المتطوعون لتجربة اللقاح في مصر بين البحث عن الذات والمغامرة

المتطوعون لتجربة اللقاح في مصر بين البحث عن الذات والمغامرة

أثار وصول لقاح كورونا من الصين إلى مصر جدلا وتخوفات لدى متلقي اللقاح كتجربة أوّلية ودوافعهم، فالمتطوعون رأوا أن التجربة ضرورية لخفض منسوب الخوف عند الناس من اللقاح، فيما رفضها آخرون أصلا لعدم الثقة في المختبرات الصينية والدولية التي تبحث عن فئران تجارب، ليبقى الجدل متواصلا إلى أن تتأكد جدوى هذه اللقاحات الجديدة.

القاهرة – في الوقت الذي يدور فيه الجدل في مصر حول فاعلية لقاح “سينوفارم” الصيني لمكافحة وباء كورونا، وتسلم الحكومة شحنة أولى منه لحقن الأطباء والفئات الأشدّ احتياجا، عاد إلى الظل 3 آلاف متطوع خضعوا خلال الشهور الماضية لتجربة اللقاح، والتي عدها البعض بطولة فيما رأى آخرون أنها بمثابة انتحار، وبقي السؤال معلقا: في أي شيء فكّر هؤلاء؟ هل هم يحبون الإنسانية أكثر منا؟ أم أن أمورا أبسط قد تدفع شخصا ما ليصبح حقلا للتجربة؟

كعادة المصريين، فإن التشكيك المختلط بالمزاح يتصدر المشهد، ما يدفع الكثيرين إلى اتخاذ قرار بعدم الحصول على اللقاح، ولم تُختبر بعد المخاطر طويلة المدى للقاح سينوفارم أو أي لقاح آخر، فيما أكدت التجارب أن لا مخاطر وقعت عند استخدامه.

وأمام التلفزيون تجلس أم في العقد الخامس من عمرها وتعاني من حساسية في الصدر تستمع إلى أخبار اللقاح، وحين سألها ابنها هل ستحصلين على اللقاح عند عرضه، بادرت بإجابة حاسمة: لا ولا تأخذوه أنتم أيضا، لن نصبح حقلا للتجربة.

السيدة التي حالفها الحظ بأن لم تتعرض أو أحد أفراد أسرتها للإصابة بالفايروس، لا يبعد مسكنها في ضاحية العمرانية (جنوب غرب القاهرة) عن السيدة هند محمود، سوى عدة كيلومترات، حيث تقيم الأخيرة في ضاحية المنيب القريبة منها غير أنها وبالبديهية نفسها اتخذت قرارا مغايرا بمجرد أن عُرض عليها أن تصبح ضمن المتطوعين لتجربة اللقاح قبل عرضه للاستخدام العام.

الصدفة وحدها قادت السيدة متوسطة التعليم محدودة الدخل، إلى التطوع لتجربة اللقاح، حين قصدت مستشفى المصل واللقاح في مشوار شهري متكرر، للحصول على علاج لوالديها من ذوي الأمراض المزمنة، فسمعت عن التجارب والتي تعد بمثابة باب لتخليص الإنسانية من فزعها.

والإنسانية لم تكن شغلا شاغلا لدى هند التي تعدّ نموذجا شديد التكرار داخل المجتمع المصري، حيث الأم المكافحة التي تقطن هي وزوجها ووالديها والأبناء في شقة، وتعمل في حياكة الملابس لمساعدة زوجها على المعيشة وإعالة أسرتها. وأقبلت هند دون تردد على التجربة من أجل والديها اللذين يعانيان من أمراض مزمنة، ولكي لا يصبحا ضمن الفئات الأكثر عرضة للخطر عند الإصابة.

لم تُختبر المخاطر طويلة المدى للقاح سينوفارم الصيني، فيما أكدت التجارب أن لا مخاطر وقعت عند استخدامه

هكذا فإن الفرضية الأولى حول حب المتطوعين للإنسانية أكثر منا أو التقدم بوعي لدور بطولي، ليست حاضرة في حالة هند والتي تتماثل حالتها مع آخرين حول العالم، ممن دفعهم الفزع على قريبٍ والملل من دائرة الخوف والترقب، إلى الإقدام على مغامرة غير معلومة النتائج.

وبالتالي، فسيكولوجية المتطوعين في أعمال كبيرة ليست بالضرورة ذات تكوين خاص، فأي شخص في ظروف خاصة قد يصبح شخصية بمواصفات بطولية دون سعي إلى ذلك، لكن هل تكفي تلك الحالة إلى قرار متسرّع لاستكمال التجربة؟

الحالة وحدها المدفوعة بعدم الوعي التام بما يمكن أن تؤول إليه خطوة كتلك، لم تكن السبب في استكمال هند للتجربة، خصوصا بعدما تلقّت لوما من أمها وابنتها حين عادت إلى منزلها حاملة في يد أدوية والديها وفي اليد الأخرى ضمادة تغطي موضع الحقنة الأولى للمصل، والتي حُقنت بها في اليوم نفسه بعد إتمام الفحوصات.

لكن ما دفع هند لاستكمال التجربة إلى جوار تشجيع والدها المتابع النهم للأخبار، كان شعورها للمرة الأولى بأنها في بؤرة اهتمام الدولة.

وقالت هند لـ”العرب” بنبرة سعيدة للغاية، “لقد كنت أتلقى رعاية خاصة.. كل يوم يتصلون بي مرتين، يسألونني عما أشعر به.. لم يتخلفوا يوما”.

وجذب اللقاح إلى جانب رعاية الدولة انتباه المحيطين والجيران، فما إن ذاع الخبر حتى باتت السيدة العادية قبل اللقاح محل سؤال دائم وتدقيق من الجيران الذين لا يريدون الاطمئنان على جارتهم وحسب، بل الاطمئنان على مستقبلهم، غير أن بعضهم كان يباغت السيدة بعبارات من قبيل: إنهم يستخدموننا كفئران تجارب من أجل اختبار فاعلية اللقاح لتعميمه على شعوبهم.

ولأن السيدة ليست بالفصيحة، فإنها كانت تكتفي بالنفي، وتؤكد أنها جيدة ولا تشعر بشيء، وتثق في حكومتها.

على الخلاف تماما، يأتي نموذج الطبيبة الشابة في مجال الميكروبيولوجي ليلى زيدان، فهي تعلم تماما المخاطر طويلة وبعيدة الأجل التي قد تصيبها من تجربة كهذه، وتعلم مدى قدرة الكائنات الدقيقة على إحداث تغيّرات في الجسم البشري، ورغم ذلك تطوّعت لكي تكافحها، ليس في المعمل فقط، لكن في أوردتها الدموية.

وأوضحت ليلى لـ”العرب”، “من بداية الجائحة أترقب لحظة الإعلان عن اللقاح لتخليص الإنسانية من ذلك العبء الثقيل، كل ما فكّرت فيه عند فتح باب التطوع كيف أنني سأصبح سببا مع آخرين كي لا نضطر إلى إعادة الغلق واختبار الحياة الكئيبة في ظله من جديد، وكيف أنني قد أصبح سببا لإنقاذ آخرين”.

وعلى عكس السيدة هند أيضا، عايشت الشابة الإصابة وألم الفقد جراء الفايروس مع الكثيرين من المحيطين، أصدقاء ومعارف، وكان ذلك دافعا إضافيا لها، وتساءلت، إذا لم نقبل نحن الشباب الأصحاء على تجربة كهذه، فمن يجب أن يقبل عليها؟

ولم يكن التطوع بالتجربة الجديدة التي نبتت داخل الطبيبة في ظل الجائحة، بل هي استكمال لسيكولوجية راسخة تنشد السعادة في الإيثار والتضحية ومساعدة الآخرين.

وتعد كل تلك الأشياء ضمن الدوافع الرئيسية في التطوع داخل علم النفس، والتي عرفها للمرة الأولى الطبيب النفسي الألماني فيكتور فرانكل، حين وضع الخروج من الذات إلى الآخرين كسبيل للسعادة.

وداخل غرفة المصل واللقاح، كانت الطبيبة الشابة في سبتمبر الماضي، تستكمل مضمارا طويلا من العمل التطوعي بين الجمعيات الخيرية والمبادرات الخدمية، وصولا إلى زيارة شهرية للتبرّع بكيس دم.

ولا ترى ليلى مسار دمائها كل شهر في أوردة أحد المرضى، وباتت لديها الآن فرصة أكبر لاختبار ما يقدمه دمها للبشرية هي والآلاف من الأشخاص الآخرين حول العالم ممن تطوعوا لتجربة اللقاحات التي أثبتت فاعلية، على أمل ألا تباغتنا من جديد بآثار طويلة المدى.

ورغم احتمال المضاعفات بعيدة الأمد، فإن الطبيبة الشابة متسقة تماما مع ذاتها، راضية بما قد يحدث، غير نادمة على الخطوة خصوصا وهي ترى ثمارها.

وتقف منة ممدوح (ليس اسمها الحقيقي)، وهي شابة في عمر مماثل للطبيبة، متعجبة ممن أقبلوا على تلك الخطوة لتصفهم بـ”الانتحاريين الجدد”. وأشارت لـ”العرب”، وهي تعمل في مجال ثقافي وتعتنق الفكر الشيوعي، أنها لا تنوي الحصول على اللقاح تحت أي مسمّى، فهي لا تثق ليس فقط في فاعليته، ولكن في النظام العالمي وما ساقه عن الجائحة.

سألت “العرب” أستاذ الطب النفسي في الجامعة الأميركية ماهر الضبع عن سيكولوجية المتطوعين لتجربة لقاح فايروس كورونا، فقال هل يتلقون مقابلا ماديا، إذ كان نعم فقد يصبح ذلك المقابل الدافع الأول لمن يحتاجون إليه.

ولم يتلق المتطوعون لتجربة اللقاح عائدا ماديا مقابل التطوع، واقتصر الأمر على تغطية تكلفة التجربة، بمعنى منح المتطوعين أو بعضهم بدل التنقلات، وهو مبلغ زهيد للغاية لا يتجاوز خلال الجرعة 250 جنيها (نحو 15 دولارا)، ويحصل المتطوع على جرعتين ويخضع لمتابعة على مدار العام، وهو أمر رأى فيه المراقبون نبلا، لأن طرح مال مقابل التطوع كان يعني استغلال حاجة الفئات الأقل.

وأضاف أستاذ الطب النفسي، أن المبلغ مهما كان زهيدا قد يعدّ دافعا عند البعض، لكن في الأساس ما يدفع أي شخص إلى عمل تطوعي هو الرغبة في تحقيق الإشباع من مشاعر السعادة والرضا عن الذات وتقديرها عبر خدمة ودعم الآخرين، ما يجعل الاشتراك في الأعمال التطوعية سلوكا علاجيا في مواجهة بعض الأزمات النفسية.

ولفت الضبع إلى أن حب المغامرة وخوض التجارب الجديدة هما أحد الأسباب في الإقدام على التطوع في تجربة كهذه.

وضربت وزيرة الصحة في مصر هالة زايد، المثل والقدوة عندما تقدمت صفوف المتطوعين مبكرا، للتأكيد على أهمية التجارب السريرية الأولى، لأنها النواة التي تمهّد لاستخدام اللقاح من عدمه.

ووفق المبدأ الأخير، خاض الصحافي المصري أحمد سعد، تجربة التطوع في اختبار فاعلية لقاح كورونا، وهو صحافي متخصص في تغطية شؤون الصحة وواكب طيلة شهور كافة التطورات.

وأكد سعد لـ”العرب”، أنه دخل غرف عمليات وزارة الصحة والمستشفيات وكافة الأماكن ذات الصلة بالفايروس ومكافحته، فلم يرغب في تفويت فرصة التجربة، دون أن يختبره على نحو مباشر وينقله إلى القراء.

وذكر، أن خوضه لتجربة الحصول على اللقاح نبعت من رغبة شخصية، قائلا “الأمر لا يخلو من مخاطر، لذا لم يكن ممكنا لأي جريدة أن تكلّف صحافيا بالخضوع للتجربة من أجل تقديم معايشة مكتوبة”.

ويعد سعد الصحافي المصري الوحيد (تقريبا) الذي حصل على المصل وقدّم تجربته في عدة تحقيقات مكتوبة على صفحات الأخبار تتضمن الإجراءات التي خضع لها والأعراض الخفيفة التي تلت تلقيه اللقاح وشعوره وهكذا.

وإلى جانب حب المغامرة، كان شعوره بمساهمته في إنهاء ذلك الكابوس وإنقاذ آخرين ممن سيحصلون على اللقاح، حال أثبت فاعلية معه، دافعا أيضا، وأكثر فئة كان سعد دائم التعاطف والتفكير فيها هي الأطباء.

وقال “كنت أحرص خلال عملي طيلة الشهور الماضية على تقديم رسائل دعم للأطباء وطاقم التمريض، تلك الفئة التي واجهت الفايروس، ومثلت خط الدفاع الأول، وسقط منها الكثير خلال المواجهة، وكنت أتمنى أن يظهر اللقاح سريعا ويثبت فاعلية”.

ما مدى فاعلية اللقاح الصيني
يشوب الجدل صفوف الأطباء مع الإعلان عن توفير لقاح كورونا، وفيما تشكّك البعض في فاعليته وأبدوا قلقا من الحصول عليه، فإن آخرين ومن ضمنهم وكيل النقابة العامة للصيادلة سابقا حسن إبراهيم، الذي دافع عن اللقاح قائلا “اللقاح الصيني يعد أكثر أمنا من نظيره الأميركي (فايزر)، لأن الأول مصنوع من جزيئات فايروس ميت، على خلاف الأميركي المصنوع من جزئيات ريبوزوم للفايروس، وهي تكنولوجيا جديدة لا نعرف مدى أمانها الكامل حتى الآن”.

وأضاف إبراهيم عبر صفحته على فيسبوك “مصر اعتمدت اللقاح الصيني وليس الأميركي، لأن الأول يمكن حفظه في درجة حرارة من 2 إلى 8 مئوية، وتوجد في مصر البنية التحتية لحفظه فيما يحتاج الثاني إلى درجة حرارة 70 تحت الصفر، ولا توجد لدى مصر البنية التحتية لحفظ ونقل منتج بهذه الحرارة”.

وتمت تجربة اللقاح الصيني في مصر خلال الشهور الماضية، أي أن لدى وزارة الصحة قاعدة بيانات عن تجربته على مصريين.

ومن المتوقع أن يستمر الجدل حول فايروس كورونا ولقاحه طويلا، حيث بات مادة أساسية للحوار في المقاهي التي عادت للعمل بشكل طبيعي، وفي وسائل النقل والمواصلات التي لا تخلو من زحام، وداخل غرف العمل التي انتظمت.

وبين رافض للقاح ومشكك فيه لسبب طبي أو شكوك سياسية، واستبشار آخرين به لإنهاء كابوس شهور طويلة من الغلق وفقد حبيب أو قريب، فإن الفايروس لا يزال ينتج أبطالا جددا، فبعد الأطباء تقدم المتطوعون بدوافع عدّدتها أستاذة الطب النفسي ألفت علام لـ”العرب” بأنها تكمن “في نمط الشخصية، التي تتحكم في مسار التعامل مع اللقاح”.

وأضافت، وفي الوقت الذي نترقب فيه أن تضم التجربة 50 ألف شخص، فالأمر يعتمد على الشخصية بين ناس يحبون المغامرة والتجربة وآخرين يمتنعون عن أخذ اللقاح، على الرغم من أنهم يعيشون في بيئة غير صحية من الأساس، وفئة ثالثة تضع احتمال أن يكون مفيدا ويحميها من المرض، ورابعة تهتم بخدمة المبادئ الإنسانية.

العرب