مِنْ قَتْل المهندس إلى معاقبة الفياض: واشنطن ترفض التسليم بإدماج الميليشيات الشيعية في الدولة العراقية

مِنْ قَتْل المهندس إلى معاقبة الفياض: واشنطن ترفض التسليم بإدماج الميليشيات الشيعية في الدولة العراقية

تشكّل الحشد الشعبي بادئ الأمر لمهمّة محدّدة، تتمثّل في قتال تنظيم داعش الذي غزا في 2014 ما يقارب ثلث مساحة العراق في ظلّ حالة من شبه الانهيار وصلت إليها القوات العراقية آنذاك جرّاء السياسات الرسمية التي مورست ضدّها وتسرُّب الفساد والاعتبارات غير المهنية من محسوبية وطائفية وغيرها إلى صفوفها.

وقد اكتملت تلك المهمّة بالفعل سنة 2017 بهزيمة التنظيم واستعادة جميع الأراضي التي سيطر عليها. ومع ذلك لم يتمّ حلّ الحشد الشعبي وإلغاء دور الميليشيات وحصر حمل السلاح والاضطلاع بالمهام الأمنية والدفاعيّة بيد القوات النظامية وتمكينها من الوسائل المادية والتنظيمية اللاّزمة لمواصلة اجتثاث فلول التنظيم المتشدّد وتحصين البلاد من عودته، إذ أنّ قانونا كان قد استبق النهاية المتوقّعة للحرب وصدر عن البرلمان بضغط شديد من كتل شيعية في 26 نوفمبر 2016 متضمّنا تصنيف الحشد كهيئة حكومية ضمن المؤسسات الأمنية الخاضعة لإمرة القائد العام للقوات المسلّحة.

وتجلّى من هذا القانون الحامل للرقم أربعين بتاريخ السّنة نفسها، والذي نظر إليه الكثير من العراقيين باعتباره نكبة أمنية جديدة للعراق المثخن بالجراح، وكبوة أخرى للقوات النظامية العراقية التي لم تتمكّن من استعادة توازنها وترميم هيبتها منذ سنة 2003، وجود رغبة سياسية قويّة في أن يواصل الحشد لعب أدوار أخرى غير الدور الأصلي المتمثّل في محاربة تنظيم داعش.

الولايات المتحدة تعلم أنّ الميليشيات الشيعية المشكّلة للحشد الشعبي تابعة لإيران وجزء أساسي من أدوات تنفيذ أجندتها في المنطقة وأنّ السماح لها باختراق أجهزة الدولة يعني أن الدولة العراقية تسخّر جزءا من مقدّراتها المادية والبشرية أداة لتنفيذ تلك الأجندة

ولم تكن تلك الرغبة محلّية بالضرورة رغم أنّ من قاموا على تحقيقها ساسة عراقيون وقادة ميليشيات نافذون، ذلك أنّ إيران برزت كمستفيدة أولى من وجود جسم شبه عسكري في العراق تموّله الدولة العراقية من موازنتها ويغذّيه العراقيون بالمقاتلين المعبّئين طائفيا، ولكنّه مرتبط بشكل وثيق بالحرس الثوري الإيراني ويتلقّى أوامره منه.

ومن المكاسب المباشرة التي حقّقها قانون إدراج الحشد الشعبي ضمن المؤسسات الرسمية العراقية لإيران، أنّه أتاح للميليشيات الشيعية الحفاظ على تواجدها في المناطق السنيّة جنوبي العاصمة بغداد (جرف الصخر)، وخصوصا في شمال العراق وغربه.

ومن تلك المناطق ما يشكّل أهميّة إستراتيجية لطهران ضمن مخطّطها لفتح طريق طويلة سالكة تربط بين الأراضي الإيرانية والبحر المتوسّط في لبنان وتمرّ عبر الأراضي العراقية والسورية، ولا يمكنها أن تأتمن على حراستها وتأمينها سوى قوات الحشد التابعة لها واقعيا والتابعة للدولة العراقية صوريا.

أما المكسب غير المباشر لإيران من وراء الحفاظ على دور مستدام للحشد الشعبي يتمتّع بغطاء قانوني، فقد تمثّل في إيجاد أداة فعّالة لحراسة النظام القائم في العراق، وحمايته من السقوط، خصوصا في ظلّ ما أظهره على مدى قرابة السنوات الثماني عشرة من هشاشة وفساد وفشل في إدارة شؤون الدولة وفي تقديم إنجازات تدعم شرعيته وترفع مستوى شعبيته لدى المواطنين.

وبرزت الحاجة إلى الحشد للعب هذا الدور خلال الانتفاضة الشعبية التي انطلقت في شهر أكتوبر 2019 واستمرّت لعدة أشهر. ولم تقتصر على المطالبة بتحسين ظروف العيش وتوفير الخدمات الأساسية وإيجاد مواطن العمل للآلاف من العاطلين عن العمل ومحاربة الفساد المستشري في مفاصل الدولة، بل تدرّجت نحو رفع شعارات إسقاط النظام. وهو أمر في ما لو تحقّق بالفعل سيمثّل نكبة حقيقية لإيران التي تتّخذ من النظام العراقي، الذي تقوده بشكل رئيسي أحزاب شيعية موالية لطهران التي كانت قد احتضنت بعضها في فترة تأسيسها ونشاطها السري ضدّ نظام الرئيس العراقي الأسبق صدّام حسين، نقطة ارتكاز أساسية لمدّ نفوذها في المنطقة.

إهدار فرصة
على غرار مشاركته بفاعلية في الحرب ضد تنظيم داعش، انخرط الحشد الشعبي في التصدّي للانتفاضة ومحاولة إخمادها من خلال ترهيب المشاركين فيها وقمعهم والتنكيل بهم، وهو الأمر المثبت في قرار وزارة الخزانة الأميركية فرضَ عقوبات على فالح الفياض.

وتدرك طهران جيّدا خلفيات الاستهداف الأميركي لرموز الحشد الشعبي وقادة الميليشيات الشيعية في العراق، وما يشكّله من تهديد لنفوذها، ولذلك كانت طهران في مقدّمة من أدانوا وشجبوا العقوبات على الفياض من خلال موقف رسمي لخارجيتها عبّر عنه المتحدث باسمها سعيد خطيب زادة، وجاء فيه أنّ بلاده “تستنكر الحظر الأميركي ضد رئيس هيئة الحشد الشعبي في العراق”، وأنّ “هذا الحظر ليس مدانا فقط بل محكوم بالفشل أيضا، ومؤشر على أوضاع أميركا السيئة في منطقة غرب آسيا”.

ساسة عراقيون لا تربطهم وشائج طائفية أو حزبية بالميليشيات يهدرون فرصة خلخلة واشنطن لاستقرار تلك الميليشيات

وجاء موقف إيران هذا متّسقا مع علاقتها القوية بالميليشيات الشيعية ومصلحتها الحيوية في الحفاظ على مكانتها ودورها في المشهد العراقي، وإبقائها سيفا مسلّطا على رقبة الدولة والمجتمع العراقيين. لكنّ الحرج الأكبر جرّاء الإجراء الأميركي ضدّ الفيّاض طال مسؤولي الدولة العراقية الذين لم يكن أمامهم سوى مواصلة الهروب إلى الأمام والاستسلام لورطة استيعاب الميليشيات الطائفية المتطّرفة، وغير المنضبطة لقوانين الدولة وتشريعاتها، ضمن مؤسسات الدولة ذاتها.

فلم يكن، على سبيل المثال، أمام الرئيس برهم صالح، الذي يفترض أن يمثّل بحكم منصبه رمزا لهيبة الدولة وسيادتها التي لا تستقيم بوجود كيانات موازية لمؤسّساتها الرسمية، سوى أن يعبّر عن رفضه لقرار الخزانة الأميركية بمعاقبة رئيس هيئة الحشد الشعبي.

وتعبيرا عن ذلك استقبل الفياض غداة الإعلان عن العقوبات الأميركية ضدّه، وحرص على معاملته معاملة سائر المسؤولين الأمنيين الكبار في الدولة والتشاور معه بشأن “التطورات الأمنية الأخيرة في البلاد، مع التأكيد على رفض التدخل بشؤون البلاد الداخلية وعلى احترام سيادتها”، وفق بيان للمكتب الإعلامي لرئاسة الجمهورية.

وبقدر ما حمله انتباه قوّة عالمية من حجم الولايات المتّحدة لقضية اختراق الميليشيات الشيعية للدولة العراقية، من خلخلة لما أصبح من الثوابت والمسلّمات لدى بعض العراقيين، وما أتاحه من فرصة للشروع، ولو على سبيل المحاولة، في تغيير وضع شاذّ يمنع العراق من استعادة عافيته واستقراره، ويحول دون ترميم قوّاته المسلّحة وتنقية صفوفها من العناصر الدخيلة عليها والنأي بها عن الاعتبارات غير المهنية، فقد مثّل موقف عدد من كبار المسؤولين العراقيين والقادة السياسيين، وتحديدا أولئك الذين لا تربطهم وشائج طائفية أو حزبية بالحشد وميليشياته، إهدارا لتلك الفرصة، إمّا اتّقاء لشرّ الميليشيات وبطشها المادي والمعنوي، أو تقرّبا من القوى السياسية النافذة والداعمة لتلك التشكيلات الطائفية.

العرب