ليست سابقة أن يلجأ اللبنانيون إلى الحوار، فهي عادة تكررت مع كل مفصل من مفاصل أزماته التي لا تعد ولا تحصى، حتى باتت عرفاً سياسياً يحكم الكثير من ضوابط اللعبة السياسية في الداخل ، التي غالباً ما تتناغم مع الضوابط الخارجية . والحوار في لبنان ليس أمراً لبنانياً بحتاً، بل ظهر في معظم محطاته مع مستلزمات ضبط إيقاع الأزمات الإقليمية المرتبطة به والتي تعبر في الواقع عن تداخل واضح بين مصالح الخارج والداخل.
منذ نهاية ستينات القرن الماضي، مروراً ببدايات الأحداث في السبعينات والحوارات لم تغب عن سياقات الحلول، إلى أن أخذت أشكالاً أخرى في الثمانينات مع مؤتمرات الحوار في لوزان وجنيف، وصولاً إلى الطائف والدوحة، وما بينهما من حوارات ومشاورات لأزمات فرعية داخلية.
واليوم، ثمة دعوة لإقامة حوار يقتصر على الكتل الممثلة في مجلس النواب، بعدما أخذ الحراك الشعبي أشكالاً أخرى، فتجاوز الشعارات المطلبية الحياتية إلى رفع شعارات استقالة الحكومة والنظام، ما يعني أن هذا الحوار المفترض انطلق تحت ضغط الشارع، فهل سيصل إلى نهاياته المفترضة ؟ أم أن الاحتجاجات الشعبية ستتجاوز الحوار وأطرافه، وبالتالي أخذ لبنان إلى مواقع أخرى؟
في قراءة سريعة لجدول أعمال الحوار ومدى تجاوب أطرافه أولاً، ومن ثم محاولة استشراف مواقف الفئات المحتجة ثانياً، يبدو أن كلا الطرفين، يرفع شعارات وجداول متشابهة، لكن لكل فئة غاية في نفس يعقوب. فالحوار المزمع يتدرج في شعارات الإصلاح وانتخابات رئاسية ونيابية، وقانون انتخاب، ومطالب مزمنة كاللامركزية والإنماء وغيرها، وهي في الواقع مطالب محقة ومطلوب إقرارها والعمل فيها، لكن الأمر لا يعدو كونه تعبيراً عن صور ومشاهد يتلطّى خلفها من يحاول الحفاظ على مصالحه ومكتسباته في السلطة، وأيضاً من يسعى إلى تغيير هذه السلطة ولو بوسائل تبدو سلمية، لكنه يعجز عن إبقائها كذلك، بفعل ممارسات السلطة التي تأخذ الحراك بيده إلى أماكن ربما لا يريدها.
فأصل الموضوع، أي الحوار، هو شرط ضروري لفهم المشكلة والولوج في حلها، لكنه شرط غير كافٍ في ظل معطيات ووقائع ربما تجاوزت السلطة والمحتجين معاً، وبالتالي فإن التوصل إلى قواعد حل ما، يبدو أمراً مستبعداً، إلا إذا تمكن من يدير الاحتجاجات من تسييرها وتصويبها ضمن أطر واقعية قابلة للحل، وهو أمر يبدو متعذراً أيضاً، في ظل عدم وجود أطر حزبية أو نقابية تمتلك القدرة على إعادة إنتاج وقائع جديدة لجذب الشارع مجدداً، ذلك أن أغلبية الشعب اللبناني، لم تعد تنظر بعين من الارتياح لأي حزب أو تيار، نتيجة الممارسات التي سادت سابقاً.
في المحصلة، يبدو أن الحوار المزمع، لن يكون إلا تاريخاً يُضاف إلى تواريخ سابقة، ستليها موجات من العنف الداخلي، الذي يعرف الخارج كيف يلتقط أدواته، ويعرف أيضاً كيف يستثمر فيه داخلياً وإقليمياً، وهو أمر بات من ثوابت إدارة الأزمات الوطنية اللبنانية. لكن، وعلى أي حال من الأحوال، لا يعني ذلك بالضرورة الوقوف مكتوفي الأيدي كأنه قدر بقدر، ثمة مخارج ليست بالضرورة أيضاً مكلفة، إذا صفت النيّات لدى السلطة، وكذلك لدى معارضيها في الشارع، فإسقاط الحكومة والنظام لا يحل المشكلة في ظل فراغات دستورية يأتي في مقدمها رئاسة الجمهورية، بل يمكن البدء بإعادة تكوين النظام، عبر خيارين، الأول اقتناع السلطة أنها باتت أمام مأزق حقيقي، وبالتالي الدعوة أولاً، إلى انتخاب مجلس نيابي جديد، ومن ثم رئيس للجمهورية في ظل القانون الانتحابي المتوفر حالياً، وهو الأكثر إقناعاً والأقل تكلفة من الناحية السياسية والمطلبية، أو توصّل المتحاورين إلى اتفاق حول اسم لانتخابه رئيساً للجمهورية، ومن بعدها يعمل على إعادة تكوين السلطة مجدداً بعد انتخابات نيابية جديدة.
مصيبة لبنان الكبرى أن هناك رؤوساً حامية، لا تدرك خطورة ما يجري، ولا تفقه شيئاً في إدارة الأزمات، وهي نفسها تأخذ البلد إلى أماكن شهدنا فيها أسوأ مظاهر الفوضى والتطرف، وهو أمر شبه محتم، إذ إن الحوار يبدو كحوار الطرشان، والآخرون لكل منهم، غاية للتي في نفس يعقوب.
د.خليل حسين
صحيفة الخليج