لا مع ترامب ولا ضده

لا مع ترامب ولا ضده

ليس كاتب هذه المقالة من عشاق الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ولا من عشيرة خصمه الرئيس المنتخب جو بايدن، ولكنه يقوم هنا بدور المحقق المعتدل العادل الذي يشخص المشكلة بحذافيرها دون زيادة ولا نقصان، خصوصا ونحن عرب أميركا لا يهمنا من هذه الحرب الدائرة بين داعس الديمقراطيين وغبراء الجمهوريين سوى ما سوف يصيب أهلنا في أوطاننا الأم من منافع أو شظايا قد تنجم عن معارك المصير المشتعلة في واشنطن بين فريقين لا يقل أيٌ منهما شراً وعنفا وغدرا وكذبا ونفاقا عن صاحبه الآخر بالكثير.

والشيء بالشيء يذكر. فقد أثبت الديمقراطيون الأميركيون والجمهوريون، معا، أنهم مثلُنا، نحن أبناء دول العالم الثالث والخمسين. فحين نكره لا نرحم، ونمحو آخر حسنة من حسنات الذي كرهنا، وحين نحب نأبى بشمم أن نعترف بأية نقيصة في من أحببنا. لا وسط بين هذا وذاك، ولا تهاون، ويا أهلا بالمعارك.

فلم يعد أحد يرى لترامب فضيلة، وقد ذهب أدراج الرياح كل ما فعله لأميركا، في سنوات حكمه الأربع، في مجالات الاقتصاد والبطالة والسياسة الخارجية وتعديل موازين العدالة بين أميركا ودول عديدة، وضبط الحدود، وفضح أوراق باراك أوباما وهيلاري كلينتون وجو بايدن التي تعتبر من أسرار الدولة بصراحة أقرب ما تكون إلى الحماقة التي لا تليق برئيس.

فقد حملوه جريرة إقدام شرطي متخلف على قتل مواطن أميركي أفريقي بهمجية، وكأن ترامب هو الذي أمره بذلك. وحين حدث الانفلات والنهب والسرقة والتخريب والتكسير، بحجة تلك الجريمة، أمر بإنزال الجيش لضبط الأمن فاتهموه بالفاشية والإرهاب. ثم جعلوه المسبب الأول والأخير في موت الذين قتلهم فايروس كورونا، وجرموه عليه.

ولوضع اليد على أصل المشكلة الأميركية الأخيرة ينبغي التعرف على حقيقتين يمكن اعتبارهما المشغلتين لماكينة البيت الأبيض مع اختراعات الكونغرس، ومكائد الإعلام الأميركي الذي ثبت أنه لا يختلف عن إعلامنا العربي في انحيازه إلى طرف ضد آخر، وفقدانه الحياد والمهنية إلا ما رحم ربي.

المسألة الأولى تتلخص في أن الديمقراطيين خاضوا مع غريمهم وعدوهم اللدود ترامب حروب العزل والتسقيط والتسخيف من أول يوم فاجأهم فيه بانتزاع الرئاسة منهم، ودخل البيت الأبيض دخول الفاتحين. ثم لم يتوقفوا يوما عن الإصرار والترصد وتصيد الفرص بهدف الانتقام.

والمسألة الثانية أن الفائز بأصوات 70 مليون ناخب أميركي، دون شوائب تزوير وتلفيق، لا بد أن يجعل خصومه العارفين بأن فوزهم لم يكن سليما، مئة في المئة، يخشون من عودة منافسهم الجريح إلى الرئاسة بعد أربع سنوات لينتقم منهم أشد الانتقام، وعليه فإن استباق ذلك بعزله اليوم، في أفضل الظروف المناسبة لهم سياسيا ودعائيا، سيمنعه من الترشح للرئاسة إلى أبد الآبدين.

لم يعد أحد يرى لترامب فضيلة
وإصرار نانسي بيلوسي، رئيسة الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب، وهي الأكثر حقدا وسما وعنفا ودموية ورغبة في البطش بغريمها ترامب، بأقصى ما يمكن، وبأسرع ما يمكن، لا تفسير له سوى الخوف من ميول ترامب الانتقامية الشديدة التي ذاقت، هي ومعها رفاق ورفيقات في الحزب الديمقراطي، بعضَ مرارتها في سنوات حكمه الأربع الثقال الطوال.

فقد ذهبت في تحاملها إلى حد الاتصال برئيس هيئة الأركان المشتركة لتطلب منه منع الرئيس من الأمر بأية أعمال عسكرية أو إطلاق أسلحة نووية. وتقول صحيفة وول ستريت جورنال إن هذا انتهاك لمبدأ فصل السلطات، فلا يحق لها أن تأمر قيادة الأركان بعدم إطاعة الرئيس.

ويكفي أن أشد الدعاة المتحمسين لفكرة العزل هي النائبة المتشنجة الأميركية من أصل صومالي، إلهان عمر، القائلة علنا “أعمل على إعداد مواد الإقالة، يجب عزل دونالد ترامب من قبل مجلسي النواب والشيوخ، لا يمكننا السماح له بالبقاء في منصبه، إنها مسألة حفاظ على جمهوريتنا، ونحن بحاجة إلى الوفاء بالقسم الذي أديناه”.

وبالعودة إلى أحداث اقتحام مبنى الكونغرس من قبل مئات فقط من المتعصبين لترامب، فإنه من غير الثابت أن الرئيس نفسه طلب منهم ذلك الاقتحام، ولكن المتوقع أن يفرح به، لأنه يشفي بعض غليله، ويُرضي غروره، دون ريب.

إن سبعين مليون ناخب صوتوا لترامب، من تلقاء أنفسهم، ودون قهر وإرهاب. ومن الطبيعي والمتوقع أن يشعر هؤلاء بأنهم غُلبوا غيلة، وبأن هناك شيئا مريبا حصل. والذي أزعجهم أكثر أنهم لا يملكون سببا قانونيا واحدا يُمكّنهم من إلقاء القبض على الحرامي. وطبيعي أن يغضب ويثور ويفقد أعصابه الذي سُرقت دارُه عياناً جهارا ويعرف السارق ولكن ليس لديه دليل.

ومن قبل الانتخابات بأشهر طويلة عبر ترامب عن مخاوفه من لعبة التصويت بالبريد. وذلك لمعرفته بأنْ لا قدرة لأحد على ضبط موظف البريد، إذا كان متأففا من ترامب، إذا ما سمح لناخب متواطئ بأن يقترع مرة ومرتين وثلاثا، دون أن يؤشر على وثيقة التعريف التي يحملها بقيامه بالاقتراع، الأمر الذي يُمكّنه من الذهاب إلى مراكز الاقتراع الاعتيادية ليعاود التصويت مجددا.

وقد ساعدت الديمقراطيين على تحقيق هذا الانتصار جيوشٌ من المتضررين من لسان ترامب وسقطاته وقراراته وتصريحاته المهينة، أحيانا، لشرائح واسعة من الأقليات الإثنية التي لم يُحسن مداهنتها واستمالتها، وبالأخص تلك التي تتخذ مواقفها السياسية الانتخابية تبعاً لأوامر وتوجيهات ووصايا من حكومات وأحزاب خارجية لها مع ترامب حسابات طويلة تريد أن تصفيها معه، بأقصى ما تستطيع.

ومن يجالس الأميركيين في المقاهي وأماكن التسوق العامة يسمع المؤيدين لترامب، والكارهين الشامتين بخسارته، سيسمعهم يتحدثون عن حدوث تلاعب وتزوير، سواء قصدَه وقادَه الحزبُ الديمقراطي، أو فعلَه أناس آخرون متطوعون، دون علم الديمقراطيين وإرادتهم وتخطيطهم. ولكن الذي حدث قد حدث، ولا سبيل إلى إعادة الزمن إلى الوراء.

نعم إن الذي حدث في مبنى الكونغرس شيء همجي لا حضارة فيه ولا ديمقراطية ولا هم يحزنون، ولكن إذا عُرف السبب بطل العجب.

والخلاصة أن ترامب الذي جاء إلى الرئاسة بالغلط ويغادرها بالغلط أيضا هو الرئيس الأميركي الوحيد الذي صنع لنفسه هذه الكمية الهائلة من الأعداء الكارهين الحاقدين وطلاب الثأر الذين لن يكتفوا بطرده من البيت الأبيض، فقط، بل سيجرون وراءه حتى نهاية عمره الطويل.

العرب