في الثالث من كانون الثاني – يناير الماضي أن “الجمهورية الاسلاميّة” نمر من ورق. وهذا ما تأكّد بعد اغتيال الإسرائيليين للعالم النووي الإيراني البارز محسن فخري زادة.
باختصار شديد، هناك في تركة ترامب ما يستحق التوقف عنده وعدم الاكتفاء برفضه، اللهمّ إلّا إذا كان جو بايدن يرفض التعاطي مع الواقع، بما في ذلك أن هناك حربا إسرائيلية غير معلنة دائرة حاليا في سوريا وداخل إيران نفسها. هذه الحرب، التي تهدّد الاستقرار الإقليمي، جزء لا يتجزّأ من النظرة الجديدة إلى الملفّ النووي الإيراني، وهي نظرة بدأت أوروبا تقتنع بها. بدأت أوروبا تقتنع بأنّ الملفّ الإيراني يتجاوز القنبلة النووية وهو مرتبط بالصواريخ الباليسيتية والسلوك الإيراني في المنطقة.
لا شكّ أن ذلك سينعكس عاجلا أم آجلا على سياسات الإدارة الأميركية الجديدة التي تراهن أوّل ما تراهن على الجبهة الموحّدة مع أوروبا في مواجهة تحديات عدّة من بينها التحدّي الصيني.
العرب