ليس القصد من هذه المقالة المناكفة ولا الانخراط في نمط كيل الاتهامات يساراً ويميناً، أو التخندق في جبهة ضد أخرى. بل الهدف هو التأمل الهادئ في السياسات والمواقف التي تبناها «محور الممانعة» في العقد الأخير، وقراءة ما أنتجه على الأرض من وقائع صلبة منافية ومضادة للشعارات التي تُرفع، أو حتى ضد الرغبات والتمنيات التي ربما كان بعضها صادقاً وجاداً. ولنبدأ من النقطة الأخيرة كي تكون مدخل النقاش، أي الافتراض النظري بأن الشعارات التي رفعها محور الممانعة في العشرية الأخيرة كانت صادقة، وأن النوايا فعلاً كانت جادة. وفي شطرها الأخير، تنخرط هذه المقاربة في النقاش المطلوب والمحق والمهم حول جوهر التفكير الاستراتيجي عند إيران، التي هي القائد والعمود الفقري لهذا المحور، و «بنك الأهداف» الإيراني الحقيقي.
بوصلة محور الممانعة كما نعرف جميعاً وكما هو معلن ومتردد في شكل يومي في خطابات أطراف هذا المحور هي «إسرائيل». وبرنامج هذا المحور تبعاً لذلك يُفترض أن يكون خوض حرب كبرى مع إسرائيل وتحرير فلسطين، لكن هذا عملياً لم يحصل. وإذا أردنا أن نحاسب هذا المحور تبعاً لإعلاناته ونواياه وخطاباته، فإننا نأخذ إعلاناته وخطاباته وتهديداته لإسرائيل مأخذ الجد الكامل. إذا قيل أن مطالبة محور الممانعة بخوض حرب كبرى وتحرير فلسطين، أمر فيه تساذج كبير، فهناك ظروف وعوامل واعتبارات كثيرة تحول دون ذلك في الوقت الحاضر، فمعنى ذلك أنه من حق من ينتقد هذا المحور وسياساته أن يعتمد على قاعدة الشك والتمحيص في كل الشعارات والادعاءات، وأن ينتهي ذلك كله بمحور الممانعة كما انتهت الأمور بكل الأنظمة والمحاور التي استخدمت الشعارات نفسها ثم لم تنفذها. على كل حال، طالما أن التحرير صعب فقد تركز خطاب الممانعة على دعم المقاومة، وهو تعبير فضفاض وغامض يفتح الباب لتفسيرات وتأويلات لا تنتهي، لكنه وهذا هو المهم يسمح بتمرير سياسات وممارسات عديدة، وإقامة تحالفات عابرة للحدود والوطنيات. الخلاصة أنه اذا كان بالإمكان افتراض جدية خطاب المقاومة والممانعة في فلسطين، ويترجم إلى دعم عملي للمقاومة، فإن توظيف خطاب الممانعة نفسه في أي مكان آخر في المنطقة العربية يكون هدفه توفير غطاء لسياسات نفوذ وتعزيز مكاسب استراتيجية وغيرها، من لبنان إلى اليمن.
أطراف محور الممانعة تتفاوت درجة «ممانعتها» وطبيعتها وتتباين أهداف كل منها، سواء أكانت دولاً أم منظمات أم ميليشيات. إيران هي النواة الصلبة والموجه لهذا المحور، يأتي بعدها نظام الأسد في سورية، وبينهما النظام في العراق المنخرط في هذا المحور ليس لدوافع ممانعة ومقاومة إسرائيل بقدر ما هو تحصيل حاصل تفرضه حقيقة الخضوع للنفوذ الإيراني في العراق وتبعية الطبقة السياسية الحاكمة فيه. يلي ذلك «حزب الله» في لبنان ثم في السنوات الأخيرة برز نجم جماعة الحوثي في اليمن. في فلسطين نفسها حيث الراية التي يرفعها محور المقاومة هناك «حماس» و «الجهاد الإسلامي»، الأولى تضع قدماً في هذا المحور وأخرى خارجه منذ تحولات الربيع العربي، والثانية يتيح لها صغر الحجم مقداراً أكبر من المناورة حيث لا تُرصد تماماً من قبل رادارات مراقبة تحولات الموقف السياسي. ثم هناك بعض الفصائل الفلسطينية الهامشية من بقايا اليسار الثوري المتقلب والمُنهك من نقل البندقية من كتف حليف إلى آخر. لكن الغريب، فلسطينياً، هو غياب أي رصيد شعبي أو تأييد حقيقي على مستوى الشارع الفلسطيني لمحور الممانعة، بيد أن هذا موضوع آخر، يستحق وقفة خاصة به، حتى لا يجرنا بعيداً عن التأمل في أجندة وأهداف كل طرف من هذه الأطراف وعلاقتها الحقيقية بجوهر «الممانعة»، أي فلسطين. الاطراف الثلاثة الأهم في محور الممانعة هي إيران، وسورية و «حزب الله».
أولاً، إيران. منذ قيام ثورة الخميني في أواخر سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم مر أكثر من ثلاثة عقود ونصف، وخلالها لم يهدأ الخطاب الإيراني في تهديداته لإسرائيل يوماً، بما في ذلك التهديد بتدميرها والدعوة إلى محوها عن الخريطة. عملياً وعلى أرض الواقع لم يطلق أي فرد من الحرس الثوري الإيراني رصاصة على إسرائيل، وكثير منهم وصل إلى الارجنتين، وقلب اوروبا، وبلدان افريقية وأرجاء عديدة من العالم، لتنفيذ مهمات. لماذا لم تقم إيران بتحرير فلسطين وتنفيذ تهديداتها طيلة العقود الثلاثة والنصف وبرغم وجود «ولي أمر المسلمين» فيها؟ تلك الفترة الزمنية الطويلة هي أطول من الفترة التي اندلعت فيها حربان عالميتان في اوروبا، احتُلت فيهما دول، ودُمرت اخرى، وحررت ثالثة وهكذا. وهي العمر الزمني نفسه للاتحاد السوفياتي الذي صار امبراطورية عظمى ثم انهار في سبعين عاماً. لكن لماذا يوجه هذا السؤال لإيران وليس للعرب؟ الجواب لأن إيران هي التي حملت لواء الممانعة وهددت بتدمير إسرائيل. المهم أن ما قامت به إيران خلال تلك الحقبة الطويلة كان في الواقع شيئاً آخر تماماً بعيداً عن تحرير فلسطين، وجله كان يحوم حول فكرة «تصدير الثورة» إلى دول الجوار التي احتلت جوهر خطاب الخميني ومن حوله ولم تختف عملياً في خطاب من خلفه. ما تشهده المنطقة العربية من حروب ودمار وتفتيت وانتشار للأطراف المنتسبة لـ «محور الممانعة» هنا وهناك هو الترجمة العملية لإنجاز «تصدير الثورة»، رغم أن التعبير نفسه اختفى وحلت مكانه تعبيرات أخف مثل حماية المصالح الاستراتيجية لإيران.
لكن خلال تلك الحقبة، من ناحية ثانية، دعمت إيران المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان والفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وساهمت في شكل مباشر أو غير مباشر في الإنجازات العسكرية التي تحققت في المكانين: تحرير جنوب لبنان، ومقاومة حروب إسرائيل ضد قطاع غزة. وهذا صحيح طبعاً وإيران مشكورة عليه، لكنه كان في الواقع وكما نرى النتائج حالياً في خدمة الغايات الاستراتيجية الإيرانية وليس في خدمة هدف تحرير فلسطين من قريب او بعيد. أرادت إيران من خلال «دعم المقاومة» ورفع شعار الممانعة أن تحمل راية فلسطين الجذابة، ونجحت لسنوات ليست بالقليلة في الوصول إلى الرأي العام العربي عبر تلك الراية. لكن مرة أخرى، فإن الخلاصات على الأرض اليوم تقول لنا أن ما تحقق على جبهة «تحرير فلسطين» هو العكس تماماً: تعزز وجود إسرائيل، وتكرس احتلالها، وساهم التدخل الإيراني في القضية الفلسطينية في إحداث الانقسام الكبير والشرخ الرأسي في قلب الحركة الوطنية الفلسطينية، كما ساهم في فصم جغرافيتها أيضاً.
ثانياً، سورية الأسدان، الأب والابن، وهي العضو المهم الثاني في محور الممانعة، حافظت على ممانعتها الخطابية والبلاغية في شكل مدهش، لكن لا نستطيع رصد أي جهد حقيقي ممانع لإسرائيل، سوى خدمة المشروع الإيراني، وتحويل البلد العريق إلى جسر لوجستي لدعمه لتعزيز «الهلال الشيعي» السياسي. نظام الأسدين يدرك بعمق أن لا شرعية للنظام القائم سوى شرعية خطاب «الصراع مع إسرائيل» وخطاب «تحرير الجولان» وخطاب «الصمود والتصدي». ويعرف متابعو المفاوضات السلمية التي أعقبت مؤتمر مدريد أن قبولاً إسرائيلياً لإعادة الجولان لسورية كان قيد التحقق، لكن التشدد التظاهري الأسدي كان لا يريد أصلاً عودة الجولان، لأن تلك العودة تعني انتهاء ملف خطاب الممانعة والحرب مع إسرائيل، وبالتالي الانتقال إلى فتح كل الملفات السياسية في البلد مثل الاستبداد والفساد وضرورة الديموقراطية. خطاب الممانعة ومحورها قدم لنظام الأسدين الخدمة الجليلة ولأكثر من أربعة عقود عبر التخفي وراء شعاراته وإخفاء حقيقة وجوهر النظام وطائفيته العميقة.
ثالثاً، «حزب الله»، وهو العضو الثالث المهم في محور الممانعة، والذي بلغ ذروة الشعبية عندما كانت بوصلة مقاومته موجهة نحو إسرائيل، في حروب أثيرت حولها سجالات ولا تزال. لكن بعيداً عن التفاصيل التي تسامح كثيرون معها، وغض الطرف عن ارتباط مقاومة «حزب الله» كلها بالأهداف الاستراتيجية الإيرانية لبسط النفوذ وتعزيز الحضور الاقليمي، نجح «حزب الله» في التمسك براية المقاومة وفلسطين ليصبح الحزب الأكثر شعبية في كل العالم العربي في لحظة ما.
بقية الأطراف، سواء «حماس» والجهاد الاسلامي، أو حتى العراق، ولاحقاً الحوثيون، تتنوع مواقعها في «محور الممانعة»، لكنها تبقى عموماً ملحقات على الهامش ولا تنتمي للعصاب الأساسي المحيط بالعمود الفقري للمحور الممانعة، وهذا يحتاج إلى تفصيل في المقالة اللاحقة، ومعه إنجازات هذا المحور كما تتبدى اليوم على الأرض: بعيداً عن الممانعة، لكنها قريبة من التفتيت وتجزيء المجزأ وإراحة إسرائيل عبر تدمير الدول المحيطة بها.
د.خالد الحروب
صحيفة الحياة اللندنية