مع اقتراب الذكرى السنوية لمقتل قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، اللواء قاسم سليماني، سقطت صواريخ الكاتيوشا بالقرب من السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء ببغداد، الأحد الماضي، وألقت الولايات المتحدة باللوم على فصائل تدعمها إيران. وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، حذّر وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الرئيس العراقي، برهم صالح، من أنه إذا لم تتوقف هجمات الميليشيات، فإن الولايات المتحدة ستسحب موظفيها من السفارة في بغداد، وستستهدفها من دون تمييز، إضافة إلى خفض الجيش الأميركي قواته البالغ عددها 5 آلاف جندي، بناء على قرار الرئيس دونالد ترمب.
وهنا يثار التساؤل حول الظروف التي جعلت العراق ساحة للتجاذب بين إيران والولايات المتحدة، والدور الذي لعبته طهران لتحويل العراق منذ سقوط نظام صدام حسين، إلى كيان توظفه وفقاً لمصالحها.
بداية يجب الانتباه إلى أن العراق يعد الأولوية الأمنية لإيران، وله مكانة محورية في الفكر الاستراتيجي الإيراني، ومن ثم فإن محددات السياسة الخارجية الإيرانية في العراق تتأثر بالتنافس الإقليمي سابقاً بينهما، فالعراق هو الجار الذي تتشارك معه إيران أطول حدودها البرية، حوالى 1500 كيلومتر، كما أنه الدولة الوحيدة التي هاجمتها، وكان بمثابة مأوى للجماعات المعارضة المسلحة للنظام الإيراني، إضافة إلى أن هناك تشابهاً إثنياً واجتماعياً وثقافياً، ولذا كان قيام ثورة إسلامية تؤسس لنظام سياسي ثيوقراطي قد يمتد نفوذه إلى العراق والدول العربية، سبباً في بدء صدام حسين حرباً على النظام الإيراني، وهي الحرب التي فضلاً عن كونها سبباً في ما عاشه العراق من مآسٍ حتى الآن، تركت أثاراً عميقة في العقل والوعي الإيرانيين، سواء في علاقة إيران بمحيطها الإقليمي أو الدولي، أو في إدراكها للتهديدات التي تواجهها.
ومع سقوط نظام صدام حسين، نجحت طهران في توظيف الفرصة في إعادة تعريف دورها إقليمياً، وإعادة تشكيل الخريطة العراقية بما يتناسب ومصالحها القومية.
وعلى قدر ما أتاح العراق الجديد من فرص لتنامي الدور الإيراني، طرح تحديات سياسية وأمنية تمحورت حول أمرين، أولهما الوجود المباشر للقوات الأميركية على الحدود الإيرانية، واحتمالات إنشاء قواعد عسكرية أميركية جديدة، والتحدي الثاني يتمثل في التهديدات التي ظهرت من التغيرات الجيوسياسية، وتحول البيئة الأمنية والسياسية في المنطقة، فحددت إيران مصالحها في العراق حول الاحتفاظ بوحدة أراضي العراق وعدم تقسيمه، والتشجيع على وجود حكومة صديقة يسيطر عليها الشيعة، تحل القضايا بين البلدين لجهة المصالح الإيرانية، مثل توحيد مفهوم أمن الخليج والموقف من جماعة “مجاهدي خلق” والحدود بين البلدين واتفاق الجزائر، والأهم من ذلك الإبقاء على الولايات المتحدة منشغلة وفي وضع مرتبك في العراق.
وارتكزت السياسة الخارجية الإيرانية في العراق على محورين، الأول يتعلق بتأسيس الأمن فيه، والثاني في خلق فرص اقتصادية، ولذا سعت إيران منذ العام 2003 إلى استخدام استراتيجية متعددة الأبعاد لضمان تحقيق مصالحها الاستراتيجية، فعملت على إضعاف الدولة المركزية في أعقاب الغزو الأميركي، ووضع قيود على تضمين السُنة بشكل جدي في الحكم، وإنشاء الميليشيات وتسليحها وتدريبها.
وبناء على ما سبق، اتبعت إيران استراتيجية ذات ثلاثة مسارات متوازية، تقوم على بناء نظام سياسي حليف قائم على دعم العملية السياسية في العراق، والتشجيع على ديموقراطية الانتخابات كوسيلة لتمكين النخبة الشيعية، والترويج لخلق درجة من الفوضى بحيث تكون سهلة الانقياد، وذلك لإحداث اضطراب مطوّل ولكن قابل للسيطرة عليه، وهو ما أطلقت عليه الفوضى المدارة أو المنضبطة أو المحكومة، والاستثمار في مجموعة متنوعة من الفاعلين العراقيين المتنوعين (الشيعة والأكراد والسنة)، أي أنها وظفت أدوات ثلاثة لتحقيق مصالحها في العراق وتعميق نفوذها فيه، ومواجهة أية تحديات محتملة يمثلها العراق الجديد، إذ تمثلت هذه الأدوات في دعم حلفائها الشيعة، وتوظيف أدوات القوة الناعمة (الأيديولوجيا والتجارة)، وأخيراً تعزيز علاقتها بالأكراد.
وفي ما يتعلق بخلق نظام سياسي حليف، عملت إيران على تعزيز نفوذها السياسي في العراق من خلال آليتين، الأولى تتعلق بالتحكم في العملية السياسية فيه، والثانية تتعلق بدعم الميليشيات والجماعات الشيعية. أما في ما يخص توظيف أدوات القوة الناعمة، فتمثلت في محورين، الأول قائم على البعد الديني بين المجتمعين الإيراني والعراقي، والثاني يتعلق بالعلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين. وبالنسبة إلى العلاقات مع الأكراد، فدائماً ما حاول الأكراد تأسيس دولتهم الخاصة، ولكن عبر الأنظمة السياسية المختلفة، وتم رفض المطالب الكردية، وكان الهاجس الإيراني في شأن أكراد العراق أن تفككه قد يشجع أكراد كردستان على تأسيس دولتهم المستقلة، وهو من شأنه تشجيع أكراد إيران على الاستقلال عن الدولة المركزية الإيرانية، أو المطالبة بالحصول على حقوق ومزايا لم يتمتعوا بها من قبل، الأمر الذي تعده إيران خطاً أحمر.
وفي محاولة لتوسيع نفوذها في العراق، وثني أكراده عن الضغط من أجل الاستقلال، كانت إيران دائماً داعمة للقيادة الكردية للحصول على التمثيل السياسي المناسب في بغداد، إذ تخشى أن تدفع الميول الانفصالية باتجاه إضعاف الدولة المركزية، فوسعت من علاقاتها الاقتصادية مع الأكراد، وازدهرت التجارة والاستثمارات الإيرانية في السليمانية، وكانت البلد الأول الذي يفتتح قنصلية في إقليم كردستان.
إن جميع ما سبق يوضح كيف كان سقوط نظام صدام حسين الفرصة التي استغلتها إيران من أجل تشكيل العراق المنافس الإقليمي التاريخي لها، بما جعل سياستها عبئاً وكلفة لا يتحملها العراق، وآخر مؤشرات ذلك مقتل سليماني على الأراضي العراقية، ومحاولة الثأر له عليها، بل وإحياء ذكرى مقتله في العراق.
هبه رؤوف
اندبندت عربي