لبنان ما قبل 2020 ليس كما بعده. فانفجار مرفأ بيروت كاد أن يسحق المدينة بمادة نترات الأمونيوم، وحوّل 4 أغسطس/آب إلى تاريخ مفصلي مشؤوم أسقط أكثر من 200 قتيل و6 آلاف جريح، وشرّد نحو 100 ألف عائلة، وخلّف أضرارا مادية تجاوزت قيمتها 5 مليارات دولار.
الانفجار دوى في عام كان مقررا للاحتفال بمئوية نشوء دولة لبنان الكبير (1920)، فتجلت بوقوعه مظاهر انهيار الدولة وهشاشتها، بعد عقود راكمت الفساد برأي كثيرين. وعليه، طوى لبنان مئويته الأولى، فانكشفت أمامه فجوة الأزمات مترافقة مع إطباق أفق الحلّ السياسي، وعُزلة قسرية عن محيطه العربي والدولي.
يبدأ عام 2021، وما زال التحقيق بانفجار المرفأ تائها في دهاليز الخلافات الداخلية، ويستمر تأجيل إعلان تشكيل حكومة سعد الحريري، في وقت تتوالى تداعيات الانهيار الاقتصادي والمجتمعي نحو درْك لا قُعر له، واللبنانيون عازفون عن الشارع، بعد أن تبددت طموحاتهم في انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019.
في سؤال وجواب، تستشرف الجزيرة نت مع محللين وباحثين وخبراء المشهد اللبناني في بلد يبدو حمله ثقيلا في 2021 بعد عام شاق من الاستعصاء السياسي والاقتصادي.
1. ما هو مصير التحقيق المحلي بانفجار مرفأ بيروت؟
في ظل تباين الاجتهادات الدستورية واحتدام الخلافات السياسية -بعد ادعاء المحقق العدلي، فادي صوان، على رئيس حكومة تصريف الأعمال، حسان دياب، والوزراء علي حسن خليل وغازي زعيتر ويوسف فنيانوس- تتزايد مخاوف اللبنانيين على مصير التحقيقات.
وهنا، يضع الكاتب والمحلل السياسي منير الربيع انفجار المرفأ بخانة الجرائم، التي لن تُكشف حقيقتها؛ لأن من ارتكبه أو تسبب به غير قادر على تحمّل تبعاته. وبرأي الربيع أن الدولة اللبنانية من اليوم الأول ذهبت لتسخيف التحقيق بإعلان سعيها لإنجازه بـ5 أيام، فركزت على مسألة الفساد وتقاذف المسؤوليات، بدون السؤال عن هوية مالك باخرة النترات، وسبب مجيئها إلى لبنان قبل 7 سنوات.
من جهته، يرى الدكتور فادي الأحمر، الباحث بشؤون الشرق الأوسط، أن ثمة 3 عُقد أساسية أمام مسار التحقيق: أولا، الصراع القائم بين سلطتي القضاء والبرلمان حول دستورية التحقيق، وثانيا، تجلي بوادر أمنية بتصفية أشخاص يملكون بعض المعلومات حول المرفأ، وثالثا، المقاربة الدولية بعد صدور قرار عن الكونغرس الأميركي، الذي يتضمن دعوة لإشراك محققين دوليين بالتحقيق.
يستبعد مراقبون ولادة الحكومة قريبا نتيجة التنازع على السلطة طائفيا وحزبيا (الجزيرة)
2. ما هي العقبات التي تعيق تشكيل حكومة سعد الحريري في ظل خلافه مع رئيس الجمهورية وفريقه السياسي؟
يُفصّل الربيع العقبات عبر 3 نقاط: أولا، أن سعد الحريري غير قادر على تشكيل حكومة تهدده بفرض عقوبات أميركية؛ بسبب مشاركة حزب الله. وثانيا، الرئيس ميشال عون لا يريد تشكيلها إلا إذا تنازل الحريري عن كل شيء لصالحه ولصالح صهره النائب جبران باسيل. ثالثا، حزب الله غير جاهز لتشكيل حكومة قبل رحيل إدارة دونالد ترامب.
اعلان
من جهته، يقارب الأحمر تعثر تشكيل الحكومة من طبيعة تعاطي القوى السياسة معها، باعتبارها قد تكون آخر حكومة في عهد رئاسة ميشال عون المستمرة حتى 2023، وقد تستمر لما بعد عهده لتدير الفراغ السياسي، كما فعلت حكومة تمام سلام على مدار عامين، بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان (2014) حتى انتخاب عون (2016).
ويرى الأحمر أن “عون يريد تشكيل حكومة بعد أن مضى أكثر من نصف عهده بلا حكومات، والحريري يريد أن يصبح رئيس حكومة فعلية، وليس رئيسا مكلفا بعد الخسائر، التي تكبدها سياسيا وشعبيا وفي علاقاته الدولية والعربية، وحزب الله يريد تشكيل حكومة بمشاركته لإحكام قبضته على الواقع السياسي”.
ومع ذلك، يستبعد الأحمر والربيع ولادة الحكومة قريبا نتيجة التنازع على السلطة طائفيا وحزبيا، ويرى المحلل السياسي أن وصول بايدن للسلطة لا يضمن تسهيل ولادتها؛ لأن لبنان ليس إلا تفصيلا مؤجلا من ضمن الملف الإيراني.
3. كيف ستتجلى تأثيرات الصراع الأميركي الإيراني على المشهد اللبناني؟
يعتبر طارق عبود، الأكاديمي والباحث بالعلاقات الدولية، أن لبنان منقسم إلى محورين، محور حليف مع أميركا، وآخر حليف مع إيران؛ “لكن الأخيرة، لا تتدخل بالشؤون اللبنانية كما تفعل واشنطن بموفديها وسفارتها؛ لأن حزب الله قادر على تحقيق مصالحه بدون تدخل إيراني”.
لذا، يتوقع عبود أن تكون إدارة بايدن نسخة عن إدارة باراك أوباما، وعودتها لاتفاقيات العمل المشتركة (النووي) مع إيران، بدون أن يضمن انعكاس الأمر إيجابا على لبنان؛ لأن أزمته داخلية بالدرجة الأولى، وتليها الارتباطات الخارجية.
أما الأحمر، فيختصر تجليات الصراع بـ3 كلمات “حصار، عقوبات واضطرابات”. ويرى أن “التسوية الأميركية الإيرانية لا تبدو قريبة، خصوصا أنها لن تشمل الملف النووي فحسب، وإنما تشمل ملفين أساسيين هما الصواريخ الباليستية، ونفوذ إيران في المنطقة، وهذا ما يعني لبنان؛ لأن حزب الله هو غرفة عمليات إيران بالمنطقة”. وقد يأخذ الصراع، وفق الأحمر، مسارا شائكا، مقابل استمرار واشنطن بسياساتها تجاه لبنان على مستوى فرض العقوبات واستمرار الحصار، بمنع أي مساعدة للدولة، مع احتمال تغذية الاضطرابات الأمنية.
4. كيف سينعكس انتقال مقاليد السلطة من إدارة ترامب لإدارة بايدن على كيفية مقاربة واشنطن للملف اللبناني؟
في الشكل، قد يتغيّر تعاطي واشنطن مع لبنان لا سيما أن شخصية ترامب الاستفزازية تختلف عن شخصية بايدن، الذي يجيد التعاطي باللغة الدبلوماسية، بحسب الأحمر، الذي يستبعد تغيّر المقاربة الأميركية للملف اللبناني بالمضمون. ويرى أن “الضغط الذي تسبب به ترامب على إيران ومن خلفها حزب الله، لن تتخلى عنه إدارة بايدن بوصفه مكتسبات لصالح أميركا”.
كذلك، يعتبر الربيع أن ترامب أرسى مسارا ضاغطا من الصعب تغييره، وبالتالي “أمام لبنان عام كامل بالحد الأدنى، قبل أن يلمس متغيرات جدية لإدارة بايدن تجاهه”.
أما الباحث عبود، فيتوقع أن تعكس إدارة بايدن حلحلة على لبنان، بعد أن مارست إدارة ترامب سلوكا بلطجيا على واقعه السياسي، وفق تعبيره، لكي تدفع المقاومة واللبنانيين للاستسلام لشروطها، وبالتالي لشروط الإسرائيليين.
تشغيل الفيديو
5. ما هو مصير الدور الفرنسي في لبنان بعد تعثّر بلوغ المبادرة الفرنسية أهدافها؟
يعتبر الربيع أن مضمون المبادرة الفرنسية سقط بمجرد قبول التنازل عن وزارة المالية لحزب الله وحركة أمل. ويستبعد أن تتخلى فرنسا عن دورها، وهي تعلم أن أميركا لا تريد لمبادرتها النجاح إلا بشروطها، وأن “إيران لن تبيع فرنسا أي تنازل بلبنان، إنما تفضل أن تبيعه للأميركيين”. كما أن فرنسا، برأيه، ترى بلبنان موقعا إستراتيجيا على البحر المتوسط في إطار المواجهة مع تركيا، إلى جانب الرابط التاريخي والوجداني والثقافي.
غير أن الأحمر يرى أن “فرنسا لا تملك الأوراق كاملة ببيروت؛ لكنها تريد ترسيخ حضورها جيوسياسيا، وأميركا تتفهم ذلك، إضافة إلى معطى الصراع القائم في شرق المتوسط على الغاز، وقد تضطر فرنسا لمجاراة الموقف الأميركي على مستوى عدم التمييز بين الجناحين العسكري والسياسي لحزب الله”.
6. في ظل المتغيرات التي تشهدها بعض الدول العربية في علاقاتها مع إسرائيل، ما هو انعكاس مسار التطبيع على المقاربة العربية للملف اللبناني؟
يرى عبود أن لبنان هو في قلب القضية الفلسطينية، ومن الدول القليلة التي تقاوم المشروع الإسرائيلي التقسيمي بالمنطقة، ويتوقع أن “يدفع الإسرائيليون الدول الخليجية للضغط على لبنان لتطويعه؛ لكنه سيكون عصيا على الرضوخ، بعد أن مر بتجارب مقاومة الاحتلال، بينما الدول العربية المطبعة لم تكن يوما بحالة صراع مع إسرائيل”.
لكن الربيع يعتبر أن اتفاقيات التطبيع ستؤدي إلى وراثة دور لبنان، الذي أداه منذ تكوينه وبعد النكبة الفلسطينية (1948)، “لا سيما أنه استفاد من القطيعة العربية مع إسرائيل ببناء الازدهار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وترافق مع قانون السرية المصرفية الذي جذب رؤوس الأموال العربية”.
ويدعو المحلل لقراءة توسيع مرفأ حيفا، وتوقيع اتفاقيات الصحة والمستشفيات بين إسرائيل وبعض الدول الخليجية، “ما يعني أن لبنان سيكون إما خارج الزمن أو ملحقا بعملية التطبيع، بينما مصيره بهذا الشأن يرتبط بموقف إيران وحزب الله”.
محاولة الرئيس الفرنسي ماكرون التحكم بشروط اللعبة اللبنانية ليست سهلة حتى الآن (الأوروبية)
7. ما هو مصير المفاوضات التقنية مع إسرائيل حول ترسيم الحدود البحرية بعد أن رفع لبنان سقف مطالبه بتوسيع المساحة المتنازع عليها من 860 إلى 2200 كيلومتر مربع؟
بعد تأجيل المفاوضات التقنية، التي بدأت في 14 أكتوبر/تشرين الأول الفائت بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي برعاية أممية ووساطة أميركية لموعد غير محدد، يلفت الربيع أن بعض المعطيات تشير إلى استئنافها في فبراير/شباط المقبل. ويرى أن تأجيل المفاوضات حصل بدفع إيراني بعد التأكد من فوز بايدن بالانتخابات، وأن الوفد اللبناني يفاوض بشكل تقني، لا بشكل سياسي، وعندما يتنازل عن المساحة الإضافية التي يطالب بها يمكن القول إن اتفاق الإطار وصل لخواتيمه، مع استبعاد حصول ذلك، لا سيما أن ترسيم الحدود من أبرز أوراق النزاع الإيراني الأميركي.
من جهته، يعتبر الأحمر أن لبنان صاحب حق، والمتعدي إسرائيل، ورفع سقف المطالب هو جزء من لعبة التفاوض؛ لأن الجانب اللبناني يريد استرداد أكبر قدر من المياه الإقليمية، ما قد يعطي المفاوضات مسارا طويلا يصعب إنجازه بالمدى المنظور.
أما عبود، فيعتبر أن أميركا تقف إلى جانب إسرائيل وليست طرفا محايدا، وأن واشنطن عندما التمست رفع سقف مطالب الجانب اللبناني تركت المفاوضات، وانتقلت إلى التهديد، لافتا أن “الجانبين يحتاجان لاتفاق إطار ينهي النزاع على المنطقة الاقتصادية المتنازع عليها”.
8. كيف سيتجلى مشهد الأزمة الاقتصادية والمصرفية في لبنان بعد أن صار أكثر من نصف الشعب اللبناني تحت خط الفقر؟
يعتبر الباحث والخبير الاقتصادي، كمال حمدان، أن أزمة لبنان الاقتصادية تشمل عدة أزمات: انخفاض معدل النمو بنسبة تاريخية بلغت 25%، وانخفاض حاد بإيرادات الدولة، وتعدد غير مسبوق لأسعار سعر صرف الليرة أمام الدولار، وإفلاس غير معلن بالقطاع المصرفي في ظل عجز المواطنين عن الوصول إلى ودائعهم.
ويرى أن وراء ذلك تكمن “أزمة انفجار اجتماعي وشيك بعد أن تضاعفت معدلات الفقر وتقلصت قيمة الأجور، وقد يحتاج اللبنانيون لمعجزة في 2021، بعد أن أثبتت المنظومة الحاكمة بمؤشر خطير (قلّة مهنيتها) بإدارة الأزمات”.
ويخشى حمدان أن يكون شعار “ترشيد الدعم”، الذي يحمله مصرف لبنان والسلطة ممرا لعملية نهب كبرى، تقضي بتحميل الطبقات الوسطى والفقيرة كلفة تحرير أسعار السلع الأساسية، بعد أن كان الدعم ستارا مموها لتبعات انهيار العملة.
وإذا لم تأت حكومة اختصاصيين تحدد حجم الثقب الأسود، وفق حمدان، وتقترح توزيعا عادلا للخسائر في ظل امتلاك 1% من اللبنانيين ربع الدخل الوطني و50% من الثروة الوطنية، مما يعني أن لبنان بطريقه نحو الهاوية، مع تدمير أركان الحماية الاجتماعية، بمزيد من الجوع والعنف.
ولا يستبعد حمدان عودة اللبنانيين للشارع، وهو ما بدأ بتظاهرات طلابية أخيرا ضد دفع الأقساط بالدولار، بعد أن صار الخطر، الذي يداهم اللبنانيين وجوديا وكيانيا.
المصدر : الجزيرة