الحركة العربية لحقوق الإنسان: تاريخها وقضاياها الاستراتيجية

الحركة العربية لحقوق الإنسان: تاريخها وقضاياها الاستراتيجية

201591011119974580_19

مقدمة

اكتسبت حركة حقوق الإنسان في الوطن العربي، رغم حداثة عهدها، فاعلية متزايدة في النهوض بالوعي العربي المعاصر، قد تكون فاقت فاعلية بعض الحركات الفكرية والسياسية الأطول منها عمرًا والأعرق نَسَبًا في موروث العرب الثقافي وفي تاريخهم الاجتماعي؛ إذ غدا للحركة اليومَ دورٌ لافت في تطوير واقع المجتمعات والدول، على مستوى التشريع وبناء المؤسسات.

ليس مؤدَّى هذا أن طريق النضال الحقوقي العربي كانت سهلة، فقد واجهت سالكيها تحدياتٌ عملية كثيرة، واستوقفتهم أسئلة نظرية متنوعة، ظلوا يجتهدون للإجابة عليها عَبْر تجربة مضنية.

إنَّ الوقوف على حقيقة تلك التجربة التاريخية يتطلب إلقاء الضوء على ظروف نشأتها في العقود الأخيرة من القرن العشرين، مع العلم أن سؤال النشأة لا يكتسي قيمة توثيقيَّة وحسب، وإنما تكمن أهميته أيضًا في كونه يكشف لنا طبيعة التحديات التي اعترضت الحركة منذ انطلاقها، في علاقة بالتوفيق بين الشأنيْن الحقوقي والسياسي، وبالإشكاليات المفهومية والاستراتيجية الناجمة عن الخصوصيات العربية الثقافية والمجتمعية. فكيف واجهت حركة حقوق الإنسان تلك التحديات مجتمعة؟ وهل وُفِّقت إلى رفعها بشكل نهائي؟

الدلالة والتشبيك

لا يخلو اليوم بلد عربي من جمعية غير حكومية أو أكثر، تُعنى بالدفاع عن حقوق الإنسان(1)، لكن الوضعيات القانونية لتلك الجمعيات تختلف من بلد إلى آخر باختلاف الأوضاع؛ فبينما يتمتع بعضها بالترخيص القانوني، يضطر بعضها الآخر -بسبب الحظر المضروب عليها- إلى العمل في كنف السرية أو في المهجر؛ توَقِّيًا من التبعات الأمنية والقضائية.

إنَّ تزايد عدد الجمعيات الحقوقية في الوطن العربي وارتفاع منسوب نضالها سنة بعد أخرى، يُعَدُّ دعمًا للنسيج المدني. من هذا المنظور، يمكن القول: إن الظاهرة تعدُّ تعبيرًا عن وعي حديث، ما فَتِئَ ينمو في أوساط النُّخب، مفاده أن الانخراط في العمل السياسي ليس كافيًا لتطوير المجتمعات العربية نحو الحرية والعدالة الاجتماعية، وأن الأحزاب -إن وُجدت- ليست هي الوسائل المثلى لتحقيق الإصلاح المنشود؛ ذلك أن للحركة الحقوقية -وَفْق هذا المنظور- غاية سامية، هي: خلق توازن استراتيجي بين المجتمع والدولة، بما يجعل الأول في حصانة من طغيان الثانية.

لقد حرص أنصار هذا الوعي على ترجمة آرائهم في حركة انتظمت ضمن شبكة من الجمعيات المحلية والإقليمية والدولية؛ فمنذ أوائل الثمانينيات نجحت التنظيمات الحقوقية في إنشاء “المنظمة العربية لحقوق الإنسان”(2) التي اختارت أن تكون مستقلة عن جميع الحكومات، وأن تظل إطارًا جامعًا لكل الفعاليات والشخصيات العربية المؤمنة بالحقوق الإنسانية، بصرف النظر عن الانتماء العَقَديِّ والسياسي. وفي بداية التسعينيات حاول بعض تلك التنظيمات تنسيق أعماله إقليميًّا(3).

كما اجتهدت الجمعيات الحقوقية في ربط علاقات تعاون وتنسيق مع شبكة دولية واسعة من التنظيمات غير الحكومية ذات الاهتمام المشترك، واختار عدد منها الانخراط عضويًّا في “الجامعة الدولية لحقوق الإنسان” (FIDH)(4)، ونجح بعضها في أن يكون له دور استشاري ضمن الهيئات المعنيَّة بحقوق الإنسان التابعة لمنظمة الأمم المتحدة. وقدَّم “المعهد العربي لحقوق الإنسان”(5) الذي أُنشئ برعاية “المنظمة العربية لحقوق الإنسان”، دعمًا فكريًّا ومنهجيًّا لهذه الشبكات، فهو قد تفرَّغ للبحث والتكوين ونشر الثقافة الحقوقية.

إشكاليات منهج العمل

كان على الحركة الحقوقية العربية أن تجيب منذ انطلاقها على سؤال: ما العمل؟ أي ما السبيل إلى نشر مبادئ حقوق الإنسان وترسيخ آثارها في المجتمع ثقافيًّا وتنمويًّا وحضاريًّا، من غير أن ينخرط مناضلوها في المعارك والصدامات السياسية المباشرة والعنيفة؟

في هذا السياق، ظلَّت الحركة -عبر مختلف مراحلها- يتجاذبها اتجاهان اثنان: ينزع الأول إلى المشاركة في أعمال المعارضة السياسية، وينزع الثاني إلى الانخراط في الحراك المدني بعيدًا عن كل ولاء حزبي أو تصادم حادٍّ مع السلطة. لكن الظروف السياسية والاجتماعية التي حفَّت بنشأة الحركة جعلت المنزع الأول -أي المعارِض سياسيًّا- يغلب على الثاني في أكثر البلاد العربية؛ فنشأت -تبعًا لذلك- عدة خلافات بين الحكومات وبين الجمعيات الحقوقية كلما نشرت هذه بياناتٍ وتقاريرَ تفضح انتهاك الحريات والحقوق في بلدانها.

كانت الحكومات تصرُّ دائمًا على اعتبار تلك الانتهاكات “تجاوزات فردية” صادرة عن أعوانٍ غير منضبطين، وكانت تفضِّل أسلوب الحوار المباشر ورفع المطالب بعيدًا عن وسائل الإعلام، على أساليب “التشهير” التي كانت الجمعيات الحقوقية تعتمدها في الغالب، والتي دأبت الحكومات على اعتبارها “مثيرة للفتنة” و”مزعزعة للاستقرار”.

في المقابل، كان النشطاء الحقوقيون يرون أن أسلوب النشر وإعلام الرأي العام المحلي والدولي بواقع الانتهاكات ضد حقوق الإنسان، هو الأنجع لحَمْلِ الحكومات، تحت وطأة الضغط والإحراج، على تغيير سياساتها وتوفير مزيد من الحقوق والحريات.

تاريخيًّا، توافرت لهذا الخيار الضاغط بعض العوامل الموضوعية المساعدة التي دفعت بعض الأنظمة العربية إلى الخروج من جمودها، وجعلتها تستجيب لعددٍ من المطالب الحقوقية. بذلك تحرَّر أنصار الحركة الحقوقية من إحراجات الحوار المغلق، الذي غالبًا ما كان يأخذ صبغة أمنية؛ لكونه عادةً ما يجري مع دوائر وزارات الداخلية. كما كسبوا قدرًا من المصداقية لدى الرأي العام، لاسيما وقد أفضت تحركاتهم الاحتجاجية إلى نتائج إيجابية من قبيل التوصل إلى رفع بعض المظالم عن عدد من المواطنين.

لكن أكثر الحقوقيين صلابة في النضال كانوا يعتبرون تلك المكاسب فردية ومحدودة القيمة، ويدعون إلى مزيدٍ من الضغط والتشهير العلني بالانتهاكات، والتعبير عن المطالب بواسطة الاحتجاج الميداني وعبر وسائل الإعلام.

جدل الضغط والإدماج

في مواجهة هذه الأنشطة الاحتجاجية والتقارير الفاضحة، اعتمدت الحكومات العربية في البداية على سياسة الرفض والتكذيب. لكن إخفاق هذه السياسة في التقليص من فاعلية الحركة الحقوقية، جعلها تهتدي إلى طريقة جديدة قوامها الاحتواء والإدماج، وذلك على مستوييْن اثنين:

  • مستوى أول: عملت فيه على إدراج عدد من مبادئ حقوق الإنسان ضمن منظوماتها التشريعية والإدارية، وضمن مقررات التعليم العمومي وبرامج الإعلام والتثقيف.
  • مستوى ثانٍ: اجتهدت فيه لإحداث هيئات رسمية ووزارات تُعنى بحقوق الإنسان. وقد حدث ذلك حتى في بلدان كانت خاضعة لنظام حكم فردي مثل ليبيا، التي شهدت إبَّان حكم القذافي تأسيس “اللجنة العربية الليبية لحقوق الإنسان في عصر الجماهير” سنة 1989.

صحيح أن بعض المفكرين والكُتَّاب قد رأوا في هذا التوجُّه الحكومي ضربًا من “الرياء المفضوح”(6)، وسعيًا تكتيكيًّا من قِبل الأنظمة إلى احتواء حركة حقوق الإنسان الصاعدة في ظل تزايد تأثيرها على المستوييْن المحلي والدولي(7). غير أن ذلك لا يمنع من الإقرار بأن تفاعل الحكومات الإيجابي مع الحركة الحقوقية قد حقَّق في حينه بعض الفوائد، على الأقل في مجال التثقيف الحقوقي.

بين السياسي والاجتماعي

إنَّ سياسة الاحتواء التدريجي التي توخَّتها الحكومات العربية، والتي بلغت أَوْجَهَا باستقطاب بعض قادة الحركة وإدماجهم ضمن التشكيلات الحكومية(8)، لم تحسم كل القضايا الخلافيَّة القائمة بين الطرفيْن الحكومي والحقوقي.

فقد ظلَّ أغلب الحكومات يصرُّ على اتهام جمعيات حقوق الإنسان بالانزياح عن سَمْتها الإنساني والمجتمعي، لجهة الإمعان في ممارسة أنشطة “ذات صبغة سياسية مناهضة للسلطة”(9). وكانت تعيب عليها -تحديدًا- المبالغة في الاهتمام بالحقوق المدنية والسياسية على حساب الحقوق الاجتماعية والاقتصادية التي نصَّتْ عليها العهود والمواثيق الدولية. في هذا السياق، عمدت عِدَّة حكومات إلى انتقاد المنظمات الحقوقية؛ بسبب ما اعتبرته تقصيرًا منها في تثمين “الإنجازات” التي حققتها الحكومات في مجال الرفع من مستوى عيش المواطنين ماديًّا.

لابُدَّ من القول -على سبيل الإنصاف-: إنَّ اتهام الحركة الحقوقية بـ”التسيُّس” هو من قبيل السجال لا أكثر، ذلك أن ضمور اهتمام الحقوقيين بالمسألة الاجتماعية في الأقطار العربية -إنْ صحَّ فعلًا- لا يمكن أن يُفهم إلا ضمن رؤيتها لترتيب الأولويات؛ ذلك أن الإصلاح السياسي إنما هو -في نظر الحقوقيين- مدخل ضروري إلى الإصلاح الشامل، تفرضه حالة الاستبداد المزمنة والمعقدة التي يعاني منها الوطن العربي(10) في ظل واقع التجزئة السائد، وحالة انفراط عُرَى التضامن البَيْني، وتصاعد النزعات القُطْريَّة، والطموح العارم إلى الزعامة الإقليمية لدى أكثر من دولة.

في محاولة للتقليص من هذا التضخم للدولة القُطرية، وللتخفيف من معاناة الإنسان العربي، اتخذت جامعة الدول العربية في 11 من مارس/آذار 1979 قرارًا بإعداد “مشروع الميثاق العربي لحقوق الإنسان”. لكن رغم مرور سنوات على صياغته، ورغم ما اتَّسم به مضمونه من تواضع في الطموح التحرري والديمقراطي، فإنَّ الجامعة ظلت عاجزة عن إدخاله حيِّز التنفيذ، الأمر الذي دعا نُخبة من الخبراء العرب إلى الاجتماع لصياغة مشروع بديل، في مؤتمر امتنعت عن احتضانه كل العواصم العربية، فالتأم بمدينة سيراكوزا الإيطالية -اضطرارًا- سنة 1986(11).

يجب التوضيح -عِلاوة على كل ذلك- أن إيلاء الحقوق المدنية والسياسية اهتمامًا متميزًا من قِبل الجمعيات الحقوقية، لم يكن يعني أن تلك الجمعيات كانت تنظر بعين الرضا إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السائدة في بلدانها، أو أنها كانت في غفلة عن قصور تشريعات دولها في هذا المجال، فقد كان ذلك معلومًا ومنشورًا على أوسع نطاق.

فيكفي النظر -مثلًا- إلى واقع الحق في العمل، وهو أكثر الحقوق الإنسانية التصاقًا بالحق في الحياة، لندرك أن المنظومات التشريعية والمجتمعية السائدة في الوطن العربي لا تستجيب لشروط هذا الحق ومقتضياته المنصوص عليها ضمن “الشِّرْعة الدولية لحقوق الإنسان”. لذلك يحق لنا أن نتساءل مع الدكتور منذر عنبتاوي: “لماذا اضطر مئات الألوف من العُمَّال العرب إلى أن يهاجروا خارج الوطن لكي ينتهوا في أحسن الحالات بتشغيل مصانع أوروبا، وفي أسوأها -وهو الأمر الغالب- بكنس شوارع المدن الأوروبية وتنظيف محطاتها ومراحيضها؟ وإذا كان ذلك يحصل في عصر النفط، فكيف تكون الحال بعد الجفاف؟ ولماذا يرفض معظمهم العودة إلى وطنهم رغم الغربة الموحشة ورغم التغريب والضياع؟ وماذا فعلته الأنظمة العربية لحماية حقوق عُمَّالها الذين يعملون في الأقطار العربية أو الأجنبية الأخرى، وبعضها يعتمد في جزءٍ من دخله على مدخرات هؤلاء التي يرسلونها إلى الوطن الأم؟ ويحق للمرء أيضًا أن يتساءل عن الأسباب التي تدفع المزارع العربي إلى هجر أرضه والتوجُّه إلى المدينة ليقبل أيَّ عمل يُعرض عليه، أو يستعمل مدخراته في دكَّان صغيرة لبيع السجائر أو غيرها هنا وهناك”(12).

إنَّ المتأمل في نصِّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي العهود والمواثيق التي تُكمله، يدرك جيدًا أن المبادئ التي تضمنتها تلك النصوص قد غطَّت كل مجالات حياة الإنسان الفردية والجماعية. فأيُّ معنى إذن لاتهام الجمعيات الحقوقية بـ”التسيُّس” المفرط، وهي التي لا تنفك تؤكِّد أنها تتخذ من تلك النصوص مرجعًا لها؟!

مراجعات أيديولوجية ومفهومية

من ضمن التداعيات التي خلَّفها التفاوت الاجتماعي المُجْحِف في الوطن العربي، أن صار مطلب العدالة الاجتماعية، خصوصًا في سبعينيات القرن الماضي، يحتلُّ موقعًا متقدمًا ضمن الخطاب الحقوقي والسياسي.

لم يكن المطلب الاجتماعي في تلك المرحلة، مستندًا إلى مرجعية ماركسية لينينية، كما كانت الحال في الخمسينيات والستينيات. ولم يكن مندرجًا ضمن نزعة “ثورية” تدعو إلى الإطاحة بالدولة، بل كان يرنو إلى إجراءات “إصلاحية” داخل المنظومات القائمة، ويُلِحُّ على أن تتحمل الدولة مسؤولياتها في “تحسين المرفق العام” و”حماية القدرة الشرائية” للمواطنين.

إنَّ ذلك التخفُّف من المرجعية الأيديولوجية مردُّه إلى كون المذهب الماركسي بدأ يشهد في تلك المرحلة تراجعًا لافتًا في أوساط المثقفين وقادة الرأي العرب(13). وقد كان من تداعيات ذلك التراجع أن تقلَّص أتباع الأحزاب الشيوعية، ولم يعُدْ في إمكانهم أن يدعوا إلى تبنِّي الخيار “الثوري” في بلدانهم.

في المقابل، حققت النزعة “الاجتماعية الديمقراطية” تقدمًا ملحوظًا، وتعددت الأحزاب الداعية إلى التوفيق بين بُعْدَي العدالة والحرية، الأمر الذي مثَّل انزياحًا تاريخيًّا عن أصول المذهب الماركسي، وبخاصة عن مبدأَيِ “العنف الثوري” و”ديكتاتورية البروليتاريا”، عِلاوة على الهوية “الشيوعية” ذاتها. هذا ما يسَّر لكثير من اليساريين العرب الانخراط تدريجيًّا في حركة حقوق الإنسان، رغم تعارض أصولها النظرية مع العقائد التي نشؤوا عليها.

ذات التحدي الأيديولوجي -تقريبًا- واجهته التيارات الإسلامية في الوطن العربي؛ فبتأثيرٍ من الحركة الحقوقية وأدبياتها، عمل قادة هذه التيارات ومفكروها منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين على مراجعة أطروحاتهم القديمة التي كانت تقسِّم المجتمع على أساس التقابل بين مفهومي “الجاهلية” و”الإسلام”، وتنظر إلى المسألة السياسية بالاستناد إلى مقولة: “الحاكميَّة لله” بمعناها الذي صاغه سيد قطب(14) وأبو الأعلى المودودي(15). وقد تميَّز المفكر الجزائري مالك بن نبي برفض تلك الأطروحات مبكرًا، وكان بينه وبين سيد قطب سجالٌ شهير بهذا الشأن، وله كتابات انتصر فيها للمواءمة بين الإسلام والديمقراطية، فتحت الباب أمام النُّخب الإسلامية لاحقًا لكي تجدِّد فكرها بإعطاء الأولوية للحقوق وللحريات بوصفها قِيمًا إنسانية عُليا(16).

وقد أدَّى هذا التطور تدريجيًّا إلى قبول حركات ما يُسمَّى “الإسلام السياسي” -عدا التنظيمات “الجهادية” العنيفة- بمبدأ الاحتكام لصناديق الاقتراع في مجال التداول السلمي على السلطة، وصار لأتباعها نشاط مشهود في منظمات المجتمع المدني الحقوقية.

على أن مقاربات الإسلاميين الحقوقية لا تزال في حاجةٍ إلى مزيد من الاجتهاد والتقعيد النظري الجريء، بما يكفل توليفًا أوثق بين قيم الإسلام وقيم الحداثة، وبما يُثرِي القيم الكونيَّة.

إن أنصار التيار العروبي لم يكونوا، بدورهم، في غِنًى عن مواجهة تحدي المراجعات الفكرية وضرورات الانسجام مع المبادئ الحقوقية الحديثة. ولئن كان للعوائق النظرية دورٌ في تعطيل جهدهم التجديدي (على اعتبار أن روَّاد الفكر القومي وكبار منظِّريه، من أمثال: ميشيل عفلق وساطع الحصري وعصمت سيف الدولة، لم يُولُوا مسألة الحريات والديمقراطية منزلتها التي تستحق ضمن رُؤَاهم الفكرية ومشاريعهم السياسية)، إلا أن العوائق الأخطر كانت ناجمة عن تماهي الفكر القومي المعاصر مع تجارب التاريخ التي عرفتها البلاد العربية بقيادة الناصريين والبعثيين، في كلٍّ من مصر وسوريا والعراق وليبيا على وجه التحديد. فقد اتسمت تلك التجارب، رغم الفوارق الثانوية بينها، بسمات أساسية مشتركة، أبرزها: 

  • توخِّي طرق الانقلابات العسكرية للوصول إلى السلطة.
  • اعتماد منهج الحكم الفردي.
  • عدم إرساء الحريات والتعدديَّة الحزبية. 
  • رفض الانتخابات الديمقراطية باعتبارها سبيلًا للتداول السلمي على السلطة.

وقد تطلَّب انفكاك الفكر العروبي عن هذه الأيديولوجيا والإرث التاريخي المجافي لحقوق الإنسان، جهودًا نقدية مضنية وجريئة بذلها أفراد وهيئات على غِرار “مركز دراسات الوحدة العربية”(17).

فكان من نتائج تلك الجهود أن انفتح كثير من قادة الرأي القوميين على الحركة الحقوقية، وقدَّموا لها بعض الإضافات، لعلَّ أبرزها المشاركة في تأسيس “المنظمة العربية لحقوق الإنسان” (سنة 1983)، والمشاركة في إنشاء “المعهد العربي لحقوق الإنسان” (سنة 1989) الذي كان للمفكر العراقي د. خير الدين حسيب دورٌ رائد في تأسيسه، بمعيَّة الوزير الأسبق والمناضل الحقوقي التونسي الراحل حسيب بن عمار، والمفكر الفلسطيني د. منذر عنبتاوي.

سياق الحاضر وسؤال المستقبل

لا جدال في أن حركة حقوق الإنسان كان لها دور رائد في تطوير الوعي والواقع العربيَّين، فقد كان الفكر العربي قبل ظهور الحركة الحقوقية يعاني من وثوقية شديدة، وكان ذلك ينعكس سلبًا على كل مكوِّنات الساحات اليسارية والعروبية والإسلامية وغيرها، جمودًا فكريًّا، وانغلاقًا على الذات، وتدابرًا بين الفُرقاء. وبلغ الأمر بالجميع -تقريبًا- حد السعي إلى الاستئصال المتبادَل، واللجوء إلى وسائل العنف لحسم الخلافات. لكن مشتركات الوعي الحقوقي التي اكتسبها الجميع في العقود الأخيرة، جعلت كل الأطراف الذين فرَّقت بينهم الخصومات ردحًا من الزمن، يُطلِقون ثورات “الربيع العربي”، جنبًا إلى جنب، رافعين مطالب مشتركة في الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.

إنَّ الحراك الثوري الذي انطلق أواخر 2010 قد مثَّل في كلٍّ من تونس، ومصر، وسوريا أثناء أَشْهُره الثمانية الأولى، واليمن، حالةَ تقدُّمٍ في الوعي العربي، وأخذ شكلَ نضالٍ مدني سِلْمي مشترك. لكنَّ اختلاف المسارات الانتقالية التي تلت الإطاحة بأنظمة الاستبداد من جهة، والمنعطَف الكارثي الذي شهدته الثورة المصرية بعد انقلاب 3 من يوليو/تموز 2013 العسكري ضد نظام الحكم المنتخَب من جهة أخرى، إضافة إلى المنعرج العنيف والمعقَّد الذي آلت إليه الثورتان السورية واليمنية بفعل مخططات الاستدراج المضادة.. كل ذلك أنتج تغيُّرًا ملحوظًا في خطاب أغلب قادة الرأي القوميين واليساريين وفريق من الليبراليين والسلفيين. فقد برزت في صفوفهم ظاهرة رِدَّة خطيرة عبَّروا عنها بعِدَّة صيغ منها مناصرة انقلاب العسكر على الديمقراطية في مصر، ومساندة سياسة التدمير الشامل التي توخَّاها نظام البعث في سوريا للبقاء في الحكم رَغْم إرادة شعبه.

خاتمة

لنا أن نتساءل في الأخير عن مدى صدقية المراجعات التي أنجزتها النخب الفكرية والسياسية فيما مضى: هل لها من صلاحية في المستقبل؟ أم تراها ظاهرة عابرة اقتضتها ظروف متغيرة، سرعان ما انكشفت بتغيّرها حقائق الجمود الفكري والأحادية السياسية وكراهية الآخر؟  وبعيدًا عن عبارات التحسّر، لا مناص من التأكيد على أن تنكّب تلك النخب عن تراث التجديد والتحديث الذي لطالما ادعت وَصْلا به، قد شكل مناسبة ثمينة لفرز تاريخي، كان لا بد أن يقع، بين مَن يدافع عن الحقوق والحريات من غير ازدواجية في الخطاب ولا ثنائية في المعايير، وبين مَن ينتصر لمبادئ حقوق الإنسان قولاً ويعاديها فعلاً.
_____________________________
المراجع والهوامش
1. نشير -على سبيل المثال- إلى وجود ثلاثة تنظيمات غير حكومية للدفاع عن حقوق الإنسان في المغرب الأقصى، وإلى وجود رابطتيْن ومعهد لحقوق الإنسان في الجزائر، منذ ثمانينات القرن الماضي.
2. تأسست “المنظمة العربية لحقوق الإنسان” سنة 1983 في قبرص خارج الأرض العربية، ثم اتخذت من القاهرة مقرًّا لها. وهي تمتلك مكتبًا لها في مدينة جنيف السويسرية، وقد تحصَّلت على الصفة الاستشارية لدى منظمة الأمم المتحدة في مايو/أيار 1989.
3. نذكر في هذا الصدد محاولة الجمعيات التونسية والجزائرية والمغربية والموريتانية لحقوق الإنسان إنشاء اتحاد فيما بينها منذ 1990، لكن أسبابًا ظرفيَّة حالت دون اكتماله. ولم يمنعها ذلك من تنسيق بعض أنشطتها وإصدار بيانات مشتركة من حين إلى آخر.
4. تأسست “الجامعة الدولية لحقوق الإنسان” سنة 1922، وأُعيد تشكيلها سنة 1948 بعد انقطاع دام مدة الحرب العالمية الثانية. ويوجد مقرُّها في العاصمة الفرنسية باريس.
5. تأسس “المعهد العربي لحقوق الإنسان” برعاية “المنظمة العربية لحقوق الإنسان” سنة 1989، ويوجد مقرُّه في تونس.
6. لحود، عبد الله ومغيزل، جوزيف، حقوق الإنسان الشخصية والسياسية، (منشورات عويدات، بيروت/باريس 1972)، ص 6.
7. من ذلك أن البلدان الأوروبية قد ربطت إعاناتها الاقتصادية للبلدان النامية بمدى احترامها لحقوق الإنسان، وعملت القوى الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، على دفع “منظمة الأمم المتحدة” إلى إقرار مبدأ “حق التدخُّل” في البلدان التي لا تحترم أنظمتها مبادئ حقوق الإنسان.
8. من أبرز قادة تنظيمات حقوق الإنسان العربية الذين تولَّوا مناصب وزارية في الوطن العربي الراحلان محمد الشرفي والدالي الجازي في تونس، والسيد عمر عزيمان في المملكة المغربية.
9. برزت هذه المؤاخذة بشكل خاص في سياق الخلاف الذي نشب بين “الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان” وبين الحكومة في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي منذ سنة 1991. وقد جاء التعديل الذي أُدخِل على “قانون الجمعيات” التونسي في 2 من إبريل/نيسان 1992 ليزيد الموضوع تعقيدًا؛ حيث نصَّت الصيغة المعدَّلة على ضرورة منع الأعضاء القياديين في الأحزاب السياسية من تحمُّل مسؤوليات قيادية في الجمعيات “ذات الصبغة العامة”. وكُلِّفت وزارة الداخلية بتحديد الجمعيات المندرجة ضمن هذا الصنف؛ فقامت في إثْره بإدراج “الرابطة” ضمنه، بما أوحى في حينه أن التعديل القانوني كان يستهدفها هي بالذات؛ بغاية إفراغها من عدة قيادات ذات إشعاع.
10- باتروورث، شارلز، الدولة والسلطة في الفكر السياسي العربي، (دار الساقي، لندن 1990)، ص5.
11. وقعت صياغة “مشروع ميثاق حقوق الإنسان والشعب في الوطن العربي” سنة 1986 من قِبل مؤتمر الخبراء العرب بالمعهد الدولي للدراسات العليا في العلوم الجنائية الذي انعقد بمدينة سيراكوزا بإيطاليا، كبديل عن مشروع الجامعة العربية الذي لم يدخل حيِّز التنفيذ.
12- عنبتاوي، منذر، الإنسان قضية وحقوق: دفاعا عن حقوق الإنسان في الوطن العربي، (منشورات المعهد العربي لحقوق الإنسان، مطبعة تونس قرطاج 1991)، ص 140، 141.
13- محمود، مصطفى، لماذا رفضت الماركسية؟، (مكتبة الجديد، تونس 1988)، ص47 وما بعدها.
14ـ قطب، سيد، معالم في الطريق، (مكتبة وهبة، القاهرة 1964)، ص 10.
15- المودودي، أبو الأعلى، الإسلام والجاهلية، (دار التراث العربي، القاهرة 1980) ط 2، ص6 – 10.
16. للوقوف على مضامين هذه المراجعات، انظر في الرد على فكر كلٍّ من قطب والمودودي: د. يوسف القرضاوي، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية مع نظريات تحليلية في الاجتهاد المعاصر، دار القلم- الكويت، 1406هـ/1985م، ص186-213؛ حيث يعترض على رأي سيد قطب في إطلاق مصطلح الجاهلية على المجتمعات الإسلامية المعاصرة، ويفنِّد رأيه في الامتناع عن الاجتهاد الفقهي لحل مشكلات المجتمع الجاهلي المعاصر بناء على اختلاف مشاكله عن مشاكل المجتمع الإسلامي المنشود.
17. تأسس “مركز دراسات الوحدة العربية” ببيروت سنة 1975، وتولَّى الدكتور خير الدين حسيب رئاسته منذ ذلك التاريخ. أشرف على نشر أكثر من 500 دراسة في شكل كُتب، وظلَّ منذ 1978 يُصدِر المجلة الشهرية المهمَّة “المستقبل العربي”، التي استمرت تصدر بانتظام وتُنشَر على نطاق واسع.

  بنعيسي الدمني

مركز الجزيرة للدراسات