تتواصل الاضطرابات والتظاهرات في أرمينيا، مطالبة برحيل رئيس الحكومة نيكول باشينيان، في توقيت مواكب لانضمام رئيس الجمهورية إلى جموع وفصائل المعارضة التي تتهمه بمسؤولية ما لحق بأرمينيا من هزائم ومهانة في حربها الأخيرة مع أذربيجان.
وبعد فترة لم تطل كثيراً تراوحت مفرداتها بين الشد والجذب، أعلن باشينيان استعداده لتقديم استقالته والرحيل عن منصبه. لكن، شريطة أن يكون ذلك “قراراً من الشعب”، وهو ما يعني في طياته تلميحاً بقبوله الرحيل عن منصبه، وإن ربط ذلك باستفتاء شعبي، يمكن أن يُعلن موعده في القريب العاجل.
خيانة وتفريط
ومضى رئيس الحكومة الأرمينية إلى ما هو أبعد، ليعلن احتمالات إجراء انتخابات برلمانية مبكرة في 2021 يمكن أن يقول فيها الشعب كلمته، وهو ما تعتبره بعض رموز المعارضة “محاولة” تستهدف كسب الوقت، وتهدئة الرأي العام إلى حين انفراط عقد معارضيه.
وكانت الجماهير قد خرجت إلى شوارع العاصمة يريفان ومعظم كبريات المدن الأرمينية تطالب برحيل باشينيان الذي اتهمته بـ”الخيانة والتفريط في مصالح الشعب والوطن”، احتجاجاً على توقيعه مع خصمه وغريمه إلهام علييف رئيس أذربيجان تحت رعاية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي اتفاق وقف إطلاق النار، بكل ما يقتضي هذا الاتفاق لاحقاً من انسحاب القوات الأرمينية من كثير من الأراضي التي كانت احتلتها منذ ما يقرب من ثلاثين سنة في قره باغ غير المعترف بها، إلى جانب سبعة من الأقاليم الأذربيجانية المتاخمة لقره باغ والحدود مع أرمينيا.
وبينما اعترف باشينيان بالهزيمة والاستسلام أمام زحف القوات الأذربيجانية بمساعدة تركيا، وقال إنه وقّع الاتفاق الثلاثي مع رئيسي روسيا وأذربيجان، تحت ضغط وطلب من قيادة القوات المسلحة الأرمينية التي اعترفت بعجز أرمينيا عن مواصلة القتال، في الوقت الذي كانت فيه القوات الأذربيجانية على مقربة مباشرة من احتلال ستيباناكيرت عاصمة قره باغ، أو “آرتساخ” بحسب التسمية الأرمينية بعد استيلائها على مدينة شوشا على مبعدة كيلومترات معدودة من خان كندى، الاسم الأذربيجاني لستيباناكيرت.
خيبة أمل
وعلى الرغم من اتساع مساحات الخلاف بين المعارضة وباشينيان وحزبه الحاكم، فإن هناك ما يشبه الإجماع حول خيبة أمل كثير من التنظيمات الشعبية والرسمية في أرمينيا في روسيا التي كانوا يعلقون عليها كثيراً من آمال مساعدتهم، والوقوف إلى جانبهم في معركتهم ضد القوات الأذربيجانية والحيلولة دون تدخل القوات التركية.
ويصف كارين كوتشاريان، المعلق السياسي الأرميني، الأوضاع الراهنة في الجمهورية بأنها باتت “أقرب إلى المشلولة” منذ توقيع ذلك الاتفاق، وما نجم عن ذلك من انهيار السلطة، وعجز رئيس الحكومة عن السيطرة على أي من أجهزة الدولة.
وبينما تتواصل المشاورات بين رموز الحركات السياسية والمنظمات الاجتماعية والمؤسسات التعليمية، وما أسفرت عنه من نتائج انضم إليها رئيس الجمهورية أرمين سركسيان، تدور في معظمها حول ضرورة رحيل رئيس الحكومة باشينيان، وإعلان انتخابات برلمانية جديدة، يلوح بعض المراقبين بخطورة ما يتصاعد من اتهامات في حق روسيا، حول ما يصفه البعض بخيانة الكرملين لأرمينيا، وعدم تدخلها لحماية مصالحها الوطنية، وكأنها المسؤولة عن هزيمة القوات الأرمينية وتخاذل قواتها المسلحة، وفرار كثير من المجندين من ساحة المعارك.
وعلى الرغم من إعراب البعض في أرمينيا عن شكوكهم في جدوى استمرار وجود القاعدة العسكرية الروسية الموجودة في أرمينيا، يخرج آخرون لتأكيد ضرورة منحها حق افتتاح قاعدة ثانية على مقربة مباشرة من الأراضي الأذربيجانية التي سوف تضطر أرمينيا إلى الانسحاب منها بموجب اتفاق التاسع من نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي.
اقرأ المزيد
اتفاق أذربيجان وأرمينيا يفاقم خسارات إيران
كيف أخفقت صواريخ إس-300 في حماية أرمينيا؟
الاتفاق الروسي أنقذ أرمينيا من الهزيمة ومنع أذربيجان من نصر كامل
ومن هؤلاء كان إدمون ماروكيان زعيم كتلة “أرمينيا المزدهرة” في برلمان أرمينيا، الذي أعلن مطالبته بإقامة قاعدة روسية جديدة في مقاطعة “سيونيكسكايا” المتاخمة للحدود الأذربيجانية، من أجل تأمين وحماية السكان الأرمن الموجودين في تلك المقاطعة.
وأعاد المراقبون إلى الأذهان عدداً من التزامات الجانب الروسي تجاه حماية أراضي أرمينيا والدفاع عن حدودها المتاخمة لكل من إيران وأذربيجان وتركيا، سواء من خلال الفوج 102 الذي يتمركز في كل من يريفان وغيومري في إطار قاعدته العسكرية، إلى جانب حقوق أرمينيا في تدخل قوات بلدان معاهدة الأمن الجماعي إلى جانبها بموجب بنود هذه المعاهدة، وهو ما ترد عليه موسكو بأن كل هذه الالتزامات تنسحب فقط على حماية أراضي أرمينيا داخل حدودها المعترف بها، وليس في الأراضي التي احتلتها منذ ما يزيد على 30 سنة.
ألاعيب باشينيان
على أن ذلك كله يظل في إطار الصراع السياسي والجدل الذي يتواصل لمجرد كسب الوقت من جانب، والبحث عن حلفاء جدد من جانب آخر. ويقول مراقبون في العاصمة الأرمينية يريفان، إن موافقة باشينيان رئيس الحكومة الأرمينية تظل مشروطة بضرورة اللجوء إلى الشعب، لمعرفة كلمته المدعو إلى إعلانها في استفتاء شعبي عام لم يتحدد موعده.
غير أن هناك من يقول، إن ترحيل القول الفصل في المواجهة القائمة بين باشينيان ومعارضيه، سواء إلى حين إجراء الاستفتاء الشعبي، أو حتى احتمالات وقوع متغيرات داخلية أو خارجية، لا يعني سوى البحث عن فرصة يمكن أن يلتقط فيها باشينيان أنفاسه، استعداداً لمواجهة يمكن أن يحدد زمانها ومكانها في الوقت المناسب له.
وذلك ما يفسّره مراقبون آخرون بقولهم، إن ما يتخذه باشينيان من إجراءات، وما يصدر عنه من تصريحات، يستهدف ترحيل الموقف برمته حتى الصيف المقبل. ولمزيد من الإيضاحات كشف هؤلاء عن احتمالات تحركات جديدة مغايرة لحزبه الحاكم “خطوتي”، من أجل كسب الوقت اللازم للإعداد للاستفتاء الذي يقترحه من جانب.
في نفس الوقت الذي لا أحد يتخذ فيه من جانب آخر، قرار إلغاء حالة الطوارئ التي أعلنها باشينيان منذ اندلاع المعارضة على الجبهة الأذربيجانية، ولم تعد لها حاجة بعد توقيع اتفاقية “الهدنة”، أو “الاستسلام” على حد قول ممثلي المعارضة الأرمينية في الداخل، والرئيس الأذربيجاني إلهام علييف في الخارج.
ولعل ما يتخذه باشينيان من إجراءات، لترحيل الموقف إلى أجل غير محدد، يستهدف في حقيقته ما يمكن أن يعود عليه بمكاسب ثمة من يشير منها إلى احتمالات انحسار حماس القوى المعارضة، وانفراط عقدها والعودة عن شعاراتها، وما تطرحه من مطالب حول استقالة الحكومة، والإعلان عن انتخابات جديدة من جانب، والتوصل إلى استقرار أكثر أمناً للأوضاع في قره باغ، وعودة أكبر قدر من المهجرين واللاجئين إلى مساكنهم في قره باغ تحت رعاية وإشراف قوات حفظ السلام الروسية من جانب آخر.
المناورة وكسب الوقت
ويقول إيفان كونوفالوف، رئيس مركز المنافسة الاستراتيجية، إن باشينيان يظل يتمتع بضمان أغلبية نوابه من الحزب الحاكم في البرلمان الأرمني، ما يوفر له فرصة المناورة وكسب الوقت، وهو ما لا بد من أن يفقده في حالة الإعلان عن انتخابات برلمانية مبكرة لا أحد يقول إنه يمكنه ضمان الفوز بها، لا سيما أن ثمة ما يشبه الإجماع بين الأوساط الأرمينية حول مسؤوليته تجاه الهزيمة التي لحقت بالقوات الأرمينية في معاركها ضد القوات الأذربيجانية، وعجزه عن إدارة الموقف وتأمين مساعدة روسيا لأرمينيا في الحرب الماضية، فضلاً عن اتساع جبهة المعارضة وانضمام أعضاء جدد إليها، ومنها الكنيسة الأرمينية وأكاديمية العلوم، وعدد من أكبر المؤسسات التعليمية بكل ما تملكه من كوادر علمية وشباب ممن يتجرعون حتى اليوم، مرارة الهزيمة ومهانة الانكسار.
وبهذا الصدد أيضاً، ذكر فلاديمير يفسييف، رئيس قسم القوقاز في معهد بلدان منظومة الكومنولث (رابطة البلدان المستقلة في الفضاء السوفياتي السابق)، في تصريحاته إلى موقع “غازيتا. رو” إن ذلك كله هو ما تدركه المعارضة التي بدأت إعادة ترتيب صفوفها من أجل إرغام الحكومة على إلغاء حالة الطوارئ التي أعلنها باشينيان مع بداية اندلاع الحرب مع أذربيجان، بما يسمح لها بحرية التحرك بعيداً عما تفرضه من قيود، ومنها ما يتعلق بحظر المسيرات والتجمعات والتظاهرات. فضلاً، وهو الأهم، عن أن “حالة الطوارئ” لا تسمح خلال فترة سريانها بإجراء أي انتخابات أو استفتاءات أو تجمعات بشرية أو مسيرات جماهيرية.
ويقول يفسييف، إن ممثلي المعارضة يدركون جيداً ما يصفونه بـ”ألاعيب” باشينيان، الذي يقولون إنه كان يمكنه الرحيل، لو كان صادقاً حقاً في إعلانه حول استعداده للرحيل عن منصبه. وخلص خبير معهد شؤون بلدان منظومة الكومنولث إلى أن باشينيان فقد عملياً كل ما كان يملكه من مقومات مستقبله السياسي، وأنه لا آفاق لمحاولات تشبثه بالسلطة في ظل تراجع مكانته وشعبيته، وأنه لا بد أن يرحل إمّا عاجلاً أو آجلاً.
سامي عمارة
اندبدنت عربي