تنبع أهمية كتاب “شريان الحياة للإرهاب: مكافحة تمويل الإرهاب” من كونه يركز بشكل محوري على قضية تمويل الإرهاب، وذلك من خلال تحليل تجارب متعددة لمكافحة الإرهاب. والكتاب من تأليف (فيفيك شادها Vivek Chadha)، وهو عقيد هندي متقاعد وزميل باحث في معهد الدراسات والتحليلات الدفاعية (IDSA) بنيودلهي، وتتركز معظم كتاباته عن الإرهاب والقضايا المتعلقة به، وقد صدر الكتاب عن “بلومزبري للنشر” في عام 2015.
يُحاول الكاتب استعراض الاهتمام الدولي بإشكالية تمويل الإرهاب خلال العقود القليلة الماضية، ثم يُنظِّر لأهمية مكافحة تمويل الإرهاب كخطوة هامة من أجل القضاء على الإرهاب، مرورًا بالتحديَّات المرتبطة بمكافحة تمويل الإرهاب، وصولًا إلى استعراض أهم المصادر الخارجية والمحلية لتمويل الإرهاب.مكافحة تمويل الإرهاب:بدأت الجهودُ الدولية لمكافحة الإرهاب منذ عام 1963 من خلال الصكوك القانونية العالمية لمنع الأعمال الإرهابية، وذلك بإشراف من الأمم المتحدة ووكالاتها المختلفة، بيد أن مكافحة تمويل الإرهاب (CFT) بدأت فعليًّا منذ عام 1999، وذلك من خلال اعتماد الاتفاقية الدولية لمنع تمويل الإرهاب، وقد شهد العالم صعودًا كبيرًا للإرهاب، وشكّلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 نقطة هامة في التحوُّل العالمي نحو مكافحة الإرهاب.وتزامنت الحرب العالمية على الإرهاب (GWOT) مع حرب على نطاق واسع ضد تمويل الإرهاب، وذلك في ظل الاعتراف بأن التمويل هو بمثابة شريان الحياة بالنسبة للإرهاب، وبالتالي كان لزامًا ابتكار منهجية من أجل تتبُّع وتعقُّب وإنهاء مصادر التمويل، ويبرز الكاتب أن الدراسات التي تمّت فيما يتعلق بتمويل الإرهاب قد كشفت على نحو متزايد أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين تمويل الإرهاب وبين غسيل الأموال والأنشطة الإجرامية الأخرى. وهو ما يتطلب ضرورة اتباع نهج دولي من أجل إنجاح أي جهود عالمية، وأن ذلك يتطلب وجود ردع، وتحرُّكات وقائية، والإلمام بوظائف التحقيق، وتتبُّع شبكات تمويل الإرهاب في العالم.وفيما يتعلق بالهند؛ فإن الكاتب يؤكد أن مكافحة الإرهاب تواجه تحديَّات مختلفة عن تلك القائمة في الولايات المتحدة الأمريكية أو أوروبا، وذلك نظرًا لاختلاف طبيعة التهديدات؛ حيث إن الغرب يواجه تهديدات خارجية بالأساس ومن فاعلين من غير الدول. أما الهند فإنها تواجه تهديدات محلية مثل المجاهدين الهنود (IM) والتي تتطور تطورًا ملحوظًا. وفي السياق ذاته، تواجه تهديدات أخرى خارجية، سواء كانت من “دول” مثل باكستان التي تموّل حركات إرهابية ضد الهند، وكذلك من “فاعلين من غير الدول”، بحسب الكتاب. وهذا التنوُّع في التهديدات يتطلب آليات مختلفة بضرورة الحال من أجل مواجهتها؛ حيث يجزم الكاتب بأن تفاقم الإرهاب في ولايات مثل البنجاب وجامو وكشمير -وهي ولايات هندية- لم يكن ليستمر لولا الدعم المالي للإرهابيين من دولة باكستان، بالإضافة إلى الحدود غير المستقرة بين الهند ودول مجاورة مثل نبيال وميانمار وبنجلادش، وهو ما يزيد من صعوبة تحجيم عمليات تمويل الإرهاب.تحديات متصاعدة:يُشير الكاتب إلى أن القدرة على تجفيف منابع الإرهاب من شأنه أن يؤدي إلى شَلّ قدرة الجماعات الإرهابية ليس فقط في إدارة شئونها اليومية والعادية، ولكن أيضًا في قدرتها على توجيه ضربات إرهابية أو محاولة الهرب أو الإفلات من العقاب، وهو ما يبرز أهمية مكافحة تمويل الإرهاب باعتبار أن ذلك أمر محوري في أيّ استراتيجية عالمية أو محلية لمكافحة الإرهاب.ويبرز الكاتب إشكالية مرتبطة بمصادر تمويل الإرهاب، حيث إنها مصادر متباينة، بعضها قد يكون غير قانوني مثل غسيل الأموال أو غيرها، ولكنها أيضًا قد تكون من خلال مصادر قانونية، وهنا تبرز مشكلة متعلقة بصعوبة تتبُّع أو تعقُّب ذلك التمويل، وهو ما يمثل تحديًّا كبيرًا لأنه يرتبط بتطبيق قوانين مختلفة في بلدان متعددة.وفي السياق ذاته، فإن عمليات تمويل الإرهاب ترتبط ببعض الأمور ذات الصبغة الدينية مثل أموال الزكاة، أو جمع الأموال لأغراض خيرية مثلما يحدث في بلدان إسلامية مثل باكستان، وهو أمر يصعب كشفه من جانب، ويتطلب مزيدًا من الشفافية والمساءلة، وتعزيز القوانين من ناحية أخرى.وفي ذات الإطار؛ يبرز الكاتب إمكانية غسل الأموال في الفضاء الإلكتروني، حيث من الممكن أن تنخرط الجماعات الإرهابية في مثل هذه العمليات من أجل تمويل عملياتهم الإرهابية، نظرًا لأنهم يحتاجون أموالا كثيرة، وبشكل عام فإن العمليات اللازمة لكشف عمليات التمويل تحتاج إلى جهود كبيرة وتكاليف كبيرة، ولكنها بالتأكيد ذات أهمية كبرى من أجل مواجهة عنصر حاسم من عناصر استمرار الإرهاب في العالم.من جانب آخر؛ يؤكد الكاتب أن من الضروري توافر المعلومات الاستخباراتية حول الجهاز الإداري والتنظيمي للجماعات الإرهابية والقواعد المنظمة لتلك الجماعات، والدعم المحلي والخارجي وحتى مستويات الدعم من بعض الدول المتعاطفة، وتلاشي الثغرات في تحويل الأموال، ومحاولة تتبُّع أي قنوات شرعية أو غير شرعية يستخدمها الإرهابيون، حيث إن التعرُّف على كل تلك الأمور من شأنه أن يساعد في القضاء على الإرهاب.
مصادر تمويل الإرهاب:يُشير الكاتب إلى أن تحديد مصادر تمويل الإرهاب خطوة هامة من أجل مواجهة الإرهاب، ويبرز أن الهند قد قطعت شوطًا هائلًا في ذلك الاتجاه من خلال تحديد مصادر ليس فقط تمويل الإرهاب، ولكن أيضًا غسيل الأموال، وهو تقدُّم محوري نظرًا للتنوع الواضح في تمويل الإرهاب بالبلاد، حيث يحدد الكاتب عدة مصادر رئيسية منها، تهريب المخدرات، والاحتيال بما في ذلك تزوير العملة، والجريمة المنظمة، والاتجار بالبشر، والفساد، بالإضافة إلى الأموال والموارد من المنظمات غير الهادفة للربح، واستخدام بعض القنوات الرسمية وطرق الدفع الجديدة والتي يتم من خلالها تحويل أموال للإرهابيين.ومن خلال التجربة الهندية في هذا الإطار، يبرز الكاتب مخاطر التمويل التي تأتي من خارج الدولة، والتي غالبًا ما تكون أكثر من المصادر التي تأتي من خارجها، ولكن قد يكون العكس صحيحًا، ففي الولايات الهندية شمال شرق البلاد تمويل العمليات الإرهابية مصدره الرئيسي الابتزاز وليس التمويل من الخارج.ويُميّز الكاتب بين مصادر التمويل والوسيلة المستخدمة والمستقبلين لتلك الأموال، حيث يُبيِّن أن المصادر الخارجية للتمويل سواء أكانت المنظمات غير الحكومية، الجمعيات الخيرية، الاتجار بالمخدرات، التزييف والتزوير، وتمويل دول خارجية مثل باكستان – لها أكثر من وسيلة لتحويل الأموال، حيث إن وسيلة تحويل تلك العمليات يكون من خلال منظمات لها طابع قانوني أو تتعلق بعمليات تجارية، وأن مَن يستقبلون تلك التحويلات هم الإرهابيون أو الراديكاليون أو الانفصاليون.وفيما يتعلق بالمصادر الداخلية أو المحلية للتمويل والتي تتعلق بالابتزاز وفرض الضرائب وغسيل الأموال والأنظمة الإجرامية والمنظمات غير الحكومية، فإن وسيلة تحويل تلك العمليات يكون من خلال الحوالات أو يكون بشكل نقدي.
استراتيجيات قطع الإمدادات:يبرز الكاتب حديث الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش عقب أحداث سبتمبر 2001، حينما قال إن “المال هو عَصَب العمليات الإرهابية”، وفي هذا الإطار يبرز عدة محدّدات مرتبطة بوجود استراتيجية شاملة وفعَّالة لمكافحة تمويل الإرهاب (CFT)، وهي كالتالي:1- إن تمويل الإرهاب يرتبط بشكل كبير بعمليات خارج حدود الدول، أي بعمليات عابرة للحدود نظرًا لطبيعة العولمة، وهو ما يتطلب ضرورة وجود تعاون وثيق بين كافة الدول والوكالات الدولية من أجل أن تكون الجهود مثمرة وذات فاعلية في منع تدفق الأموال للإرهابيين حول العالم.2- إن عملية تمويل الإرهاب لا تزال ظاهرةً قيد التشكُّل والدراسة، وهو ما قد يؤثر على قدرة الحكومات في تقييم التهديدات وتتبُّع مصادر التمويل، وهو ما يتطلب تطوير الكفاءات والقدرات للتعامل بشكل شامل مع ذلك.3- يرتبط تمويل الإرهاب بعمليات واسعة النطاق تتطلب تبادل الخبرات في المجالات المختلفة من أجل أن تكون هناك استراتيجية تتسم بالمرونة، وتتعامل بشكل منهجي مع كل ما يتعلق بذلك.4- أي استراتيجية لمكافحة تمويل الإرهاب تتطلب إعادة تنظيم للقوانين والأدوار، سواء في الوزارات أو الهيئات المعنية بذلك في كل دولة وفي تفاعلاتها مع الدول الأخرى.وفي السياق ذاته؛ يعرض الكاتب للاستراتيجية الهندية القائمة ضد تمويل الإرهاب، وتلك الاستراتيجية كالتالي:1- ضمان الإشراف الفعَّال على المؤسسات المالية العاملة في الهند.2- ضمان الامتثال لقانون منع غسل الأموال، ودعم الجهود الدولية لمكافحة غسيل الأموال.3- إنشاء نظام فعَّال لإنفاذ القانون من أجل أن يكون بمثابة رادعٍ لتلك العمليات.4- تعزيز القدرات التنظيمية لأجهزة الدولة والمخابرات والوكالات الوطنية المَعنية، وإنشاء آلية تنسيق فعَّالة فيما بينهم.5- الانخراط في جميع الجهود الدولية المتعلقة بمكافحة تمويل الإرهاب.وختامًا.. يؤكد الكاتب أن تجارب مكافحة تمويل الإرهاب لا تزال في حاجة إلى مزيد من التماسك وسد الفجوات بين مختلف الإدارات من خلال توفير نهج موحد لمواجهة تمويل الإرهاب، وبشكلٍ عام؛ فإنه لا بد من جهود دولية أكبر من أجل مكافحة تمويل الإرهاب، نظرًا لخطورة ذلك على الأمن والسلم الدوليين.إنه لا يمكن هزيمة الإرهاب في أي مكان في العالم إلا بمنع تدفُّق الأموال لهم، ويجب أن تكون هناك مبادرات دولية مشتركة وتبادل للخبرات وتعزيز للثقة بين كافة الدول، وأن يكون التعامل بشكل منهجي مع قضية التمويل، وذلك من خلال توفير المعلومات الأساسية عن التمويل، سواء كانت من خلال أفراد أو جماعات أو منظمات، وأنه كلما كانت الجهود أكثر تركيزًا كلما انحسر الإرهاب في العالم.
عرض: أحمد عبد العليم
.المصدر:Vivek Chadha, “lifeblood of terrorism: countering terrorism finance”, (New Delhi: Bloomsbury, 2015