الإصلاح الاقتصادي.. خسارة الشركات الحكومية في مواجهة شروط صندوق النقد

الإصلاح الاقتصادي.. خسارة الشركات الحكومية في مواجهة شروط صندوق النقد

يمثل قرار تصفية عملاق صناعة الصلب في الحقبة الناصرية اختبارا صعبا تواجهه الحكومة المصرية. وقد أثار هذا القرار حفيظة قوى سياسية وشخصيات ثقافية رفضت خصخصة الشركة العملاقة، وفضلت الاكتتاب العام لإنقاذ الشركة وإعادة الهيكلة عوض التصفية وتسريح العاملين بها.

يواجه النظام المصري، لأول مرة، تحديا عمليا جراء سياسات الإصلاح الاقتصادي التي شرع في تطبيقها منذ حوالي أربعة أعوام بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، عندما قررت الجمعية العامة غير العادية لشركة الحديد والصلب، مؤخرا، تصفيتها وخروجها نهائيا من النشاط بسبب خسائرها المتراكمة على مدى عقود التي أدت إلى عدم قدرتها على العودة للإنتاج، الأمر الذي أثار غضب شريحة من المصريين.

وتكمن أهمية الشركة في أنها من أهم رموز الحقبة السياسية خلال فترتي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وتفاخر بها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر باعتبارها نموذجا للإرادة والطموح واستقلال القرار. وتأتي التضحية بها التزاما بتوجيهات صندوق النقد الذي ألمح مرارا لتصفية الشركات الخاسرة التي تستنزف موارد البلاد، ما يحمل مضامين كبيرة تتجاوز الحسابات الاقتصادية.

قوى سياسية وشخصيات ثقافية التفت حول رفض خصخصة الشركة، وحث بعضها الناس على الاكتتاب العام لإنقاذها

والتفّت قوى سياسية وشخصيات ثقافية حول رفض خصخصة الشركة العملاقة، وحث بعضها الناس على الاكتتاب العام لإنقاذ أحد الصروح المهمة، والبحث عن خطوات أخرى خلاقة لإعادة الهيكلة وليس التصفية وتسريح العاملين. وهو ما يمثل تحديا للنظام المصري برمته الذي تصور أن تحركات الإصلاح الاقتصادي، مهما بلغت قسوتها، سوف تمر مرور الكرام، وأن فكرة الغضب تلاشت من الوجدان العام.

ويقول مراقبون إن تزايد الرفض لهذه الخطوة يمكن أن تكون له ظلال سلبية على خطة النظام لاستكمال برنامج الإصلاح الذي لامس نقاطا مهمة، لم يكن غالبية المصريين يتصورون إمكانية القبول بها، بدءا من رفع الدعم عن الكثير من السلع والخدمات الأساسية وحتى اللجوء إلى طرح شركات خاسرة للبيع، وقبلوا بها أملا في تغيير أحوالهم المعيشية والتي لم تظهر عليها بعد بصمات الإصلاح.

ويتجاوز التخلي عن شركة الحديد والصلب المعاني المباشرة ويدخل في صلب التقديرات التي يتبناها النظام المصري، حيث أوحت تصورات سابقة أنه يسير على طريق الرئيس عبدالناصر في الاحتفاظ ببنية قوية تملكها الدولة، وهو ما يتعارض مع الخطوات الاقتصادية الليبرالية، وتجلت معالمها في تحرير صرف العملات الصعبة وتحرير الأسعار عموما وما تبع ذلك من تداعيات مختلفة، ولذلك يعد التفريط في هذه الشركة إعلانا عن تفريط في سياسات تدثرت بشعارات الحقبة الناصرية.

أعباء متراكمة
وافقت الجمعية العامة للشركة على تقسيمها إلى شركتين، إحداهما الحديد والصلب التي تم اتخاذ قرار تصفيتها، والثانية شركة جديدة للمناجم والمحاجر من المنتظر أن يدخل القطاع الخاص شريكا في تشغيلها في الفترة المقبلة.

وتأتي فلسفة التقسيم من أن نشاط التصنيع الحكومي لن تفلح معه الجهود المبذولة لإنقاذه بعد أن تهالكت أصول الشركة، وعجزت بيوت الخبرة العالمية التي تم إسناد عملية تأهيلها مجددا عن وضع خطة لإنقاذ الشركة من نزيف الخسائر.

ويعتقد بعض الخبراء أن قطاع المناجم والمحاجر قد ينتظره مستقبل مشرق، حيث تمتلك الشركة مناجم ومحاجر ضخمة في منطقة الواحات البحرية بصحراء مصر الغربية، وهو ما يواكب طرح مصر مزايدات عالمية لاستكشاف ثرواتها المعدنية في الصحراء كل شهرين.

ياسر عمارة: الشركات الحكومية فقدت قدرتها على المنافسة

ويعزز هذه الاتجاه دخول مستثمرين أجانب في مشاركات مع الشركة المنقسمة، وقد يوفر فرصة للربح بعيدا عن نشاط التصنيع الخاص بالحديد والصلب.

وتكبدت الشركة التي تأسست عام 1954، خسائر بلغت 31 مليون دولار خلال العام المالي الماضي مقابل 100 مليون دولار قبل عام بعد توقف الإنتاج، الأمر الذي قلل معدل الخسائر التي تتمثل في الرواتب وبعض المصروفات الثابتة.

ويصل عدد الشركات القابضة التابعة للحكومة المصرية نحو ثماني شركات تعمل في 15 صناعة، وتضم 121 شركة تابعة ويعمل بها نحو 214 ألف عامل، منها 48 شركة خاسرة، بلغ صافي خسائرها نحو 425 مليون دولار.

وتستحوذ 26 شركة على نحو 90 في المئة من إجمالي خسائر الشركات الحكومية، في مقدمتها شركات الغزل والنسيج، والدلتا للصلب والنقل والهندسة، والدلتا للأسمدة، ومن المرجح أن تلقى هذه الشركات نفس مصير القومية للإسمنت.

وتتجاوز ديون الشركات الحكومية مجتمعة حاجز المليار دولار لشركات الكهرباء والغاز، بخلاف الدائنين التجاريين بما يفاقم عمليات تطويرها.

وأكد الخبير الاقتصادي، ياسر عمارة، أن الحكومة تحاول إعادة هيكلة شركات قطاع الأعمال العام وفقا لظروف كل شركة، ولذلك قررت تقسيم شركة الحديد والصلب إلى شركتين بفصل نشاط المناجم في شركة مستقلة وتصفية مصنع الحديد والصلب.

وأضاف لـ”العرب”، أن الشركات الحكومية ظلت لسنوات تعمل تحت سقف الحماية، ما أدى إلى خروجها من السوق لعدم قدرتها على المنافسة.

وبلغت الالتزامات والمطلوبات على شركة الحديد والصلب العام الماضي نحو نصف مليار دولار، فضلا عن رواتب العاملين البالغة نحو 53 مليون دولار.

ويصل عدد العاملين بالشركة إلى نحو 7114 عاملاً، ولجأت إلى الشركة القابضة للصناعات المعدنية لسداد رواتب الموظفين لعدم قدرتها على دفعها.

وقال خالد الشافعي، مدير مركز العاصمة للدراسات والأبحاث الاقتصادية، ‎إن فشل جميع محاولات إنقاذ وتشغيل شركة الحديد والصلب يعكس واقع قطاع الأعمال العام الذي يحتاج إلى أفكار غير نمطية تعزز صمود الشركات في السوق.

وتصطدم هذه الطموحات بمناخ لا يحفز على التطوير داخل الشركات، فضلا عن مستويات جودة للمنتجات لا تقوى على منافسة منتجات القطاع الخاص، وما يؤكد ذلك أن معظم القطاعات التي تعمل فيها الشركات الحكومية وتحقق خسائر، يقابلها نفس النشاط لشركات القطاع الخاص والذي يحقق أرباحا قياسية.

وأوضح الشافعي لـ”العرب”، أن هناك عددا من الشركات الحكومية يحتاج إلى قرار جريء في التعامل معها لإعادة هيكلتها، ومنها شركات استصلاح الأراضي الحكومية الخاسرة والتي يصمم البعض على إعادة إحيائها بينما يوجد بديل جديد وهو ضمها إلى شركة الريف المصري.

وتعكف شركة الريف المصري على تسويق وزارعة مشروع مليون ونصف المليون فدان وتحقيق عائدات مالية، رغم أنها شركة حكومية لكنها تدار بفكر القطاع الخاص.

صدمة شعبية
يصطدم قرار التصفية بحملات شعبية رافضة تأخذ طريقها للتصاعد بين دوائر ثقافية وسياسية عديدة اقترحت اللجوء إلى الاكتتاب الشعبي واستجاب لها المئات من الأشخاص خلال ساعات قليلة من إطلاقها. وبالرغم من كونها لا تحمل حتى الآن إشارات للتظاهر أو الاحتجاج الرسمي، كما الحال في قرارات سابقة، إلا أن هناك مخاوف من استغلال الأمر من قبل قوى معارضة تجد الفرصة سانحة لتوجيه القرار سياسياً.

ولقيت دعوة الكاتب أحمد الخميسي، التي حملت عنوان “لا لبيع الحديد والصلب. معا نحن نشتري”، أصداء على مستويات مختلفة تفاعلت معه على موقع التواصل الاجتماعي، والتي يعتبرها أحد أنواع الاعتراض على بيع المصنع، ودعا الأحزاب إلى أن يكون لها دور في تلك الحملة.

وأشار الخميسي في تصريح لـ”العرب”، إلى أن تحويل الحملة الافتراضية إلى خلية عمل متحركة على الأرض سيكون أمراً واقعاً الأيام المقبلة، بعدما أبدى المئات من المواطنين رغبتهم في شراء أكثر من 10 آلاف سهم، تبلغ قيمة السهم الواحد مئة جنيه، بدلاً من قيمة السهم الحالية في البورصة التي لم تصل إلى خمسة جنيهات، وأن الحملة آخذة في الانتشار بشكل سريع بين عدد من مستخدمي مواقع التواصل.

خالد الشافعي: قطاع الأعمال يحتاج أفكارا غير نمطية

وأرجع التفاعل إلى كون الشركة تمثل أهمية وطنية للمصريين، لأنها كانت التحدي الحقيقي لأن تصبح مصر دولة صناعية، وليست مجرد مشروع اقتصادي تبنيه الدولة وقررت التخلي عنه، وهو ما يُفسر إقدام الحكومة على إغلاق عدد من الشركات من دون أن يحظى الأمر باهتمام شعبي.

وأسهمت شركة الحديد والصلب في بناء حائط الصواريخ الذي شيدته القوات المسلحة المصرية خلال حرب أكتوبر 1973، ولعبت دورا كبيرا في بناء جسم السد العالي الذي بدأ تشييده منتصف القرن الماضي، ما جعل التعامل معها يأخذ أبعادا سياسية، ويشكل ركيزة لقوى ناصرية تجد فرصة للتأكيد على أنها حاضرة على الساحة.

ويقول متابعون إنه يوجد مزاج شعبي يرفض التعامل بهذه الطريقة مع شركة الحديد والصلب، لأن هناك شركات خاصة مماثلة تعمل في ذات المجال وتحقق أرباحا كبيرة، ما يعني أن المشكلة في طريقة إدارتها، أو أن هناك أبعادا أخرى تضعها الحكومة في اعتبارها لا علاقة لها بمصير ومستقبل العمال. بالتالي، من المهم استعادة الروح التشاركية مجدداً مثلما كان الحال في مواقف سابقة على رأسها تدشين قناة السويس الجديدة.

ويبدو من الواضح أن هذا المزاج دفع محاميين لإقامة دعاوى قضائية ضد كل من رئيس الحكومة مصطفى مدبولي ووزير قطاع الأعمال لوقف تنفيذ القرار الصادر بتصفية الشركة، واستندت الدعاوى إلى أنها بالأساس شركة مساهمة مصرية شارك فيها مصريون عبر الاكتتاب العام، وهو ما يفرض العودة إلى ذلك الإجراء مجدداً، خاصة أن ثمة أوصولاً تمتلكها من الممكن الارتكان عليها لتصفية ديونها ومعالجة خسائرها.

وقلل مراقبون من إمكانية تأثير هذه التحركات على قرار التصفية باعتباره نابعاً من الجمعية العامة للشركة، وبالتفاهم بين النظام الحاكم وصندوق النقد الدولي، لكن الأمر قد يأخذ مناحي أخرى إذا كانت هناك خطوات تصعيدية من قبل العمال أنفسهم.

أحمد الخميسي: وجوب تحويل الحملة الافتراضية إلى خلية عمل على أرض الواقع

وبدت الحكومة أكثر تمهلا في الإعلان عن التعويضات التي ستقدمها لهم، بما لا يُفسح المجال أمام تكرار أحداث مدينة المحلة الكبرى (غرب دلتا النيل) في 6 أبريل من العام 2008، بعد أن تدخلت قوى وتنظيمات سياسية عديدة على خط الاحتجاجات التي نظمها عمال مصنع الغزل والنسيج احتجاجاً على تردي أوضاعهم.

وذهب محمد سامي، عضو الهيئة العليا لحزب تيار الكرامة (ناصري معارض)، للتأكيد على أن هناك العديد من الممارسات الاستفزازية التي تدفع أي قوة معارضة للنظام للدخول على خط الأزمة، لأن الشركة ما زالت تمتلك أصولا كبيرة من الممكن الاستفادة منها قبل قرار التصفية، بجانب أن أباطرة الحديد الذين يعملون في القطاع الخاص يمارسون كافة أنواع الترف أمام أعين المواطنين.

ولفت في تصريح لـ”العرب”، إلى وجود تساؤلين يدوران في أذهان الكثير من المواطنين مفادهما، هل هؤلاء أكثر قدرة على إدارة مشروعاتهم من شركة لديها تاريخ يمتد لعشرات السنين، وكانت المفرغ الأول للعاملين في مصانع القطاع الخاص؟ ولماذا تتعامل الحكومة مع أصولها بهذا القدر من الاستخفاف في حين أنها تستطيع تحقيق شعاراتها المتكررة بالحفاظ على القلاع الصناعية الكبرى؟

ربما تتجاوز الصحوة الحالية ضد قرار التصفية فكرة غلق مصنع أو شركة، وتأخذ أبعادا أخرى تتعلق بفكرة الدفاع عن العدالة الاجتماعية التي تتبناها الحكومة في جميع قراراتها التي تقول إنها تراعي الطبقات الفقيرة، بالتالي فإن القيادة السياسية تجد نفسها في موقف لا تحسد عليه لأن عدم استجابتها للأصوات المعارضة قد يدحض ما تروج له من شعارات اقتصادية، وهو ما يمثل أخطر التحديات الجديدة أمام النظام المصري، التي يفتح تجاوزها المزيد من الأبواب لاستكمال منهج الخصخصة، ويؤدي التعثر إلى فرملة الكثير من التوجهات الرامية لاستكمال روشتة الإصلاح الاقتصادي القاسية.

العرب