بعد مرور عام على هجوم إطلاق النار على قاعدة بينساكولا الجوية التابعة للبحرية الأمريكية الذي نفذّه رجلٌ مسلّح نيابة عن تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» («القاعدة في جزيرة العرب»)، تواصل شبكة «القاعدة» الأوسع نطاقاً السعي وراء تنفيذ عمليات خارجية ضدّ أهداف غربية. ويقيناً، أنّ تنظيم «القاعدة» هو مشكلة يمكن التعامل معها في الوقت الحالي أكثر مما كانت عليه قبل عقدين من الزمن في أعقاب هجمات 11 أيلول/سبتمبر، حيث تركز فروع التنظيم حالياً وبشكل أكبر على التمرد الإقليمي ومشاريع الحوكمة المحلية، بينما تستمر حملات الطائرات بدون طيار وعمليات القوات الخاصة [الأمريكية] ضد كبار قادة التنظيم في تقييد عملياتهم. ويبيّن هذا الواقع، الذي تسارع في العقد الماضي، نجاحَ التركيز بمنظور أضيق على مكافحة الإرهاب مقارنةً بإخفاقات النهج القائم على الغزو/بناء الأمّة الذي شهدته السنوات الماضية.
ومع ذلك، فإن الادعاء بأنّ تنظيم «القاعدة» قد “فقد هيبته” أو أنّه “على وشك الاستسلام”، كما قال المسؤولون الأمريكيّون مراراً وتكراراً خلال إدارات متعددة، – ليس موقفاً مفيداً بالنظر إلى طبيعة الشبكة دائمة التطوّر. وكما حذر المدير السابق لـ “المركز الوطني الأمريكي لمكافحة الإرهاب”، راسل ترافرز، في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، فإن تنظيم «القاعدة» “يحتفظ بهيكل قيادة وستة من الجماعات التي تدور في فلكه، ونشهد تنامي الصلات والتنسيق بين الجماعات التي تدور في فلكه”. كما حذر البنتاغون من أن اهتمام تنظيم «القاعدة» في مهاجمة أهداف في الولايات المتحدة ودول غربية أخرى ما زال “مستمراً”. وفي الواقع، أوضحت حادثة بينساكولا بجلاء أنه على الرغم من النجاحات العديدة التي حققتها واشنطن في ردع المؤامرات على الأراضي الأمريكية وإحباطها، إلّا أن تهديد تنظيم «القاعدة» ليس أمراً يمكن لصناع السياسة التقليل من شأنه.
ما الذي علّمتنا حادثة بينساكولا عن عمليات تنظيم «القاعدة»
في 6 كانون الأوّل/ديسمبر 2019، أطلق محمد سعيد الشمراني، ضابط سلاح الجوّ الملكي السعودي الذي كان يشارك في برنامج تدريبي برعاية البنتاغون، النار على قاعدة بينساكولا الجوية التابعة للبحرية الأمريكية في منطقة “فلوريدا بانهاندل”، مما أسفر عن مقتل 3 أشخاص وإصابة 8 آخرين. وبعد شهرَين، نشر زعيم تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية»، قاسم الريمي، مقطع فيديو تبنّى فيه الهجوم. وتضمّن الفيديو إعلاناً بالاستشهاد كتبه الشمراني على تطبيق “نوتز” (Notes)على جهاز الآيفون الخاص به وأرسله إلى قيادة تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية».
وكان هذا الهجوم الأوّل الذي يتبنّاه تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» خارج الأراضي اليمنية منذ المجزرة التي نُفِذَّت في مقرّ المجلة الساخرة “شارلي إبدو” في باريس في كانون الثاني/يناير 2015. وعلى عكس هجوم باريس، جرى إطلاق النار في قاعدة بينساكولا “بتوجيهٍ” من تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» وليس “تحت قيادتها” – أي أن مرتكبي حادثة إطلاق النار على “شارلي إبدو” كانوا في اليمن وتدربوا مع تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» قبل شن هجومهم، بينما لم يكن الشمراني على اتصال بالجماعة سوى عن طريق الهاتف، الذي تلقى من خلاله تأكيدات ومشورة. أما تنظيم «الدولة الإسلامية» فقد استخدم هذا النوع من الهجوم الموجّه بفعالية أكبر على مدى السنوات الخمس الماضية، ولكن إذا استثمر تنظيم «القاعدة» وفروعه المزيد من الموارد في مثل هذه العمليات المُخطَّط لها، فقد يتمكّنون من استعادة سمعتهم في مجال تنفيذ العمليات الخارجية بعد أن تفوّق عليهم تنظيم «الدولة الإسلامية» في هذا الصدد.
التركيز محلي، ولكن الهدف لا يزال عالمياً
بالمقارنة مع الفترة الممتدّة ما بين أواخر التسعينيات إلى منتصف العقد الأوّل من القرن الحالي، يركّز تنظيم «القاعدة» حالياً على إطلاق حركات التمرّد ومشاريع الحوكمة المحليّة في العالم الإسلامي أكثر من تركيزه على التخطيط لتنفيذ هجمات في الغرب. ويعود ذلك إلى التطوّر الداخلي للحركة والفرص الأكبر التي أتيحت له لتحقيق هدفه النهائي وهو: إنشاء دولة إسلامية بناءً على تفسيره للشريعة.
وتسلّط النقطة الأخيرة الضوء على التحدّي المتعدّد المستويات الذي يشكّله تنظيم «القاعدة» وفروعه حالياً. فالشبكة هي أكثر من مجرد مشكلة إرهابية – فهي تمثل أيضاً تحدّياً أمنياً خطيراً لاستقرار البلدان التي تتعامل مع صراع مستمر. ويتنافس تنظيم «القاعدة» وفروعه حالياً مع السلطات الوطنية على الحوكمة والقضايا ذات الصلة، لا سيما في مالي والصومال، ولكن من المحتمل أيضاً في أفغانستان إذا سحبت الولايات المتحدة قواتها (وعلى وجه الخصوص، يقال إن تنظيم «القاعدة» لقّن حركة طالبان في أحدث مفاوضاتها مع واشنطن). إن السياسات الهادفة إلى تخفيف حركات التمرّد ومواجهة مشاريع الحوكمة الجهادية تتطلّب حلولاً مختلفة عن منع الهجمات المُحتمَلة ضدّ المصالح أو الأراضي الغربية. وإذا عجز المسؤولون الأمريكيّون عن فهم هذا التمييز، سيكون لتنظيم «القاعدة» مجموعة لا تنتهي من العملاء الجُدد القادرين على استبدال أولئك الذين قُتلوا في حملات الطائرات بدون طيّار.
إنّ سوء الفهم هذا متجذّر أيضاً في حقيقة أنّ النشاطات الإرهابية التي يقوم بها تنظيم «الدولة الإسلامية» ضدّ الغرب تزايدت بشدّة في السنوات الأخيرة في ظل ندرة الهجمات المماثلة على الصعيد الدولي من جانب تنظيم «القاعدة»، مما دفع بالحكومات إلى التركيز عن حق على تنظيم «الدولة الإسلامية». إلّا أنّ التهديد الذي تفرضه العمليات الخارجية لتنظيم «القاعدة» لا يتعلّق دائماً بالعمليات المخطَّط لها على الأراضي الأمريكية أو الأوروبية – على سبيل المثال، واصلت فروع تنظيم «القاعدة» شن هجمات كبيرة في “منطقة الساحل” (من قبل «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين») و”القرن الأفريقي” (من قبل “حركة الشباب الإسلامية”)، مما أسفر عن مقتل مدنيين في الفنادق والمراكز التجارية وكذلك مسؤولي الأمن في القواعد المحلية.
وبالإضافة إلى تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية» في اليمن، أظهر فرعان لتنظيم «القاعدة» الاهتمام الأبرز بالعمليات الخارجية على مدى السنوات القليلة الماضية، وهما “حركة الشباب الإسلامية” الصومالية وجماعة «حراس الدين» السورية (إلى جانب سابقتها، ما تسمى بـ “جماعة خراسان”، التي كانت جزءاً لا يتجزأ من «جبهة النصرة» الفرع السابق لتنظيم «القاعدة»). وبعد تأسيس تنظيم «حراس الدين» في شباط/فبراير 2018، ركز أعضاؤه بشكل أساسي على محاربة النظام السوري، لكن العديد من قادته الأصليين كانوا جزءاً من الشبكة التاريخية لتنظيم «القاعدة»، وبالتالي حافظوا على اهتمام شديد بمهاجمة الولايات المتحدة. ولهذا السبب استخدم البنتاغون خطاً ساخناً خاصاً للتواصل مع القادة الروس في سوريا هذا الصيف، وطلب السماح لـ “القوات الخاصة” الأمريكية بتنفيذ ضربات جوية ضد القادة المحليين لتنظيم «القاعدة» دون تدخل. وبالمثل، يواصل الجيش الأمريكي شن غارات جوية بطائرات بدون طيار ضد عناصر “حركة الشباب” في الصومال ويرجع ذلك جزئياً إلى استهداف الحركة الموسّع للأمريكيين في المنطقة وخارجها.
وفي غضون ذلك، يواصل تنظيم «القاعدة» سعيه للحصول على مصادر جديدة للدعم المالي الذي يمكن أن يعزّز قدرته على ضرب [أهداف في] الدول الغربية. وفي تشرين الأوّل/أكتوبر، أدرج “مكتب مراقبة الأصول الأجنبية” التابع لوزارة الخزانة الأمريكية أحمد لقمان طالب على لائحة الإرهاب، وهو تاجر جواهر مقرّه في أستراليا يُزعم أنّه متورّط في “أنشطة عملياتية وتسهيلية نيابةً عن جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة»”.
استشراف المستقبل
كانت الحملة عبر الطائرات بدون طيّار التي شنّتها الولايات المتحدة ضدّ شبكة تنظيم «القاعدة» ناجحةً بشكل خاص في عام 2020، وكان في صفوف القتلى شخصيات بارزة في التنظيم مثل أبو محمد المصري وحسام عبد الرؤوف وكذلك قادة وأمراء تنظيمات «القاعدة في جزيرة العرب» (قاسم الريمي) و «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» (عبد المالك دروكدال)، و «حراس الدين» (خالد العاروري). وقد يؤدّي هذا التحوّل الهام في أعلى الهرم إلى المزيد من عدم الاستقرار في هيكلية قيادة الشبكة، خاصةً وأن الاتصالات بين كبار القادة كانت أقلّ كفاءة لسنوات بسبب المخاوف الأمنية الناجمة عن حملات الطائرات بدون طيّار. ولكن إذا كان الماضي يمثل أي مؤشر، فمن المرجّح أن يقوم تنظيم «القاعدة» بتسوية هذه القضايا، وسيظهر أفراد جُدد للمضي قدماً بحمل الراية.
ويبقى السؤال التالي: هل سيواصل هؤلاء القادة الجُدد تركيز جلّ اهتمام تنظيم «القاعدة» على النزاعات الإقليمية/المحلية، أم سيعيدون توجيه المزيد من الموارد نحو تخطيط العمليات العالمية؟ إنّ السيناريو الأول هو الأرجح، فقد أتى بثماره في السنوات الأخيرة حيث رسّخ تنظيم «القاعدة» جذوره في عدد من المناطق. ومع ذلك، فإن نموذج الهجوم الموجّه الذي شوهد في قاعدة بينساكولا قد يضاعف قوّة التنظيم على نحوٍ لم يكن ممكنناً قبل السنوات القليلة الماضية، ويعود الفضل في ذلك جزئيّاً إلى تقنية التشفير المتاحة بسهولة والتي تساعد العملاء على التواصل بين بعضهم البعض مع مخاطر أقل للكشف في ظروف معيّنة.
لهذا السبب، على واشنطن أن تبني على نجاحاتها الأخيرة ضدّ قيادة تنظيم «القاعدة» بدلاً من تخفيف الضغط الذي تمارسه. كما عليها أن تعمل مع شركائها على إيجاد حلول أكثر استدامة للنزاعات الإقليمية العديدة التي لا تزال تفسح المجال للجماعات الإرهابية للعمل والتطور. ومن الواضح أنّ الحلول العسكرية ساعدت على تقليص العمليات الخارجية لتنظيم «القاعدة» على مدى العقد الماضي، لكن هذا النهج كان أكثر محدودية في مواجهة عمليات التمرّد وجهود الحوكمة التي يقودها الجهاديّون. وعلى الرغم من أنّ معالجة المشاكل المحلية المتعلّقة بسوء الحوكمة، والفساد، وانعدام الفرص، وانتهاكات حقوق الإنسان، وتدهور المناخ لن تقضي تماماً على المظالم التي يمكن لتنظيم «القاعدة» استغلالها، إلا أن مثل هذه الجهود قد تقلل من جاذبية الشبكة للعديد من الأشخاص الذين يرون أنها بديل للوضع الراهن المشتّت.
ماثيو ليفيت
معهد واشنطن