يعلم أي صبي يبلغ من العمر 14 عاماً لديه بعض الاهتمام بالتاريخ أن الثورات تميل إلى الاندلاع عبر اقتحام مقر السلطة وربما، إنما ليس دائماً، بتحريض من زعيم قوي.
ويُعزا ظهور هذه المشاهد على الشاشات الأميركية في وقت الذروة لهذا السبب تحديداً. وكاتب هذا المشهد هو الرئيس المنتهية ولايته الذي لا يختلف بأي شكل من الأشكال عن ذلك الصبي ذي الـ14 عاماً، هو الذي لم يفهم السياسة يوماً سوى على أنها أحد برامج تلفزيون الواقع التي تُعرض على قنوات إخبارية تبث برامجها على مدار الساعة.
يزدهر نهج ترمب على الخوف والرعب الذي ينشره. تتغذى الفاشية الأميركية البدائية على مد الرعب والسخط الذي يرافق تحركاتها ويسبب إدماناً كيميائياً، ويُعبَّر عنه من خلال بنية معلومات وسائل التواصل الاجتماعي التي لا يمكنها سوى أن تكون مفرطة التبسيط وترجح كفة كل المُضَخَّم وما ينذر بنهاية العالم أكثر من كل شيء.
يهجم حشد من الناس على مبنى الكابيتول فيخترق الوجود الأمني القليل ثم يكتشف أنه لا يملك فكرة عما يريد أن يفعله بعد التقاط بعض صور السيلفي ثم يُطلب منا أن نعتقد أننا عدنا إلى شهر أكتوبر (تشرين الأول) 1917 في العاصمة واشنطن.
كل ما في دونالد ترمب يدعو إلى إقامة مقارنات مع ثلاثينيات القرن الماضي. وينبهنا ذلك إلى أن كل الشخصيات الغوغائية تكون موضع سخرية إلى أن يفوت الأوان. وأن سخافتها هي أحد أعظم أسلحتها.
في سياق الاندفاع المحموم لقول أي شيء، غالباً ما تكون الملاحظة الأغرب والأكثر إثارة للصدمة هي الأكثر أماناً. من السهل الاستعانة بتشبيهات تاريخية كبيرة، وهي منقوصة دائماً ومن النادر أن تعود بالفائدة على أي كان. إذا سخرت من ترمب، فالمتوقع أن يقال لك إنهم سخروا من موسوليني إلى أن فات الأوان وإن الحقبات المظلمة لا تعلن عن قدومها، بل إن الأضواء تخفت وتنطفئ شيئاً فشيئاً. تبقى الغرفة على حالها لكن في وقت من الأوقات، يكون كل شيء قد تغير.
لكن هل هو صعب إلى هذه الدرجة أن نتمسك بواقع الأيام التي نعيشها بالفعل؟ وأننا لسنا في ثلاثينيات القرن الماضي. وأن الحادثة التي وقعت فعلاً في العاصمة واشنطن، ليلة الأربعاء، هي النتيجة القاتمة للانتخاب الشرعي منذ أربع سنوات لرئيس لم تُأخذ ميوله إلى اليمين المتطرف على محمل الجد بما يكفي. ولكنه أيضاً بعد مرور أربع سنوات على ذلك، خسر.
أنتجت الأحداث المريعة التي وقعت في مبنى الكابيتول رد فعل محق ضد السياسيين والخبراء الذين جاروا دونالد ترمب منذ أربع سنوات، حين كان كل ما يمثله واضحاً للعيان.
بيرس مورغان، على سبيل المثال، قد أعاد تقديم نفسه على أنه شخص ليبرالي من يسار الوسط عبر هجومه اليومي على وزراء حكومة المحافظين بسبب كوفيد-19. لكن مورغان نفسه أمضى نحو سنة يكتب مقالات يتملق فيها الرئيس نجم تلفزيون الواقع الذي اعتاد أن يناديه “البطل”، واختار صورة لطيفة تجمعه بترمب وضعها كصورة تعريفية له على “تويتر” لمدة سنة تقريباً. وحين أجرى مقابلة معه، أهداه قميصاً لفريق نادي أرسنال. حدثت كل هذه الأمور بعد فترة طويلة من مطالبة الرئيس بحظر دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة كلياً. كان قد تخطى كل الخطوط الحمر منذ اليوم الأول له.
إنما هل يُعقل أننا نشهد اليوم أمام ما يحدث اليوم وهذا الأسبوع استخفافاً يشبه سابقه؟ وأن ما يُستهان به ولا يؤخذ على محمل الجد كما يجب هو نبذ الفاشية البدائية بشكل حاسم وتام في بلد ما زال عظيماً؟
تقول التقارير إن ترمب يتحصن داخل البيت الأبيض في حالة سخط من انطفاء الأضواء عنه. لكن الأضواء لا تنطفئ بل تُشعل من جديد، وانقلاب ترمب الذي جاء على طراز عرض “ترومان شو” أمام الجمهور الحاشد لقناة “فوكس نيوز” الإخبارية، ليس قوياً بقدر الخوف منه الذي يبدو أن معارضيه يتمسكون به.
هذا لا يعني أنه لا وجود لأسباب تدعو للقلق الشديد. ومدار التساؤل الذي يوضح الأمور أكثر في المستقبل هو موقف الحزب الجمهوري، مع دونالد ترمب أو من دونه، وإذا ما كان قرر أنه لم يعد قادراً على الفوز بالانتخابات باستخدام الطرق التقليدية وأن سبيله الوحيد للوصول إلى السلطة هو على حساب الديمقراطية.
ولا شك أن هذا ما يحدث الآن، لأن دونالد ترمب خسر انتخابات بفارق شاسع والوسائل الاستبدادية بالتالي هي الوحيدة المتاحة أمامه.
إحدى المشاكل الأزلية في الديمقراطيات التمثيلية هي ميل المرشح الخاسر إلى ترك آثار رائحة نتنة بعد خروجه من المصعد. وعلى سبيل المثل، يكثر في صفوف كتلة حزب العمال البرلمانية [في بريطانيا] تلامذة الكوربينية الجهلة الذين وجدوا أنفسهم من دون مُخلص يتبعونه. والسلطة التشريعية الأميركية ممتلئة هي الأخرى بمناصري ترمب الغاضبين الذين يشعرون بيقين تام أن من واجبهم “جعل أميركا عظيمة مجدداً” ولو على حساب كل المعايير الديمقراطية.
علينا التفكير في احتمال أن ترمب النسخة الأميركية السخيفة بعض الشيء عن الجنرال دانونزيو. وأن خلفه لن يكون على هذه الدرجة من الغباء.
لكن ما يسري اليوم لن يسري على الدوام. وبالكاد يمكن أن يستمر إلى المدى المتوسط. ولمن يقومون بتكهنات جريئة عن شكل العالم بعد أربع سنوات، هناك جواب حاد. انظروا إلى الأربعة التي مرت للتو.
مما لا شك فيه أن أمواج الخوف والذعر والسخط التي تبعثها تصرفات ترمب في خصومه هي قوة مؤثرة وعظيمة اعتاد على استخدامها لصالحه. وهذه مشاكل ليس لها حلول سهلة. تمثل وسائل التواصل الاجتماعي بشكلها الحالي خطر الموت لطريقة عمل الديمقراطيات الحديثة. إنما في الأمس القريب، أغلق “تويتر” حساب دونالد ترمب، ولو كان تعليقاً مؤقتاً. ليس من الضروري أن تسوء الأمور دائماً. من الممكن جداً أن نكون قد تخطينا أسوأ المراحل.
“ليس علينا أن نخاف شيئاً سوى الخوف نفسه” كما قال أحدهم مرة في ثلاثينيات القرن الماضي للمصادفة، وهو يقف في المكان نفسه الذي احتله البارحة رجل عاري الصدر يعتمر قرنين ويحمل رمز موقع مختص بنظرية مؤامرة على الإنترنت. وما زالت هذه الكلمات صحيحة الآن كما كانت حينها.
لا سبب على الإطلاق في عدم تمسك أميركا ومعجبيها بتاريخ 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 عوضاً عن الأربعاء 6 يناير (كانون الثاني) 2021، باعتباره يوماً تغير فيه فعلياً مجرى التاريخ.
توم بيك
اندبندت عربي