قد يكون مسوغاً لأي دولة أو نظام يجد نفسه أمام خطر التعرض لهجوم أو عملية عسكرية، أن يلجأ إلى تنفيذ مناورات عسكرية من أجل إيصال رسالة واضحة إلى الجهات التي تنوي أو تريد مهاجمته، بأنه على أتم الجاهزية والاستعداد للرد ومواجهة أي اعتداء محتمل.
من هنا يمكن الدخول إلى المناورات الأخيرة المتعددة، التي قامت بها إيران في مياه بحر عمان والخليج، واستخدمت فيها كل أنواع الأسلحة الصاروخية والبرية والجوية والبحرية، التي تحولت إلى مناسبة استعرض فيها القادة العسكريون في مؤسستي الجيش وحرس الثورة القوة الإيرانية، لإيصال رسائلهم العسكرية والمواقف التصعيدية إلى جميع الأطراف من واشنطن إلى تل أبيب وصولاً إلى العواصم العربية على الجانب الآخر من شواطئ الخليج. خصوصاً وأن الرسائل العسكرية الإيرانية لم تتردد في التأكيد بأن الرد على أي اعتداء سيطال كل الدول التي تستضيف قواعد أميركية على أراضيها.
أهداف أبعد من الاستنفار
لا شك أن أهداف المناورات الإيرانية المتلاحقة، تحمل هدفاً أبعد من الاستنفار لمواجهة تهديدات الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترمب، لتكون رسائل إلى الرئيس الجديد جوزيف بايدن، الذي يستعد لدخول البيت الأبيض، وأمام عديد من الملفات الملحة من بينها الملف الإيراني الذي أبدى نحوه إيجابية مشروطة بضرورة توسيع التفاوض لتشمل البرنامج الصاروخي والتفاهم على النفوذ الإقليمي للنظام الإيراني.
محور الرسائل الإيرانية يدور حول رفض طهران لأي تفاوض حول هذه الملفات أو تقديم أي تنازلات فيها، وأن المسار الذي يجب أن تذهب إليه الأمور مع واشنطن يبدأ من إلغاء العقوبات، تطبيقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2231، ولاحقاً بحث العودة إلى الاتفاق النووي ومجموعة 5+1، وتنفيذ آليات الاتفاق على مبدأ خطوة مقابل خطوة، مقرونة بتأكيد وزير الخارجية محمد جواد ظريف على عدم استعجال إيران عودة واشنطن إلى الاتفاق إذا لم تلغ العقوبات.
وعلى الرغم من أهمية هذه الأسباب والدوافع، التي تقف وراء تعدد المناورات، وما تكشفه من حالة استنفار قصوى يعيشها النظام جراء شعوره بالخطر القريب، وتحسبه لأي مفاجآت قد تقلب الطاولة في اللحظات الأخيرة، فإن هناك جانباً آخر لها يرتبط بآليات الصراع الداخلي والجهة التي من المفترض أن تمسك بخطوط المرحلة المقبلة من عملية التفاوض مع واشنطن والمجتمع الدولي، وتحديداً الترويكا الأوروبية الشريكة في الاتفاق النووي.
يعني ذلك أن صراعاً خفياً سوف يظهر إلى العلن بين دبلوماسيتين داخل النظام، واحدة تمثلها وزارة الخارجية وأخرى تمثلها المؤسسة العسكرية. وهو صراع يتزامن مع اتضاح هيكلية فريق الرئيس الأميركي الجديد في إدارة الملفات الدولية في وزارة الخارجية والأمن القومي والاستخبارات المركزية ومجلس الأمن، تؤكد وجود نية لدى بايدن لتفعيل القنوات الدبلوماسية للتعامل مع الأزمة الإيرانية مستعيناً بالسقف العالي، الذي رسمه الرئيس السابق ترمب بأقل استفزازية منه، وهو لا شك قد أبلغ جميع الأطراف المعنية بهذه الأزمة في الخطوات الانفتاحية الأولى نحو طهران على غرار ما فعل مع تل أبيب.
فراغ سليماني لا يزال قائماً
سيطرة القيادات العسكرية على المشهد الإيراني في الأشهر الأخيرة وتصديها للتعبير عن عديد من مواقف النظام، بعيداً عن أي دور للحكومة، قد تعدّ ظاهرة مستجدة، وقد برزت خلال السنة الماضية بشكل كبير، خصوصاً بعد الضربة القاسية التي تعرضت لها هذه المؤسسة جراء عملية اغتيال قائد قوة القدس الجنرال قاسم سليماني، الأمر الذي أحدث فراغاً كبيراً في تعامل هذه المؤسسة مع الإدارة الرسمية للحكومة كان يقوم به ويتولاه سليماني نيابة عن النظام، ويحدد من خلال مسارات الدبلوماسية الإيرانية التعامل مع جميع الملفات الإقليمية والدولية والنووية والصاروخية.
وعلى الرغم من الدور المحوري الذي لعبه الوزير محمد جواد ظريف، في قيادة عملية التفاوض في الاتفاق النووي وبعده، في مساعي تخفيف دائرة الضغوط عن النظام والدولة مع العواصم الدولية خلال إدارة ترمب، إلا أنه أعاد التأكيد قبل أيام على أن الوزارة التي يرأسها “لا تصنع السياسات الخارجية إنما تنفذ سياسات النظام”، بالإضافة إلى ما سبق أن أكده قبل أشهر أمام البرلمان عن مستوى التنسيق والتعاون الكبير الذي كان قائماً بين إدارته لملف السياسة الخارجية وسليماني، وأن كل الخطوات التي رافقت المفاوضات حول الاتفاق النووي، كانت تجري بالتنسيق مع المرشد الأعلى للنظام، وفي الملفات الإقليمية والدور العسكري والإقليمي لإيران كان يتم التنسيق فيها مع سليماني.
نتيجة هذا التنسيق ترجمته المواقف الرافضة في المفاوضات لفتح البحث حول البرنامج الصاروخي أو النفوذ الإقليمي، وأن ما تضمنه الاتفاق حول السلاح الباليستي وعدم تطويره لحمل رؤوس نووية، يأتي من باب تعزيز الثقة وانسجاماً مع الموقف الديني، أو الفتوى الصادرة عن “ولي أمر المسلمين” بحرمة حيازة أو استخدام السلاح النووي، وهي الفتوى التي اعتبرتها الدول المفاوضة ضمانة إيرانية لعدم تحويل البرنامج النووي إلى برنامج عسكري، وقد اعتمد عليها الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما للمضي قدماً في تسهيل عملية التوافق وتوقيع الاتفاق.
ظريف هل هو بديل قاسم؟
مع غياب سليماني من المشهد الإيراني والإقليمي، وعدم وجود بديل قادر على لعب الدور نفسه، الذي كان يقوم به في رسم السياسات والمواقف الخارجية للنظام الإيراني بتفويض من قيادة النظام العليا، قد يثير مخاوف المؤسسة العسكرية التي لعبت على حبل التوازن بين الموافقة على الاتفاق النووي والتفاوض مع واشنطن والترويكا الأوروبية، واعتبار أن الاتفاق أعطى مؤشرات سلبية لواشنطن بالحاجة الإيرانية للخروج من دائرة العقوبات والمقاطعة الدولية، وأن العودة عن الاتفاق (في المواقف) يسمح للنظام بتعزيز قدراته الداخلية والتصدي للعقوبات من خلال بناء اقتصاد مقاوم يمسكون بمقدراته ويتحكمون بآلياته، بحيث تتحول هذه المؤسسة إلى خشبة خلاص الشعب والدولة والنظام في الوقت نفسه.
وعلى الرغم من نجاح الاتفاق النووي في جزئية أساسية وهي إخراج إيران من البند السابع لدى الأمم المتحدة ومجلس الأمن من دون اللجوء إلى حرب أو حصول تغيير في النظام، إلا أن المتشددين والمستفيدين من العقوبات، والمؤسسة العسكرية لم يعترفوا لدبلوماسية ظريف وحكومة الرئيس حسن روحاني بهذا النجاح، فضلاً عن حالة الانفتاح والرخاء الاقتصادي النسبي، التي رافقت السنة الأخيرة من رئاسة أوباما وبداية عهد ترمب.
هكذا تسعى الحكومة الآن لتثبيت مواقعها وإمساكها بملف الدبلوماسية الايراني، وتأكيد دورها المحوري في رسم المواقف الاستراتيجية للنظام، تحسباً لأي تطور قد تفرضه ضرورات التعامل مع الإدارة الدبلوماسية الأميركية الجديدة، وأن تتحول إمكانية عودة ظريف للعب دور محوري في هذه المرحلة بهامش من حرية التحرك تحت سقف التنسيق فقط مع المرشد الأعلى إلى أمر واقع، عليها التعامل معه والقبول به، بما يشكل اعترافاً لظريف بدوره وقدرته على تدوير الزوايا وإخراج إيران من عنق الزجاجة مع الإدارة الجديدة.
حسن فحص
اندبندت عربي