مقتدى الصدر.. العُقدة والتنفيس

مقتدى الصدر.. العُقدة والتنفيس

جاهل، وسطحي، وأمّي، صفات تلحق بمقتدى الصدر رغم كل محاولاته للظهور بعكس ذلك، ليس لأنه كان أقل أقرانه تعليما في بيت محمد صادق الصدر، بل لأن مسالكه وتصريحاته وتناقضاته ظلت تدل عليه من دون الحاجة إلى أيّ دليل آخر.

وحيثما يقترن الجهل بالمال والسلاح، فإن الهمجية هي وجهه الآخر دائما. وكانت مشاهد اغتيال عبدالمجيد الخوئي، عام 2003، رجل الدين الشاب الذي ينتمي إلى أسرة دينية منافسة، قد قدمت مؤشرات أولى عن طبيعة تلك الهمجية. فالرجل قُتل طعنا وضربا وسط حشد من حملة السكاكين حتى خرّ صريعا يسبح في بركة من دمه.

وبقيت الجريمة تلاحق الصدر إلى يوم الناس هذا، سوى أن الاحتلال الأميركي وسلطاته آثرت أن تُبقي الجريمة كسيف مسلّط على رأسه، من دون أن تستخدمه.

وهذا ما ظلّ يفسر السبب وراء مواقفه الخنوعة تجاه الوجود الأميركي في العراق، وهو ما دفعه إلى أن يحلّ جيش المهدي التابع له أكثر من مرة أو أن يزعم أنه قوة غير مسلحة، أو يقوم بتشكيل كتائب جديدة كلّما لحقت بكتائبه الأخرى جرائم قتل.

والسكاكين هي السلاح الأثير للغوغاء الذين يعتمد عليهم الصدر. وهم كثيرا ما يستعملونها للطعن بعد أن يتسللوا في صفوف المتظاهرين، ويشاركونهم الهتاف، وفي لحظة متفق عليها، تبدأ المجزرة، ليتساقط الضحايا وسط حيرة الآخرين.

هذا النمط من الوحشية لم تبلغه داعش نفسها، لأن هذا التنظيم يقتل جهارا نهارا، سوى أن أنصار الصدر يقتلون بالخفاء وبالتسلل، ليجسدوا نمطا من السادية يجمع بين الخسّة واشتهاء الدم.

ويريد الصدر أن يصبح هو، أو واحد من القتلة في جواره، رئيسا للوزراء. وذلك بافتراض أنه قادر على ذلك بفضل ما لديه من غلبة حاليا في مجموعة “البيت الشيعي” التابع، بأحزابه وميليشياته، للحرس الثوري الإيراني.

والموقع الذي يحتله الصدر في اللعبة التي صممتها إيران، هي أنه “مُعارض”، بينما الآخرون يتولون السلطة. والغاية من هذه اللعبة، السخيفة على قدر سخافة مُصمميها، هي أن تمتص ذلك الجانب من “الجماهير” الذي لا تقدر أحزاب السلطة أن تمتصه، وبالدرجة الأولى منه حثالة الحثالة.

وظل الصدر يلعب هذا الدور لسنوات عدة، حتى ظنّ أن الناس انخدعوا به وصدقوه. وذلك بينما كان يقتسم النهائب مع باقي أفراد العصابة في ذلك “البيت الشيعي”.

وبحسب الكثير من الدلائل فإن النهائب لم تكن لتقتصر على ما يتم الاستيلاء عليه من العقود الوهمية والامتيازات وجيش الموظفين والعسكريين “الفضائيين” (الذين لا وجود لهم، ولكن تُصرف رواتبهم)، ولكنها امتدت إلى تقاسم الحصص في المعابر غير الشرعية ورعاية نوادي القمار ومحلات بيع الخمور وإدارة نظام زواج المتعة وباقي بيوت الدعارة. وذلك حتى تمكن “البيت الشيعي” من أن يكون بيتا جامعا مانعا في كل شيء، وملمّا بكل مصدر من مصادر المال.

وبحكم دوره كـ”مُعارض”، فلا شيء أشق على الصدر من أن يرى متظاهرين لا يقعون تحت خيمته (ولا يتأبطون السكاكين). فذلك ممّا يطعن بسبب وجوده أصلا، ويقدمه أمام مصممي السخافة في إيران كشخص فاشل. وهذا كاف بحد ذاته إلى أن يجعله يشعر بأن دائرة صفات “الجهل والسطحية والأمية” عادت لتدور عليه. فيزداد وحشية، ويدفع غوغاءه إلى أن يرتكبوا المزيد من الجرائم، إنما على سبيل الانتقام الشخصي لتسديد عُقد النقص فيه وفيهم.

والمرء لا يُصبح وحشيا، أو من حملة السكاكين، من دون أميّة تجمع بين انحطاطين على الأقل: أخلاقي واجتماعي.

وبالرغم من أن مقتدى الصدر من أسرة دينية كانت تحتل مكانة موازية للأسر الدينية الأخرى في الطائفة الشيعية، إلا أن تاريخ هذه الأسرة ظل قادرا، على فترات متفاوتة، وبالقليل من الاستثناءات، على أن يُقدم الجهل، والدجل، والعمالة، والخساسة، حتى انتهى أمرها بيد مقتدى الصدر.

وكان غوغاء جدّه محمد مهدي الصدر، يُجبرون التجار في سوق “الاستربادي” بالكاظمية، على أن يخرجوا من محلاتهم، لكي يكبروا ويقولوا “اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد” كلما مرّ من السوق. ويا ويل الذي يمتنع.

وظل من المعتقد أن جدّ الصدر ذاك كان عميلا للإنجليز بسبب مواقفه المناوئة للحركة الوطنية العراقية، ويتلقى الأموال منهم، مثلما صار غيره من “آيات” الغزو الأميركي يتلقون الأموال من بول بريمر. وحيث إن مقتدى قد صار ملك الغوغاء وصاحب خيمة المعارضة، فإنه لا يقبل منافسا، ويتعين أن يُصلّى عليه كلما وجد نفسه وسط الرعاع.

ولكن اللعبة التي انتهت إلى فضح باقي أركان “البيت الشيعي” وغرقه في ما يعرفه كل الناس، تجعله الوحيد الباقي ليأخذ حصته من السلطة، وأن يدور الآخرون بكراسيهم إلى الجهة الأخرى ليكونوا هم “المعارضين”، فدعاهم في تغريدة له، إلى كتابة ميثاقين، “عقائدي وسياسي” وترميم “البيت الشيعي”، وهو ما يعني وضع اتفاق مسبق على تقاسم الحصص والمنافع على طول المسافة من قيادة الحكومة إلى البيوت التي…

وفعل الصدر كل شيء من أجل الإطاحة بانتفاضة تشرين، وكان لا يكره فيها شيئا أكثر ممّا يكره ساحة التحرير، حتى تمكّن بالتواطؤ مع مأموره مصطفى الكاظمي على تجريف الساحة التي رفضت رعاعه وقاومت متأبطي السكاكين من غوغائه. فظن أن الأمور تمهدت لكي يقدم نفسه كبديل، فأعلن أنه هو من يجب أن يكون رئيس الوزراء، أو واحدا من تياره.

وصفات الجهل والسطحية والأمية، تنغزُ العقدةَ وتُدميها في نفسه كل يوم. فبينما يعرف أنه يريد المنصب، وأن هذا المنصب في عراق الاحتلال استذل لمن هم ليسوا أقلّ جهلا ورعاعية من أركان بيت التبعية لإيران، فإنه يخشى ألّا يجد نفسه كفؤا لذلك، لأنه لا يجيد حتى أداء الدور، ويميل بحكم طبعه إلى أن يمارس حماقات، قد يسترها موقعه الراهن ولكن لا يسترها منصب رئيس الوزراء.

وعندما تجددت الانتفاضة، وبرزت في محافظة ذي قار، وانتقلت من ساحة التحرير إلى ساحة الحبوبي، فقد دفع أنصاره لكي يستأنفوا ما جربوه في بغداد.

ولكن تحيط بالمتظاهرين في الناصرية عشائرهم. وهذه مشكلة. وبوسعها أن تطرد كل السلطة وكل أتباع الولي الفقيه، بين ليلة وضحاها. إلّا أن شباب التظاهرات لا يريدون أن تقع مجزرة، لأنهم يعرفون طبائع السادية التي يصدر عنها رعاع “البيت الشيعي”، فتقدموا بمبادرة سُميت “مبادرة ساحة الحبوبي” تدعو إلى “عقد مؤتمر للحوار الوطني بإشراف الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وحماية المتظاهرين من الاغتيالات، والكشف عن مصير المختطفين، ومحاكمة المسؤولين عن قتل المتظاهرين”.

الرمزية في مبادرة “ساحة الحبوبي”، هي أنها “ساحة تحرير” أخرى. حتى لكأنها تقول إن كل ساحات العراق هي ساحة تحرير وأن جذوة انتفاضة تشرين التي ظن الصدر أنه قادر على إطفائها، سوف تظل تتقد، بالرغم من كل ما يملك من سكاكين البطش والترويع.

سوى أن الصدر الذي قاد أحد أكبر المجازر الطائفية في العراق بعد تفجيرات مرقدين من مراقد أئمة الشيعة في سامراء في فبراير العام 2006، سعى بعد ارتكابه مجزرة الناصرية إلى التحريض ضد متظاهري المحافظة بالقول إنهم “يعتدون على الله ويسيئون إلى المذهب الشيعي”. والتحليل النفسي لهذه العبارة يقول: إنهم يعتدون عليه، وإنهم ليسوا من شيعة العمالة لإيران. وذلك ممّا يَعدُ الناصريةَ بالويل والثبور إذا ما تولى الصدر منصب رئيس الوزراء. فمثلما استباح مساجد بغداد واجتاح أحياء السُنة فيها ليقتل من أهلها ما شاء، وأطلق غوغاءه ليستبيحوا سامراء، فإنه سوف لن يكتفي بأن يستبيح الناصرية بالسكاكين، بل بالمدفعية والصواريخ. تلك هي رئاسة الوزراء التي يريد.

ولسوف يقال إن ذلك مبالغٌ فيه. ولكن الانحطاط عندما يكون هو نفسه مُبالغا فيه، فإن شيئا لن يمنع الصدر من أن يرتكب أيّ مجزرة. فالجهل إذا ما اقترن بالمال والسلاح والسلطة، فإن الهمجية في أقصاها هي وجهه الآخر دائما.

يوم سبحَ عبدالمجيد الخوئي في بركة من دمه، أدرك الصدر، وكان في أول عهده، أن القتل هو التنفيس الوحيد. وصاحت العُقدةُ: يا مجد السكاكين.

العرب