كنا مجموعة من المثقفين، نتناقش حول ورقة عمل كتبها الصديق والزميل نبيل عبد الفتاح ـ مع حفظ الألقاب ـ وقادنا النقاش إلى السؤال عن الثقافة العربية؛ هل هى ثقافة واحدة أم ثقافات متعددة؟ ظاهر الأمر وواقع الحال قد يؤدى إلى القول بأن هناك ثقافة سعودية وثقافة مصرية، وأن هناك ثقافة مغربية وثقافة مشرقية. والحق أننى صدمت لاستخدام مصطلح «الثقافات» فى وصف الثقافة العربية التى لا أزال أراها ثقافة واحدة، ليس لأنى من الذين ظلوا ينشدون النشيد الذى تعلمناه صغارا:
بلادُ العُربِ أوطاني منَ الشّـامِ لبغدانِ
ومن نجدٍ إلى يَمَـنٍ إلى مِصـرَ فتطوانِ
فـلا حـدّ يباعدُنا ولا ديـنٌ يفـرّقنا
لسان الضَّادِ يجمعُنا بغـسَّانٍ وعـدنانِ
لنا مدنيّةُ سَـلفَـت سنُحييها وإنْ دُثرت ولو في وجهنا وقفتْ دهاةُ الإنسِ والجانِ
فهبوا يا بني قومي إلى العـلياءِ بالعلمِ وغنوا يا بني أمّى بلادُ العُربِ أوطانى
ولا أزال مؤمنا بكلمات هذا النشيد إيمانى بوحدة الأمة العربية ووحدة ثقافتها. لكن إيمانى بوحدة الثقافة العربية لا يعنى إلا قبولى لمبدأ التنوع والتعدد الذى تنبنى عليه الثقافة العربية. وعندما أحاول تصورها، فإنى أتخيل كيانا هائلا واحدا، يمتد رأسيا عبر الزمن ليصل إلى ما يزيد على نصف قرن قبل الإسلام (راجع جواد على: المفصّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام) ويمتد مع الإسلام ليصل إلى أيامنا هذه. ويمتد هذا الكيان الهائل أفقيا ليشمل الأقطار العربية كلها بما تنطوى عليه من تعدد وتنوع ونقاط للتشابه فى التاريخ المشترك والمصالح المشتركة والتحديات المشتركة والدين المشترك للأغلبية المسلمة التى عاشت مع ديانات مغايرة لقرون وقرون. وهذا يعنى أن هذا الكيان الهائل الذى يفرض وحدته على عناصر ما كان يمكن أن تستمر إلا لأن عوامل وحدته أكثر من عوامل تشظيه وتفتته. مؤكد أن وحدة هذا الكيان لا تقوم على التنوع والتعدد فحسب، بل تقوم على صراع وأشكال من التضاد والعنف، ظلت ـ ولا تزال ـ موجودة ومستمرة على امتداد التاريخ العربى. إذا نظرنا إليه رأسيا عبر التعاقب، ولا تزال موجودة بالقدر نفسه، إذا نظرنا إلى هذا الكيان أفقيا أو آنيا فى الحاضر الذى نعيشه بكل تحدياته ومخاطره.
صحيح أن الثقافة العربية تمر بأخطر مراحلها فى هذه الأيام، وتواجه أعظم تحدياتها، وأهمها تحديات مرتبطة ببعض عناصرها التكوينية، ولكن العناصر الموجبة فى هذا الكيان تواجه العناصر السالبة، وتتغلب عليها فى حال من الصراع الدائم الذى يحفظ لهذا الكيان الهائل وحدته التى لا تنفى تصارع بعض مكوناته رأسيا (عبر الزمان) وأفقيا فى علاقات المكان الممتد امتداد العالم العربى، والمفارقة الدالة أن هذا الكيان الثقافى الواحد ذ رغم اختلاف عناصره، وتباين مكوناته، يمتد خارج حدود العالم العربى، فارضا حضوره خارج حدود المكان، وعبر متغيرات الزمان. ولذلك فإن وحدة الثقافة العربية تنطوى على التنوع والتعدد والصراع الملازم للعنف، ولكنها بقدر ما تحمل من عناصر سالبة، تحمل عناصر موجبة، ولا يصل الصراع بين الكيان الواحد إلى ما يفتته، أو يقسمه، ما ظلت عناصرها الموجبة أقوى من نقائضها فى بناء الثقافة العربية التى تظل واحدة، رغم كل ما يوهم بالتفتت.
ووحدة الثقافة العربية من هذا المنظور، تشبه وحدة الدين الذى هو مكون مهم من مكوناتها، فالإسلام واحد، وهو كل لا يقبل التجزئة من حيث هو نصوص مقدسة، لا يأتيها الباطل من فوقها أو من تحتها. ولكن هذا زالكلس تختلف تأويلاته أو تفسيراته أو قضاياه الفقهية باختلاف المذاهب أو النحل والفرق، فيتعدد الإسلام الواحد، فنصبح إزاء إسلام سنى ( حنبلى، شافعى، مالكى، حنفى) وشيعى بطوائفه المتعددة، وأباضى أو أزارقى… إلخ. ولكن يبقى الإسلام فى النهاية إسلاما واحدا، مهما تكن الصراعات بين فرقه وطوائفه ونحله التى يصل الاختلاف بينها ـ كما يرينا التاريخ الإسلامى ـ إلى تعدد محاولات التصفية الدموية والصراع الذى يخرج دعاته عن سماحة الإسلام، بل عن الإسلام نفسه. إذ كيف يمكن للمرء أن يبقى صفة المسلم على من يقتل من يختلف عنه فى حكم فقهى أو فى تأويل لنص حمال أوجه.
وإذا وصلنا الدين بالثقافة، بوصفه مكونا من مكوناتها، وجدنا أننا إزاء وحدة التنوع نفسها، فالدين واحد كالثقافة من حيث وحدة التنوع التى تنطوى عليها، ولذلك فبالقدر الذى يمكن أن نتحدث به عن ثقافة منغلقة محافظة ورجعية، يمكن أن نتحدث عن مذاهب دينية متعصبة وإقصائية وتمييزية. وعادة ما يسقط المذهب الدينى السائد خصائصه على الثقافة، فتتحول الثقافة ذ فى حال– إلى ثقافة منغلقة، محافظة، تمشى إلى الأمام، عبر الزمن ولكن عينيها فى قفاها. والعكس صحيح بالقدر نفسه، فعندما يتحول الدين إلى تأويلات عقلانية منفتحة، تنفتح الثقافة، وتتقبل الاختلاف، ولا ترفض الآخر لأنه آخر ومختلف، وذلك بالقدر الذى تقبل التعدد والتنوع، وتلح على المجادلة بالتى هى أحسن.
ولو وضعنا هذا المنظور فى اعتبارنا، ووصلنا بين الدين من حيث تأويلاته البشرية، والثقافة من حيث هى أسلوب حياة أو رؤية عالم، والسياسة من حيث هى أسلوب حكم يسوس حيوات البشر، مرتبطا بمصالح اقتصادية، وجدنا أنفسنا إزاء ثلاثية مترابطة، مؤثرة وفاعلة فى المراحل التاريخية التى مرت بها الحضارة العربية الإسلامية؛ فالدارس لهذه الحضارة يلحظ ازدهارها فى اللحظات التى كان يقترن الحكم الذى يرفع شعار العدل بواسطة حاكم قوى عقلانى ومنفتح الأفق، ورجل دينى عقلانى الاتجاه ذ ولو نسبيا– يرعى حق الله فى العباد والحكام. وفى المقابل، تنحدر الحضارة الإسلامية، وتستباح الأرض العربية، عندما يجتمع حكام ظلمة وفقهاء فاسدون، يشيعون بين الناس ضرورة طاعة الحاكم وإن جار، وهم فقهاء وسلاطين يزينون لهم الفساد طمعا فى الدنيا، ويؤدلجون العامة بما يبقيهم على الطاعة. وقد كانت الثقافة العربية ذ تاريخيا– تنفتح أو تنغلق حسب غلبة أحد النقيضين، أو تراوح ما بين النقيضين، مرة أقرب إلى هذا القطب، وأخرى أقرب إلى نقيضه.
ورغم ذلك كله ظلت وحدة الثقافة العربية قائمة تاريخيا، تمر بمراحل انفتاح أو انغلاق، ولكنها تظل قائمة على وحدة التنوع والتعدد الذى لا يخلو من صراع بين عناصرها ومكوناتها وتياراتها فى آن. وتظل الصفة الغالبة عليها هى صفة العنصر المهيمن أو التيار الأقوى المدعوم بالمال أو السلطة العسكرية أو التأويل الدينى الغالب على عقول الناس، أو بكل هذه الأشياء مجتمعة. وانظر إلى حال الثقافة العربية اليوم، لن تجدها فى أفضل أحوالها بالقياس إلى ثقافات العالم المتقدم، فهى ثقافة أمة يجمعها تاريخ مشترك ولغة واحدة وأرض متصلة وثروات هائلة، ومع ذلك فهى أمة منقسمة، يغلب على وعيها الجمعى أكثر التأويلات الدينية انغلاقا ومعاداة للتقدم، وتسيطر عليها أنظمة حكم تميل إلى الاستبداد، ويتكاثر فى مؤسساتها الدينية فقهاء سلطان، يشيعون أن طاعته من طاعة الله ورسوله، أمة تعانى من أعلى نسب الأمية والفقر والمرض، رغم أنها أغنى الأمم ثراء، ولذلك تعكس ثقافتها صفات أوضاعها السياسية والاجتماعية، فتختنق الحريات الفكرية والسياسية، وتشيع الخرافات بين العامة، وتتناثر فى جنباتها جماعات التطرف الدينى والإرهاب، المعادون للفنون وحق الاختلاف. ولذلك هناك حرب فى اليمن، وحرب فى ليبيا، وحرب فى مصر، وحرب فى سوريا، ومع ذلك فثقافة هذه الأمة المغلوبة على أمرها ثقافة واحدة، لكن يغلب عليها أشد التيارات الدينية تقليدا، ويهيمن عليها أكثر الحكام استبدادا، وتنتشر فيها أعلى درجات الأمية والفقر والمرض رغم الثروات النفطية الهائلة فى عدد من أقطارها. ولن تنفتح هذه الثقافة على المستقبل الواعد إلا باحترام تنوعها وتحرير عقول أبنائها وإشاعة الإسلام العقلانى بين ربوعها، وتحقيق حلم الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية الحديثة فى أبنيتها السياسية، وفوق ذلك فتح أبواب الاجتهاد الدينى والفكرى إلى أبعد حد، فى كل أقطارها بلا استثناء، وأخيرا الفصل التام بين الدين (كعلاقة بين الفرد وربه) والمؤسسات السياسية التى تهدف إلى تحقيق العدل والحرية والمساواة والاستقلال الذاتى للمواطن والوطن فى آن.
جابر عصفور
صحيفة الأهرام المصرية